حب منتهي الصلاحية
------------------------
كم سيكون مرعباً إذا خرجت هذه الروح المتعبة
عن الدور المنوط بها!
مذ كانت طفلة صغيرة مكتنزة لم يبرز نهداها
بعد، كانت روح حرة، أو ربما روح شريرة، هذا أمر محير لأننا لم نكن معها في طفولتها
ولم نتبع خطوات نموها وحياتها بكل دقة ولكننا نعتمد على ما تقوله وتفعله، هى تحبذ
دائما الروح الحلوة الطيبة، وظلت لسنوات طوال تجهز نفسها لمهمة شاقة، هى لم تعرف
ملامح المهمة بعد، ولكنها كانت كلما نظرت في المرآة ورأت وجهها البض الخجول تبتسم
وهى ترسل قبلة إلى نفسها عبر المرآة ثم تقطب حاجبيها أستغراباً وذهولاً عندما ترى
علامات النضج المبكر والتضحية بادية على وجهها.
لقد تربت على أن تكون مطيعة، هادئة، طيعة
تنفذ الأوامر بكل دقة وتسعد كثيراً عندما تبتسم أمها في وجهها وتقول لها: البنت
الشاطرة تقول إيه؟
ترد عليها بهدوء قاتل وهى تحاول جاهدة كظم
غيظها: تقول حاضر.
الآن مرت السنون، وتعودت كثيرا على الصمت
والقبول الهادئ لكل ما هو سئ ويفرض قوته عليها ولا تقول دائما غير كلمة واحدة:
حاضر.
لماذا اليوم تحديداً هى غاضبة؟
عندما نظرت نحو المرآة الكبيرة المعلقة في
مدخل البهو الواسع، وقفت دقيقة تنظر نحو وجهها الممتلئ بالتجاعيد، لقد فعلت به
السنون أفعال كثيرة بين بكاء وصمت وهجر ونكران، لم تحتمل طويلاً تأمل وجهها في
المرآة ولم ترسل له قبلة سعيدة كما كانت تفعل في طفولتها بل جمعت بصاقا كبيرا في
فمها ودفعته دفعة قوية نحو وجهها في المرآة وفرت هاربة تاركة قطرات البصاق ينزل
على مهل فوق المرآة وهى تتأمله عن بعد في صمت وذهول وأخذت تبتعد.. تبتعد هناك
بعيداً فى أبعد مكان وفوق الكرسي الهزاز جلست منهارة تبكي في صمت.
لقد أعتقدت في الماضي ولحماقتها، أن الطيبة
والصمت سوف يدفعان عنها غباء وحقد الآخرين!
أخذت تنظر نحو جسدها المتهالك فوق الكرسي
والبرد يتسرب إليها من جميع الجهات.
أخذت تفكر طويلا ماذا يحدث لو قامت بتغير
عادتها وسلوكها مع الآخرين؟ وصرخت ولو لمرة أخيرة في وجوه الحمقى المستغلين وقالت
كلمة واحدة: لا. وتنسى كلمة حاضر نهائياً.هل ستختفي روحها ويتغير جسدها إلى الأفضل
وترد له سنواته الماضية وتختفي التجاعيد المحفورة في وجهها؟
لقد كرهت نفسها كرهاً لم تعرفه من قبل.
وأصبحت لا تطيق النظر إلى وجهها في المرآة
مرة أخرى مهما مرت من أمام المرآة في الذهاب نحو الطرقة الواسعة أو الخروج من الحمام، وظلت على هذا الحال
طويلا، أيام وأسابيع وشهور حتى فتحت النافذة ذات يوم وأطلت منها، رأت يمامة وديعة
تقف على السور المقابل لها تنظر نحوها في صمت وهدوء، قالت داخل نفسها: ربما تكون
هذه اليمامة جائعة أو أنها تبحث عن مكان تعشش فيه، دخلت مسرعة إلى المطبخ أحضرت
طبقا صغيرا به بعض حبات الأرز وتركته على سور الشباك وأغلقت الزجاج جيدا وظلت تنظر
نحو اليمامة الوديعة ربما تقترب من الطعام، ولكنها رأت بعض الغربان تحوم وتحلق
عاليا ثم هبطت ووقفت على السور وأخذت تلقط الحب من الطبق. ومازالت اليمامة هناك
تقف على السور بعيداً وتنظر نحوها.
فشعرت أن روحها في الداخل ستظل كما هى لن
تتغير بتغير الجسد أو الظروف أو ظهور التجاعيد.
ظلت واقفة في صمت حتى أنتهت الغربان من أكل حبات
الأرز كاملة ثم طارت محلقة وهى تنعق وترفرف بأجنحتها السوداء ووقفت على الشجرة
البعيدة . فتحت النافذة ومدت يدها أخذت الطبق ثم أغلقت النافذة ثانية، وهى في
طريقها نحو المطبخ لتعيد الطبق إلى مكانه نظرت نحو المرآة المعلقة في الطرقة ، رأت وجهها مرة أخرى وكأن التجاعيد أختفت وظهر
وجهها البض البرئ ثانية، أبتسمت في صمت ومرت سريعا متجهة نحو النافذة، نظرت إلى
اليمامة على السور رأتها قد طارت وظل مكانها فارغا.
كانت تريد أن تطرح عليها كثيرا من الأسئلة،
تريد أن تطرحها منذ زمن بعيد لماذا أنتِ هادئة هكذا؟
لماذا أنتِ وديعة وصامتة؟ لماذا تجلسين على
هذا السور طويلا؟ هل عندك يمامات صغيرات تخافين عليها؟ أسئلة وراء أسئلة، رأسها
الكبير يمتلئ بالكثير من المسكوت عنه ولكنها رغم ذلك تصمت.
كانت دائما تنتظر نهاية هذا الذل، نعم الذل
والقهر الواضح في روحها، لقد بذلت الكثير من عمرها كي تتخلص من هذا الإحساس
القاتل، إحساس يمتص روحها وتحاول أن تدفعه خارجها دفعا وتركله بقوة امرأة ضعيفة،
ولكن..!
ماذا تفعل في هذا العالم القمئ والذي يشعرها
كل لحظة بأنوثتها المهدرة وضعفها المستمر؟
على المنضدة الأمامية بالقرب من النافذة هناك
مجموعة من الزهور الحمراء موضوعة داخل إناء زجاجي، الزهور تفتحت بقوة لدرجة أنها
أصبحت تتساقط أورقها، وهى كل يوم تجمعها من فوق المنضدة بين يديها بعطف وحنية أم رؤوم
ثم تقبلها قبل أن تلقي بها في سلة المهملات.
كانت تمعن النظر كثيرا في هذه الزهور فهى
تشعر أنها تذبل وتتساقط أورقها مثلها تماماً.
هنا في هذه المدينة الهادئة البعيدة عن صخب
وعنف المدينة الكبيرة ترقد مدينة صغيرة وادعة على أطراف الصحراء، كم تكرهها وكم
فتحت النافذة وأطلت منها على الحدائق والأشجار المهملة والمتناثرة هنا وهناك، تقف
دقائق، هى دقائق معدودات ثم تشعر بالممل يتسرب إلى روحها المتعبة فتغلق النافذة
ثانية على الصمت الداخلي والهدوء الخارجي، هى تعرف روحها جيداً إنها روح تعشق
الصخب والضوضاء ولا تمل منه إلا نادرا وهى التي كانت تكره الزحام ولا تطيقه، أصبحت
تتمنى أن تسير وسط الناس وتشم رائحة عرقهم النتن في لحظات القيظ ، لحظات الذروة
والأزدحام الشديد داخل عربات المترو والباصات وغيرها من وسائل المواصلات المزدحمة.
إن المرأة تستطيع أن تقاوم جميع الأصوات التي
تناديها إلا صوت واحدا هو صوت الحب، لا تستطيع مقاومته خاصة في لحظات الضعف
والتردد، والحالة بين، بين، بين النوم واليقظة، الشجن والحزن، الحب والهجر، القوة
والضعف، فالحب يكمن في مناطق الضعف في الروح، أما مناطق القوة فهى المناطق التي تقاوم
بشدة الذبول والأنزواء من أي هجوم خارجي للذات.
![]() |