الاثنين، 18 نوفمبر 2024

فصل من رواية عطية الشمس

 (عطية الشمس)

 رواية

صفاء عبد المنعم

-----------------------

 

إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح

------------------------------------------------

 

(إذا صدقنا الفيثاغوريين فسيجئ يوم نجتمع ثانية في هذا المكان فتجلسون كما أنتم لتسمعوا إلي وأتحدث أنا إليكم كما أفعل الآن.)

                                                                       "أودبومس"

 –--------------------------------------

 

 

 

 

أم الرزق

 

 

زي اليومين دول في الشتا، كات حماتي قعدة على فرشة الصلاة، بتسبح بين المغرب وبين العشا، وسمعتها بتنده عليا بشويش، وبصوت واطي: أنتي يا بت قومي قيدي اللمبة نمرة عشرة، لحسن الدنيا ليلِة، والمغرب غَريب، يا بت قومي.

كل ده وأنا قعدة على عتبة البيت سرحانه، وعماله أفكر، وعينيا عماله تسح دموع، وهات يا عياط، بعد شوية ندهت تاني: أنتي يا بنتي يا حبيتي قومي من بين لعتاب، لحسن مش كويس عليكي، ولا على اللي ف بطنك. هو كل النده ده ومش سمعاني.

وأنا بردو قعدة مكاني عند الباب الكبير بين العتبتين، وعماله أقول في نفسي: والنبي يا رب، يا رازق الطير ف السما، ورازق الدود ف بطن الحجر، أرزقني بحتة عيل ويكون واد، وإنشالله يطلع عبيط.

عشان الناس ما تقولش أم البنات ورثت بناتها العار، وبناتها ما بتخلفش غير بنات زيها، والنبي يا رب يا قادر على كل شئ يا كريم.

وسمعت صوت حماتي تاني وهى عماله تنادي عليا بصوت واطي، عشان حمايا اللى نايم على الكنبة اللي جنبها ف الصالة ما يسمعش صوتها ويصحى، ويدردك الدنيا على راسنا.

- يا بنتي يا حبيبتي، قالو ف الأمثال خدو من قوتكم وقيدو بيوتكم، والمغرب أدن من بدري، والدنيا ليلِة، وقعدة لعتاب مش حلوة عليكي يا أمي، ما تخليش أخت جوزك تأزيكي، قومي يا قلبي زمان الملايكة محوطاكي، وأنتي ف شهرك السابع.

ولما حماتي مالقيتش مني فايدة، ومش برد عليها، راحت هى قايمة واقفة، وجابت اللمبة الجاز نمرة عشرة من على المسمار، وقعدت تقيدها، ووصلت المطبخ، وفضلت تحسس بأديها وتتسند على الحيطان لحد لما جابت الكبريت، وراحت قايدة اللمبة الجاز ومعلقها على المسمار ف الصالة، ورجعت قعدت على فرشتها، ورجعت تنادي عليا من تاني.

- هو أنتي يا بنت الرفضي مش عايزة تقومي من مكانك من بين لعتاب ليه؟ وقعدة تبكي وتنوحي، زي الندابة، إلهي يندبو عليكي يا شيخة.

وقامت حدفاني بفردة القبقاب الكبير، راح جاي في جنبي، قمت صرخت غصب عني وقلت: أي.. أي يا جنبي. بصوت عالي. قام حمايا صحي من نومه، وسمعني وأنا باصرخ، وراح نازل فيها ضرب وتلطيش.

قمت أجري عشان أحوشه عنها، راح القرن طاشش مني، قعدت أصرخ: ألحقيني يا أمه أنا بولد، ألحقني يا با. قام جري وراح شايلني هيلا بيلا وحطني فوق السرير. وهى فضلت تنادي على بنت الجيران اللى قصدنا عشان تنادي على الداية، شوية ولقيت اللى راح نازل مني ووقع على الأرض، وقعدت أصرخ، وحماتي تصرخ وتنادي على بنت الجيران، كل ده وأنا مش قادرة أعمل حاجة، وحتة اللحمة وقعت مني غصب عني على الأرض من فوق السرير الحديد أبو عمدان.

ودخلت حماتي، وراحت واخده حتة اللحمة وحطتها ف حجرها. وجري حمايا وراح ينادي على الداية من بيتها. وسمعت صوت آدان العشا جاي من بعيد، من الجامع اللى هناك عند الوسعاية، فضلت أدعي  وأقول: يا رب والنبي ترزقني بحتة عيل، وإنشالله يكون عبيط.

وكإن ربنا كان قاعد فوق راسي وفاتح باب السما وعلى ما صدق.

وفضلت حماتي تقولي: أدعي يا بت لجوزك ربنا يوسع رزقه ويرزقه برزق المولود الجديد، أدعي يا حبيبتي وأنتي بين أيادي الملايكه، ودعوتك مستجابة.

شوية ودخل حمايا ومعاه الداية. راحت ما سكه العيل من حجر حماتي، وراحت قاطعت الخلاص، ورابطت له سرته، وراحت لفاه ومنيماه جنبي على السرير. ولما حمايا سألها: إيه يا حاجة ولد ولا بنت؟ قالت له وهى بتغسل أيديها بالمياة والصابون: خير يا حاج خير. ولد وإن شاء لله يتربى ف عزكو بس باين عليه ضعيف، عشان أبن سبعة، هات لي كيس قطن كبير يا حج من الأجزخانة لما ألف فيه العيل، عشان يمسكه وأمه تعرف ترضعه، وبعدين راحت بصت ناحية حماتي وقالت لها: جرى إيه يا حاجه فين يا حبيبتي الفرخة العتقية اللي الوالدة هتحطها مكان العيل عشان ترم عضمها؟

قامت حماتي من مكانها وقالت لها: عيني حالا، أصل مكناش عاملين حسابنا، هى ولدت على فجأة.

قالت لها: خلاص يا حاجه هاتي لها بيضتين تلاتة مسلوقين وحطيهم ف معلقة سمنة بلدي كبيرة.

قامت حماتي تجهز الأكل. راحت الداية قالت لها بصوت عالي: والحلبة يا حاجة أوعى تنسي الحلبة بالسمنة البلدي.

وبعدين بصت لي وقالت: يا حبيبتي يا بنتي تولدي فى الشهر السابع وكمان عيل ناقص. ثم أقتربت مني في همس، وهمست لي فى ودني: الحتة اللحمة اللي نزلت باين فيها شئ لله، نازل بيضحك الله أكبر.

 ملت عليها براسي الضعيف المتعب: طمنيني يا خالة، والنبي ولد ولا بنت؟

همست فى ودني وهى بتميل علي بجسمها وتكبس لي ضهري: والله يا بنتي ما حققت قوي، أصل نظري بقى بعافية شوية، بس مش باين له ملامح، ولد ولا بنت أكدب عليكي، الله أعلم، على العموم هو ضعيف، وعنده رجل قصيرة عن رجل، والصباح رباح، والصبح بدري هعدي عليكي قبل ما أروح أطاهر بنتين فى الشارع اللي وراكم، بنات  أم فيفي الخياطة. ملت عليها براسي وهمست لها بضعف شديد: ربنا يقويكي، بس وحياة مقام النبي اللي زرتيه وملستي على شباكه لو طلع بنت أوعي تقولي لحد، قولي ولد وبعدين يحلها المولى.

ثم خرجت من الحجرة وتركتني، وبعدها نمت نوم عميق، ولا أعرفش أمتى خرجت وتركت البيت، ولكن عرفت لما جت فى اليوم التاني أن حماتي قامت أدتها بريزة كاملة، وحتة قماشة حرير أطلس، وأدها حمايا نص ريال وكيلو سكر من ورا ضهر حماتي.

ولما جت وقعدت جنبي ع السرير، حكت لي كل اللي حصل إمبارح. وسندت راسي، وأخدت بأيدي وأتعدلت في فرشتي، وهى تكلمني بهمس عشان محدش يسمعها وقالت لي: أنا هاروح طيارة عند أم فيفي أطاهر البنتين وأرجع لك بسرعه، يكون اللي في البيت صحيو. هزيت راسي فى صمت وما علقتش كتير على اللي قالته إمبارح وكلامها أن الواد فيه شئ لله وأن عنده رجل ورجل، كنت حاسة أن الدنيا عماله تشيل فيا وتحط، والأوضة بتلف بيا وتدور.

حطيت راسي على المخدة، ورحت تاني فى النوم، بس كنت حاسه إن عرقي مرقي، وسمعت صوت من بعيد بينادي عليا، كأنه صوت أمي، أبويا، صوت عرفاه، وعارفة صاحبه، بس مش قادرة أميز هو مين؟ ورحت فى دنيا غير الدنيا، وأنا عماله أخطرف وأنادي عليهم، فين وفين، سمعت صوت حماتي وهى بتحط أيدها على راسي وبتصرخ وبتنادي على جارتنا أم مريم. دخلت بسرعة ولهفة، وحطت أيدها على راسي، وقالت: بسم الصليب، يا لهوي يا خالتي دي سخنة نار حامية.

كنت سامعه كلامهم طشاش كأنه جاي من بعيد، بعيد قوي، ولسه الصوت فى وداني بينادي ومش قادرة أعرف صوت مين بالظبط، وما دريت بروحي إلا وحماتي بتدلق علي مياة بملح، والمياة عماله تطش فى وداني، ولا طشة الملوخية، وفين وفين، فضلت تدعك في راسي وأيديا ورجليا على ما فوقت، وفتحت عينيا، بصيت لقيت حماتي قعدة جنبي على السرير بتعيط  وترقيني، وأم مريم عماله تحط على راسي كمدات مياة ساقعة من القلة. وأول ما فتحت عينيا. شهقت وقالت: باسم الصليب عليكي يا خايتي، العدرا على راسك.

وراحت جايبه سجادة الكنبه وحطاها على جسمي، وأنا برتعش من البرد وأزفزف من السقعة تحت الغطا، وسناني عماله تخبط فى بعض.

فين وفين على آدان الضهر، بصيت لقيت الداية داخلة عليا وهى بتضحك وتبسمل: اسم الله عليكي يا حبيبتي، مالك يا ضنايا.

------------------------------------------------------------------------------  

الجمعة، 15 مارس 2024

رسائل مجدي الجابري

 

صافي / حبيبتي

 

بالأمس "كانت" تنتابني مشاعر الخوف على طاقتنا .. أن تنطفىء .. هل نغامر إذا أصررنا على الحفاظ على داخلنا .. و ضحينا ببعض من الخارج؟ ..

و لماذا هى مغامرة؟ و ماهو الشىء الحقيقي الذي لا يعتبر مغامرة؟

و جودنا البيولوجي مغامرة .. و موتنا مغامرة .. و مابينهما مغامرات صغيرة بين المغامرتين الكبيرتين .. و لكن هنالك شىء واحد ليس بمغامرة بين الحياة و الموت إذا عرفناه على حقيقته .. ألا و هو الحب!

فإذا كنا نعرف نفسينا كاملاً و نثق أننا لا يمكن أن يكون كل منا بمفرده أو دون الآخر .. حقيقياً و كاملاً .. فما خارجنا لا يعتبر أهماله أو التضحية بجزء منه مغامرة.

المغامرة هو أن نقرر الأرتباط و هنالك شىء ما بيننا لم نحسه و نعرفه و نثق فيه ثقة لا يصل إليها الشك .. هل نحن هكذا؟؟

أخاف أن يكون هنالك شىء ما لم تعرفينه فىّ .. و خائفة منه .. أن كان .. فأنا أحبك و أظل فارداً حبي عليكِ و معريا داخلي كي تدخلينه في وضح المشاعر و تقضين عليه .. فأنا لا أحب أن يكون هنالك أحتمال صخرة فى سبيل الوصول إلى الشط الأوحد و النجمة الوحيدة التي ليست نهائية و ثابتة .. بل دائمة التحرك و الأتساع و التوهج الذي لم يغير فى جوهرها بل يعمقه.

صافي ..

أخاف أن تحمّلي الداخل على الخارج .. فيسقط الداخل بسقوط الخارج .. فالداخل و الخارج ليسَ متلاصقين تلاصق الشىء و نقيضه .. بل هما متجادلان و ليسَ متقابلان .. متصارعان صراعا لابد لنا فيه من أن ينتصر الداخل .. و لكن لن يموت الخارج .. بل يعاد صياغته وفقا لما يريده الداخل .. أي وفقا لما نريد .. و هكذا فيه الجدل بينهما مرة أخرى ..الخ

لينتصر الشط و النجمة على كل ما هو وقتي و ثابت.

دقرمتي الجميلة : أحبك .. فلا تقذفيني بحجارة الواقع .. و أن كانت لن تستطيع تحطيمي بعد أكتسابي قوة من ألتصاقنا و تراشقنا .. و لكن حجارة الخارج قد يسقط حجر منها فوق طاقة ما بداخلنا فيكتمها و يمنع من التنفس و الحياة أحد مستواياتها. ..

فنحس مستقبلاً أن شيئا ما ناقص .. و أن ثمة حزن ما على فقد شىء كان يمكن أن لا يفقد إذا كنا أكثر ألتصاقا .. و أقل تسليماً للواقع .. و أقوى ثقة في حبنا الذي أؤمن حق الأيمان أنه عقيدتي الوحيدة التي أرى و أحس فيها الأله و الشعائر و الطقوس و الأخلاص و التوحد الصوفي .. و المناجاة .. و أمل الخلود

فلتسلمي يا حبيبتي من كل نقص .. و لتحبيني أكثر.

مجدي الجابري

1990

--------------------------------------

رسائل مجدي الجابري

 

صافي حبيبتي ..

 

و حشتيني .. يمكن و حشتك؟ لكن مش قادر أفكر أو أركز في أي حاجة غيرك .. العالم من غيرك دمه تقيل قوي .. كل الناس و الممارسات و الأشياء بأحس بيها مزيفة و أنها يجب عشان يبقى لها طعم أنها تتحرك بحب و تشوف بحب و تموت بحب .. بأكتشف كل يوم أنه كان ممكن أكون زي أي حد أو أي حاجة مزيف و ماليش طعم .. لو ما حبتكيش و حبتيني ..

صافي

أنتِ صدقيني سبب الطعم و اللون و الريحة اللي باعيش بيها .. و أنتِ اللي بوجودك جوايا خلتيني بأكتشف الفرق الشاسع بينكِ و بين كل حاجة في الدنيا .. صافي أنتِ أجمل و أرق و أوفا ما في الوجود.

 

.. تصوري لما يكون حد بيحب فيبقي عايز  يدي و مش طالب  حاجة قدامها و يكتشف أن العالم بره منطقة حبه .. عايز ياخد و مايديش .. يبقى إيه اللي ناقص .. أنه يحب.. العالم محتاج يحب .. اللي بيحب يا صافي .. يعطى .. لا يريد جزاءً و لا شكوراً فالله يحب بل الله هو الحب .. و لكن لم يعرف عالمنا الحالي .. معنى الحب .. لأنه ليس له معنى فلسفي يمكن الأقتناع به .. و تعلمه .. فهو ممارسة، فضلاً عن أنه محتاج طبيعة من السهل عليها أنها تعرف إيه الحقيقي اللي ناقصها من المزيف .. و عشان كده ما عرفوش الحب .. خاصة أنتِ .. بتدى من غير ما تطلبي .. لأى حاجة و أي حد يكفيكي أنه بتحسي أنكِ مستريحة و أنكِ أتخلقتي عشان تدي .. فما بالك معايا .. أنا اللي حاسس أني لو فضلت طول عمري و الأعمار التي يجوز أن أحل فيها مرات أخرى .. أديكي فمش  ممكن أكون إلا نبع صغير جنب نبع العطاء الكبير .. صدقيني لو قلت مليون مرة أني ممكن أعمل أي حاجة عشان خاطرك و أديكي كل ما فيا من طاقة عطاء هيبقى قليل عشانكِ ..

صافي.

 أنتِ ما تعرفيش يا حبيبتي أنا بحبكِ قد أيه؟ أنتِ عارفه أنا نفسي دلوقتى أعمل إيه أن صورتينك اللي قدامي يتم التجسيد فيهم .. عارفة كنت خدتك في حضني و ضميتك لصدري قوي .. علىّ أستطيع أن أهبكِ ما لا يمكن أن أهبه لغيركِ .. و من غيركِ تستحق أن أعطيها سر أسرار حياتي ... لا... أتمنى الآن أن نغيب سوياً في قبلةٍ أو في حضنِ حتى نتلاشى كي نوجد مرة أخرى في كيان آخر يحملنا.

صافي

باحبك قوي و لا أقصد المعنى المباشر لما أكتب .. إن هناك منطقة ما أكثر غموضاً من أن تحملها اللغة هى الشعور الحارق و الأحساس الدائم في كل لحظات عمري منذ حبنا المقدس و تقريرة .. الأحساس بأنكِ داخلي في كل خلية مني .. و في كل نفس و في كل نفس الوقت كيانكِ يحسسني بأني لم أفعل من أجل حبنا شيئاً رغم أنه مازال في داخلي الكثير أهبه لكِ حقاً و ليس منحة.

 

 

مجدي الجابري

1988

 

************************* 

 

رسائل مجدي الجابري

 

صفاء

 

 

كتعويذة أو رقية لفك طلّسم غامض. أبدأ أنا الوثني باسمك .. الذي يحويكي صفاءًا داخل حروفه النارية الأربعة كي يفعل فعله السحري و يفتح الأبواب الامرئية لمعبد غامض ..داخله شابة في عينيها بريق لا عمر له .. أزلي .. تجلس في مدخل ساحة من ماء مشتعل محيطة بين رجليها المفتوحتين قليلاً أتونا فوقه مرجل عظيم يغلي شىء ما بداخله .. لا أدرى مابه و لكنها تقلبه بين آن و آخر بقضيب معدني له مقبض خشبي تحتويه بين أصابع كفها .. المقبض على شكل رأس آدمي يشبهني إلى درجة لا يقاربها إلا تشابه الرائحة المتصاعدة من المرجل مع رائحة البطاطا و هى تشوى في الفرن المعدني المقام على عربة خشبية يقودها آدمي .. و أنا أنظر لها و هى خارجة بعد الشي نظرة تشبه نظرة الوجه الآدمي المنحوت على المقبض الخشبي لقضيب المرجل .. هذه النظرة الخشبية الثابتة لآدمي رأى رؤي العين مايحدث داخل المرجل و عرف ما يحتويه و عرف ميكانيزم الفعل .. فتحجر أو تخشبه على هذه الصورة التي تقوم دليلاً على أنه قد رأى و عرف ما كان يجب أن لايعرفه ..!

هل تخطى حدود المعرفة و غاص في عمق الخلق؟؟

أنها النار

 ..

سر اإنضاج صلصالنا الغفل أو أحتراقه!

الطبيعة رحم كبير.

أو بتعبير أدق ..

مرجل فوق أتون يغلي.

أذكر و أنا أحتوى بين كفي جدر البطاطا الناضج جيداً و بخاره يمر بين أنفي ليتخللني ..

أن برومثيوس أول كائن حي أحس بالنار في داخله و أذكر أنها عند مرورها في داخل صلصاله الغفل تحرك صوب أمساكها عن الآلهه و تقديمها للبشر أجمعين متحدياً في ذلك رغبة كتم سر النار المقدسة للآلهه ..

راغباً أن يكشف هو سر ألوهية الأنسان الذي لو وقف عليه لما صار للآلهة معنى .. و على هذا أوقف عمره على كشف سّرها.

و كأننا .. بل أننا بالفعل أول كائنين تشكلا و قذف بهما بقوة يد رحيمة .. داخل الهيولي و في قلبه .. تشكلنا منا و منه .. فأحس أنني كما لو كنت بناءًا مواده منكِ و من الواقع (الهيولي) و أن اليد الرحيمة قد أعادت صهر كل هذي المكونات و مارست إعادة ترتيبي و تكويني في نفس اللحظة التي أعتقد بل أجزم أنها فعلت هذا معكِ .. ثم قذفتنا .. داخلها بلا عون و لا نصير إلا ما ركب و غرس فينا.

 ..

إننا نهبط مكتملين من فوق قمة هيوليه و نتحسس تفاصيله لنخلقه و نحن داخلان فيه.

كي ننقله إلينا ليتحد بنا بشكل أكثر إنسانية عن ذي قبل .. فمازال هذا الهيولي لا أنساني و مازلنا نحاول أنسنته و ترويضه لنخلقه خلقاً حسنا و نهبه من ذاتينا التي هى في مركزيهما الأوحد .. ذات واحدة ..

قلت لنهبه عمقاً و شموليه و حنواً و فرحاً لم يتعود عليها و لم يكن لولانا .. مستعداً لقبولها ..

..،

يبدو أن الهيولي / الواقع .. كان صادم لي و أنا(مفرد) لم استطع قبوله و لم استطع صنع المعادلة التي تحميني فيه و تحميه فىّ .. تلك المعادلة الأنسانية القاسية التي لم يقو عقلي الغبي على خلقها هى سبب ما تركبّ داخلي من مجموعة من المشاعر المتشابكة و المعقدة تعقيداً خارقاً لدرجة يصعب معها أن أحس أحساساً واحدا دون أن يطل أحساس آخر أو أكثر .. برأسه ليقف حائلاً دون الأستمتاع بهذا الأحساس و لو حتى اأحساس اليأس .. فلم أعرفه مفرداً .. فقد يطفو على سطح مشاعري أحساسان متناقضان في نفس اللحظة التي لم أكن مهيأ لها .. و لم يكن عقلي قادراً على تحليلهما و توصيفهما ثم تسميتهما و بالتالي تحل المشكلة.

 ..

 

قبلك .. لم أكن استطيع أن أوصف أي من الأحاسيس!

أو أسميها بأسمائها التي تُعرف بها فيما بعد ..

 

لم أكن أعرف ماهو أحساس الفرح، و ما هو أحساس القهر، و لا أحساس الغربة، و لا أحساس الأنتماء، و لا.. و لا..

و لكنها كانت تأخذ من "صنعي" أسماء تجريدية خائنة بدرجة ما لأنها لا تأتيني بمفردها كما سبق أن قلت؟ ..

و عندما و جدنا كائنين جديدين .. و كنا.

تغير الوضع بل و اسمي بدقة متناهية أحساسى نحوك .. أنه  "الحب" أو فلأكن أكثر صدقا أنه "العشق" الذي لا يعرف التقسيم بين الديونيزية و بين الأفلاطونية .. أنهما كليمها دون أنفصال و دون أرتقاء و تدنى .. أنه اللحمة أو لنقل المركز المنتشر فيمها و المنتشرين فيه و الذي لا يتحقق هو دونهما .. و لا يتحققان دونه .. هذا ما أحس به و ما أفهمه و لأول مرة في حياتي يتطابق حسي مع تسمية له عند هذه الدرجة من التطابق التي تجعلني يصعب علىّ أن أقرر أيهما كان أسبق "الحس أم التصور" .. و لكن هذا ما كان و ما هو كائن و ما سوف يكون ..

وع لى هذا ..

عندما أحاول أن أحقق كينونتي التي لم تكن قبلك .. إلا مجتزئة .. أو لنقل قديمة و غير حقيقية يفاجئني أشياء أقولها بصدق كي تعرفينها فهذا من حقك علىّ و من حقي عليك ..

فيها ..

ثمة مجموعة من الأحاسيس التي كانت سابقاً متشابكة و غير معروفة أو غير قابلة للتسمية تطل متشابكة مع اأحساسى الحقيقي و الجديد .. تطل لا لتلغيه فهذا ما لا أحس به حقيقة .. و لكن لتمارس ضغطاً ما على لغة تعبيري أو ممارسة لحبك فيخرج السلوك أو اللغة مقتضبة أو مبتسرة أو باردة .. فأحس بعدها بخيانة تفعلها اللغة معي ( كلام - حركة – أشارة..الخ ) فأشتعل من الداخل و أود أن أتركك و أمضي خوفاً من تشويه حبي لكي أو تأويله لديكي إلى أشياء لا تمت بصلة لما أكنه و أشتعل به كأن يوصف هذا من قبلكِ بالخجل أو بالطفولة أو عدم الخبرة أو .. أو ..الخ، و بالتالي فأنني أقتل و أحيا معكِ في نفس اللحظة ملايين المرات .. ليس مبالغة بل حقيقة و خاصة في حالات الصمت التي تنتابني و التى دائماً أحاول مصراً على أن لا تؤولي صمتي على أنه تفكير .. لأن مجرد تصور أن صمتي تفكير .. يقتلني .. و يجعلنى ألعن ألف مرة هذا

(الهيول / الواقع) الذي هو مصدر ما أحس به من عدم كوني إنسانا سوياً كآلاف البشر الذين يحسون بأحاسيس بسيطة و عميقة و غير متشابكة فيجدون لغة ذلك طوع أشارتهم.

 ..

ثقي .. أن أردتي ..

أنكِ أجمل من قابلت، و أنكِ كائني الأسمى من كل كوائن هذه الحياة المبتذلة  التي نحياها منفصلين ..

لا أتصور شكلاً لهذا الكيان الذي أنتِ فيه مركزاً و أطرافاً .. جمرة و سلاماً أرضا و سماءًا .. لا أتصور له شكلاً و لا مضمونا بعيد عن أنفاسكِ و التي أصبح صدري لا يتسع إلا لها أو لا .. فلن يسمح لشىء يدخله إلا أنفاسكِ كي تكون مصدر دفئه و لهيبه و إنسانيته .. ثم ليدخل من و ما يشاء لنا دخوله بعد ذلك.

 

أُحبكِ .. ليس فراشات تحترق .. لأننا لسنا قرابين لشىء .. و أني أحبك كونا يتخلق .. نطفة تحوي الأرض و السماء .. و لا يحويها لا أرض و لا سماء .. لا يحويها إلآنا .. أول المبعوثين من رماد الأزمنة ..

..،

صفاء ..

لكِ أنا فأفعلي ما تشائين .. إلا أن تتصوريني في شكل و مضمون غير هذا الذي حاولت فضّه و المصر على أن لا تكونين إلا أنتِ التي أحسّها و ساهمت في صنع كينونته الآنية و الدائمة ..

..،

ليس للدمع متسع غير القلب ..

و ليس لصدري متسع "إلآك" يا صفائي الدائم .. و لنكن .. أو فلنكن ..

 

 

مجدي الجابري

  1988

الجمعة، 1 مارس 2024

]دراسة عن الكاتبة سحر توفيق ، ملتقى الشارقة الثقافي بالقاهرة 2024

 

بين اليقين والايقين

--------------------

صفاء عبد المنعم

 

كتابة سحر توفيق بين اليقين والايقين.

-----------------------------------

 - وإذا ترحل، وتذبل الزهرة النادرة ..

.. فمن سيفصح عن معاني الكلمات؟

وإذا أغلقت الكلمات أبوابها..

.. فمن يبوح لي بأسرار الحروف؟ -

---------------------------------------------------------------------------------------------------

مقدمة :

اليقين / هو العلم التام الذي ليس فيه أدنى شك. (أبن سعدي)

         وهو ظهور الشئ للقلب بحيث يصير نسبته إليه كنسبة المرئي إلى العين فلا يبقى معه شك ولا ريب.

اللايقين / هو قلة التنبؤ واحتمالات المفاجأة والشعور بالوعي وفهم القضايا والأحداث.

            وهو التقلب وعدم اليقين والتعقيد والغموض.

------

الزمن يمر

- أقف أنتظر الحافلة، أراها تأتي من أعلى الطريق، أتعرف على ارقامها، تتحرك أقدامي فى مكانها بصبر نافد، وأخيراً تقف امامي، اطلع إليها، أقف أو أجلس. تقطع الطريق، .

أرقب البيوت والشخوص وإعلانات الشوارع ولافتات المتاجر، وأسمع الضجيج، والحافلة تقطع ، ارقب كل ما يعبرنا بصبر نافد.

وبعد سنوات أنظر فى المرآه، فأراني قد تغيرت. – (سحر توفيق) الهرم 1994 .

----

من خلال هذا المقطع الصغير الذي صدرت به الكاتبة مجموعة بيت العانس سوف نلاحظ أنها تاخذ موقف(المتفرج)، وهى تتأمل مرور الزمن، وتتأمل ما حولها (أرقب البيوت والشخوص...) ثم تكتشف مرور الزمن سريعا (فأراني قدتغيرت) التغير هنا ليس تغير فى موقف المتفرج ولكنه تغير فى شكل الشخصية الخارجي.

------

 

مدخل : ماذا تفعل بنا الدنيا؟

(قل هذا لمن لا يعرفك، ودعك من هذه التمثيلية السخيفة،أنتَ متعب فقط، لأنك لم تستحم منذ مدة، منذ متى لم تضع المرأة الماء على جسدك، ولم تدهنه لكَ بالطيب، ولم تدلك بدنك بيديا؟ هل أقنعتكَ بأنك عجوز خرف لا تصلح.)

هذا المدخل كتب فى نهاية مجموعة(بيت العانس) وفضلن أن يكون مدخلا لقراءة النصوص.

تمتاز كتابة سحر توفيق بهذا التساؤل المهم(من نحن كبشر، وماذا نفعل فى هذه الدنيا؟

ولماذا وجدنا ؟ هل لنا دور فى هذه الحياة؟

نلاحظ وجود النص بين الريبة والشك.

النصوص تقع بين الأغتراب والعبث وخاصة فى مجموعتي( أن تنحدر الشمس، وبيت العانس) ووجود الريبة والشك والأسئلة غير بريئة.

-----

 قصة (كافورتان)

(عندما تحاببنا، خرجنا من المدينة المزدحمة، وعند القناة الصغيرة فى المكان البعيد، بنينا جدراناً أربعة.

كان ذلك فى الزمن البعيد، عندما كانت الأشجار أعلى قامة من الديار، وقبل أن تعلو المباني وتسدُ عين الشمس، وقبل أن تتقزم الأشجار وتصبح غريبة فى الطرقات).هكذا في البداية كانت الأشجار هى العملاقة والناس والبيوت أقزام أمامها، فهنا الكاتبة ترصد حالة البدايات اليقينية للمكان، ولكن ماذا حدث بعد ذلك عندما أمتلأ الشارع بالسكان المختلفين عن سكان البدايات؟  

(لكن المكان ضاق حولنا يوماً بعد يوم، وسكنه الناس، ونمت على جانبي الطريق مبان، ظلت تعلو وترتفع حتى أصبحت ذات ظلال كثيفة، أكثف من ظلال الشجر.) هنا اليقين الشجر تحول مع مرور الأيام وزيادة الناس إلى اللايقين لماذا؟

لأنه سوف يتحول(عبث) السكان بقطع الشجرتين بطريقة غير إنسانية لمجرد أن أصوات الطيور تزعجهم، وتتساقط أورق الشجرتين على الأرض يضايقهم (كانت الشجرتان تلقيان بالأوراق الذابلة، ولم تكن الرياح قوية بما يكفي لتذروها بسرعة، قال الساكنون : هاتان الشجرتان كثرت بقاياها).

( شجرتا كافور عند مدخل البيت صغيرتان مثلما كنا) تزامن عمر الطفلين مع الشجرتين، رأيتهما صغيرتان قصيرتان. وجود الشجرتان والطفلان (يقين واقعي). تحكي عن تاريخ المنطقة عندما كانا صغيرين (اللايقين) لأن الأشجار لا تحكي ولا تتكلم، ولكن الأنسان هو الذي يضيف ويضع الكلام على لسان الجماد كأستشهاد لوجود حياة كانت هنا منذ البداية، فيصبح الشجرتان شاهدتان على تاريخ المنطقة، وتاريخ الطفلين الصغيرين. ولم يعد دورها فى الحياة هو الظل فقط، ولكن الكروان توارث الشجرتين جيل بعد جيل(كأن الشجرة حافظة للأسرار) هنا الحنو والجمال.

(خرجنا نقطعهما بأيدينا، ونوسدها جانب الطريق، حتى نقطع منها، يوما بعد يوم، خشباً لجلب الفء في الشتاءات الباردة) هذا ما فعله الإنسان فى الدنيا وما يفعله مع الطبية من تشوية وبتر، قطع الجمال والخضرة، حتى الكروان فقد (كان الأولاد يلعبون ويقذفون بالحجارة ويعبثون بلحاء الشجرتين، حتى أصبحنا فوجدنا إحداهما قد فقدت لحاءها كله لمسافة متر من الأرض، تلك أمضت أسابيع طويلة تعاني يوما بعد يوم. هنا الإنسان لا يستطيع أن يشعر بمعناة الأشجار وكيف هى تتألم بفقد لحاءها الذي هو بمثابة الجلد لها كحماية من الجو.

( جربنا أن نخفي الجذ لعاري بطرق عديدة، ولم ينجح علاجنا في جعلها تعيش، تناقصت أوراقها، واثمرت بذوراً كثيرة ملأت الأرض حولها بالأوراق الذابلة المتساقطة) وهنا أشارة إلى مرور الزمن وقرب موتها بالقطع كما فعلا بشكل واقعي ( ولم يبق فى شارعنا إلا بقايا البيوت القذرة تتصاعد روائحها، وتعلو طوابقها، حتى تصبح أكبر من كل الأشجار، ولا تزروها الريح).الكاتبة تتحسر على الزمن الجميل الذي مر بسرعة وتحول اليقين الحقيقي الجميل أيام الكافورتان والكروان، إلى واقع لا يقين ليس له معنى وخالي من الجمال أيضا.

-----

فى قصة (ثلاث أوزات وفرخ وحيد)

(أحيانا، من مكمن لا نتوقعه، يخرج لنا عفريت نعرفه، وإن لم نحتفظ به فى أذهاننا فى لحظات اللامبالاة التى تمر بنا كثيراً) هذا النص تحديداً يظهر اللايقين منذ السطر الأول فى النص فى ثلاث كلمات(لا نتوقعه، عفريت، اللامبالاة) هذا نص بديع نرى من خلاله تغير المجتمع والناس والزمن.

ونتعرف على التحول الخطير فى المجتمع منذ بداية السبيعينيات.

( وقف ثلاث فتيات يرتدين العباءات السوداء الرخيصة الثمن المستوردة من بلاد البترول، التى تستوردها بدورها من بلدان الشرق الأقصى، التى نمت أسرع من بلداننا) فى هذا المقطع يظهر اليقين فى (ثلاث فتيات) هنا ظهور الفتايات ووجودهن شئ واقعي وملموس ومدرك عكس المقطع السابق الذى كانت تتوقعه.

رغم الزي الغريب تقول الراوية / الكاتبة : أن تاريخ اللبس لا تتغير الحركة مهما تغير الزي، ستظل حركة حبكة الزي على الجسد مثل الملاية اللف، العباية ( رغم الزي الغريب فقد كانت كل منهن تمسك بجانب ثوبها وتلمه إلي صدرها مثلما كانت تفعل مع الملاءة اللف فى الغالب أسلافهن منذ أجيال قليلة رؤسهن حاسرة لم تكن تلك العباءات لتغطيها أصلآ) ولكن فى لحظة (عبث) تم تحويل العبث الوجودي ( فأنا اظن أن الأنتماء إلى احياء معينة نعيش فيها لفترة طويلة يكسبنا طابعاً أقرب غلى التماثل او التشابه فى الطباع وربما الأخلاق إلى حد ما) هنا الكاتبة شبهت النساء بالجواري فى العصورالسابقة ثم تشابههن فى التماثل من الملبس إلى الحركات والكلمات، فقررت أن تركب الاسم حسب تصرف الشخصية فقررت أن تطلق على النساء اسماء (سنيه، نبوية، هنيه ) – أنها اسماء متوازنة، لتدل على ما بينهن من علاقة أحاول فهمها - هنا الكاتبة أضافت اسم كل واحدة منهن حسب تصرفاتها وطريقة تفكيرها فهى تريد أن تحول اللايقين إلى يقين، وتسمي الولد(عبود) على اسم موقف شهير فى القاهرة (موقف عبود) يقول عبود ضاحكاً : أنا ساقع يا بت؟ دانا سُخن قوي!!

سوف تقوم نبوية بتهديد سنية وهنية بما يحدث مع صبي الموقف ( والله لاقول للمعلمة على المياعة دي كلها، تعالى يا واد أنتَ هنا ) وسوف تقوم بجذب يد الولد الصغير حوده ليجلس غلى جوارها في سكون وهدوء.

المَعَلمة الغائبة لا توجد كياقين واضح وممكن رؤيته ولكنها توجد من خلال تهيد كل واحدة منهن للآخرى

(والنبي قول للمعلمة) حتى السائق سوف يقوم بتهديد البنات بدوره ويقول( والله هقول للمعلمة)

المعلمة (الغائبة) لا يقين لأن لا وجود لها، ربما تكون هى قواده أو معلمة قهوة، فنحن لا نعرف ما هو دور الملعمة فى النص، وما السلطة التى تملكها كى يتم تهديد البنات لبعضهن البعض بها، وتدخل السائق فى الحوار واستخدام أداة القوة الاموجودة (المعلمة) فى الضغط على النساء أيضا( والله العظيم أن ما انتهيتوا لاكون انا اللي قايل للمعلمة.) العجيب فى هذا المشهد أن الولد الصغير هو ابن سنيه ثم تمرد على امه وأرتمى فى حضن هنية، وهو يتصرف كأنه دلوعة النساء، المؤكد أن هذا الصبي (حوده) ملكية عامة لهن جميعا، رغم انه أبن واحدة فقط.

----

قصة (السنترال الآلي)

(وقف أمام تمثال رمسيس النائم هناك، وقدماه مبتورتان، وعند باب المتحف تقف نفرتاري، صغيرة، بديعة تتفجر بالحيوية، عيناها أحلى من عيني بائعة الفجل التى أغرم بها في شبابه، شفتاها تنمان عن المكر، رغبة فى البراءة، ولكن هيهات) في هذا المقطع المبدئي من النص هو بوابة ثرية لمعرفة ما تريد الكاتبة أن تغوث فى اليقين واللايقين عبر الزمن البعيد، الذى قد يبعد عنا ألاف السنين، اليقين هنا ثمثال رمسيس، ميدان رمسيس، وهو، وبائعة الفجل الغائبة، اللايقين قدميه المبتورتان، المكر، البراءة. عندنا فرج وجرجس وأهل القرية ( كان الوجوم يخيم على القرية منذ بداية السيل، لقد أصيب أهل القرية جميعاً بوجه أو بآخر، صعق الماس الكربي ثلاثة من أبناء القرية قبل أن تنقطع الكهرباء تماماً ويسود الظلام الدامس)هنا تحول اليقين (ثلاثة أبناء) غلى اللايقين حيث أنهم صعقوا بالماس الكهربائي الذى لا يرى.. وهمهم الرجال بحمد غير واضح الكلمات.

----

في قصة (ربابة .. آبا علي)

(ماذا يخفي كل عجوز فى جعبته من سحر يجعلنا نصغي؟ هل هو تلك الوصفة الساحرة المسماة بالخبرة؟ هل وصل هؤلاء العواجيز الساحرين إلي مستوى المعرفة الكاملة؟ لا يمكن أن يكون هذا هو الأمر، فلا يصل أحد أبداً الي هذا الحد المخيف، لكنه ما يحملون من تاريخ وأقاصيص قديمة، التاريخ هذا هو السحر الخاص والخالص.) نلاحظ وجود اليقين في - عجوز، جعبة، الخبرة، المعرفة - ، واللايقين في – سحر، الوصفة، المخيف، اقاصيص قديمة،التاريخ.

اليقين :هو وجود الجد محمد والجد علي، والبستاني وابنه والجوزة والحشيش والدخان.

اللايقين : في حكاية القرموط الذي اصطاده الجد علي وكان ( رأسه عند البيت وذيله مازال في الترعة) ورد الجد محمد عليه (بأنهم في ضرب النحاسين ظلوا يصنعون حلة لمدة ثلاث سنوات لطبخ القرموط الذي قمت بصيده) كل واحد منهما يحاول أن يسيطر بالأسطورة المصنوعة(اللايقين) والتي يحكيها الجد محمد والجد علي فاللايقين واضح واللعب بينهما يحاول كل منهما السيطرة وأن يعلي على خرافة الآخر وأن يحاول أن يجعلها يقين واقعي خاصة عند ذكر حي النحاسين الذين ظلوا لمدة ثلاث سنوات يصنعون حلة نحاس كبيرة لطبخ هذا القرموط الخرافي الذي ليس له وجود.(يقول آبا محمد : طيب، ألا تذكر يوم اصطدت القرموط؟)

(كنتواقفا عند الجسر، وكانت معي سنارة كبيرة عندما شاهدت ذلك القرموط، كان طوله يصل إلى مكان بعيد، لقد مر امامي وظل يمر وأنا مذهول فلم أر ذيله منذ رايت رأسه إلا عند الظهر) يا مهول.

أكان بهذا الطول؟

هل رأى أحدكم مثل هذا؟

(كان طوله ونحن نجره بحيث انه عندما وصلنا إلى بيتنا كان ذيل القرموط لا يزال عند الترعة).

ثم بعد ذلك يظل السجال بين آبا علي وآبا محمد وكل منهما يحاول أن يكشف خرافة وتهويل الاخر فيما قاله، أى ان كل منهما يحاول أثبات اليقين فى كلامه، واللايقين فى كلام الآخر.

ثم يتطرق الحوار إلى سيرة الأجداد ويذكرون الجدة (مقطفة).

وأسطورتها بشكل فنتازي وهى التى قامت بضرب الرجل (رجل الهجانة) بعدما أعتدي عليها فى السوق  وأنتصرت. ( دخلت جدتي مقطفة إلي السوق وكانت تبيع ثمار المشمش التى تأتى بها من شجرتها التى زرعتها بيديها فى حقل أبيها، كانت جدتي هذه من المهابة حتى أن الرجال كانوا يقفون لها ... جاء الهجانة إلي السوق وهى جالسة .. وقف الجندى على رأسها وقال لها : هاتى هذا المشمش يا امرأة . .. المرأة هو انت يا أبن الكلب. .. رفع السوط ونزل به على ظهرها، .. أمسكت ساقه بكلتى يديها وشدته من فوق الجمل فأوقعته أرضا))

أنتصار الجدة على رجل الهجانة الذى أهانها  وضربها بالكرباج، فأصبحت بعد ذلك أسطورة لكل الرجال، وقامت بحبس زوجها داخل الصندوق لأنها عرفت أنه وشى بها عند الحكومة للقبض عليها.

أنتصرت على الرجل (يقين واقعي) أوقعته من فوق الجمل فى السوق.و كذلك أخيها الذي كان يرقبها عن بعد. واليقين أيضاً ضرب الرجل للجدة مقطفة بالكرباج فى السوق.

لكن اللايقين ويحمل صيغة المبالغة هو أنها قامت بجذبه من فوق الجمل وأوقعته على الأرض (تتشبث بقدمه وهو بقوة رجل الهجانة) وفعلت ما لم يفعله الرجال (الأنتصار) وتنتصر لضعف الرجال الذين كانوا يخافون من رجال الهجانة، ثم يدخل الرجال السوق وينتصرون لرجولتهم المنهارة.

-------

قصة (وجه الزمن)

(مبنى المدرسة القديم يلوح لي، الأشجار المتساقطة الأوراق تحيط به، صوت الخطوات تزدحم حولى اسمع صباح الخير من عدة أتجاهات، أصوات مختلفة المعلمون .. مدير شئون العاملين بجهامته المعروفة، أقدم له أول كل شهر ست علب من السجائر، ومع ذلك يتجهم ويضع خطاً أحمر مكان اسمى إذا تأخرت لدقائق قليلة .. أسرع أحد المعلمين اإليه : قلت لك يا أستاذ يحيى أن تهتم بوضع الحصص الاأخيرة فى جدولى اأنا لا أحب أن أصل البيت قبل زوجتى .. وانتبه بعض المعلمين والمعلمات لوصوله فأجتمعوا حوله كلهم يصيح بمطالبه التى لم تتحقق نظر مدير المدرسة إلي الجميع مستاء.)

لحظة توزيع جدول الحصص على المدرسين من أصعب اللحظات اليقينية لأن كل مدرس يريد أن يتم تفصيل جدول خاص به ويرضى عنه كي يعمل (اليقين الجدول)، (اللايقين هو تفصيل جدول خاص لكل واحد) يلاحظ من عمل مدرساً أن هذا اليوم يكون هو الأسوء فى تاريخ المدرسة والمدرسين، ومن وضع الجدول لن يرضى عنه الجميع مهما حاول قدر جهده.

كان يضع خطا أحمر  تحت اسمي (يقين)

تشتري له 6 علب سجائر كل أول شهر (لايقين) لأن لا أحد يعرف هذه الحقيقة.

(شقت الصمت صرخة غريبة، ودق الجرس بلا موعد، كان ذلك يوماً مختلفاً رغم كل شئ أختفى الصمت مرة أخرى، ومرة أخرى تلوث الجو بالضجيج، الهمسات حينا والاصوات المترددة حينا آخر .. لم يفعل الطبيب شيئا سوى أن كتب له حقنه مهدئة .. وضعت الدواء فى الحقنة وأدخلت الأبرة فى ذراعه .. كان الوريد هارباً .. أى شئ فعل الدواء به لا أدرى، أعرف الوريد الهارب، أعرفه تماماً)من خلال هذا المقطع نعرف ان كارثة يقينيه قد حدثت، الأستاذ يحيى متعباً. وبعد أن عاد من المستشفى تقول الحكيمة العاملة بالمدرسة. أعرف الوريد الهارب (يقين) أعرف مكانه تماما.. تاكيد القين (المعرفة).

كيف تقولون أنه مات وأنا السبب فى موته (لايقين).

تأكد الممرضة على شطارتها وأنها تعرف مكان الوريد بالضبط، فكيف تقولون أنها السبب المباشر فى وفاته. ( قال الاأستاذ عبد الله : هى أعمار،  وهذا ما كتبه الله له، هل نعترض على مشيئة الله .. إكرام الميت دفنه).  حقيقة يجب دفن الميت (يقين) أى إن كانت أسباب الوفاة، والتعجيل بالدفن هو الأهم. من وجهة نظر المدير.

الصراعات والجدول والحضور والأنصراف (عبث) من وجهة نظر المدرسين ولا أهمية له.رأيت وجه الزمن طاف بعقلي ساخراً ليس له حقيقة يحيى لا يحيا (عبث) الحياة وعبثية الأشياء المحيطة بنا والتناحر والشجار جعل الحياة عبثية وشبه مستحيلة فالمدرس مات فى لحظة واحدة وترك الجدول والحضور والأنصراف والمدرسة والحياة بما فيها.

فكلمة (يحيى لا يحيا) التى أطلقتها المدرسة هنا توضح وجهة نظر الكاتبة على أن الحياة لا تساوي شيئاً حتى التناحر والشجار فيما بيننا لا يساوي لحظة الموت المهيبة، لأنها هى الحقيقة الماثلة أمام أعيننا الآن وبوضوح. واسم يحيى وهو المدرس الذى كان يتحكم فى كل شئ له دلالة ومغزى على عدم الوجود اللحظي و الذي ترك الدنيا مثلما دخلها.

تمتاز كتابة سحر توفيق فى مجموعاتها ورواياتها بطرح الأسئلة (الوجودية) ومحاولة التعرف على إجابات شافية لهذه الحياة العبثية وهى تجيد طرح السؤال بشكل دائم (لماذا نحيا؟)

وأنها لا تأتي بالإجابات الجاهزة ، فهى تراقب تغير الزمان والمكان وأحوال الناس فى ظل رؤية وجودية وتحاول أعادة طرحها أكثر من مرة وبأكثر من طريقة.

لأن الكاتبة لها عين ناقدة لهذه الحياة.

فى رواية (طعم الزيتون)

هل ينظر الموتى؟

وهل يعرفون؟

نرى الحكيم هنا في مقدمة الرواية هو صاحب اليقين (لم يحدث من قبل أني ضيعت الكلمات) ثم يتحول هذا الحكيم وبارادته إلى اللايقين ( ولكن فى هذه المرة ضيعتها  عن عمد ، وعن سبق إصرار وترصد.)

أي ان الحكيم قرر أن يتغير وبارادته هو ( تتراءى لي اشباحا فى أوقات كثيرة تلومني، تنظر لي بحزن وعتاب، وأحيانا باتهام صارخ، حتى أفقد مقاومتي ولا مبالاتي، فاحاول أن استعيدها، اتذكرها، لكنها بكبرياء الجريح تأبى على ذاكرتي..)

نرى فى هذا المدخل الهام من رواية (طعم الزيتون) أن الكاتبة تطرح فكرة ( اليقين واللايقين) داخل كتابتها بشكل واضح وصريح، وكأنها تعرف ماذا سوف تقول وتناقش مع تكتبه عن طريق ( الرجل الحكيم) ربما يكون الزمن! فيأخذ النص إلى صراع الداخلي بين الحكيم واشباحه التى تلومه.

(صراع النفس مع ذاتها) صراع داخلي.

يقول الحكيم في موقع آخر(ثم مدفوعة بغريزة الأنتقام تحاول تعذيبي، فتلقي غلى خاطري بواحدة منها ، واحدة فقط، وتنسل الباقيات هاربات، محختفيات فى غابة معقدة متشابكة من الذكريات اللانهائية، (عبثاً) أحاول مطاردتها، فهى تختفي جميعا خلف جذوع الأشجار الضخمة، او الأعشاب الشائكة، أو بين الوريقات الكثيفة، وخرج لي نفس الكلمة، نفس الكلمة لا غير، وكأنها لسانها)

نلاحظ فى هذا المقطع ظهور وأختفاء الكلمات وكأنها تلعب لعبة (الغميضة) مع الحكيم، وتراوغ، وتتوارى خلف الأشجار وا   لعشاب والوريقات، من هنا نلاحظ أن تحول الحكيم باراادته من(اليقين غلى اللايقين) أصبح يتلقى تهديداً ومراوغة .

مستمرة من الكلمات والأختفاء فى غابة معقدة، ويمكن أن يتم فك رمزية الغابة إلى الحياة نفسها التى تمتلئ بالشك وقلة اليقين ولعبة المراوغة  مهما حاولنا القبض عليها ومعرفتها والسيطرة عليها بشكل كامل.

ولأن من طبع الحياة التجدد والأستمرارية فالحكيم يحاول جاهداً معها (أبحث عنها بين ثنايا الذاكرة) نلاحظ أن الكاتبة ذكرت كلمة (اليقين) بوضوحأيضا.

النساء نوعان.

(امرأة تخطو إلى دارك فيدخل الخير بدخلوها، وامراة لو دخلت ارا كانت شؤما على اهلها، خربتها وضيعت من فيها ، فاتخذوا لأنفسكم قدم الخير) وإذا عرفت امرأتك قدم خير فلا تتركها.

- صفاء عبد المنعم -  

---------------------------------------------------------------------------------------------------

المصادر

-------------

 

ان تنحدر الشمس (قصص قصيرة) مختارات فصول الهيئة العامة للكتاب 1984

 رحلة السمان (رواية) دار ميريت للنشر والتوزيع 2005

بيت العانس (قصص قصيرة) صدرت عن الدار للنشر والتوزيع 2006

طعم الزيتون (رواية) ابداعات التفرغ المجلس الاعلى للثقافة  2011

 

 

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون