يا مسافر وحدك
ترقص وتطوح بيديها في الهواء عاليا.
على صوت (غالية بن عالي) وهى تغني (يا مسافر وحدك
وفايتني..)
عزف الساكس المندمج داخل اللحن بوضوح يعطي طابعا مختلفا
تماما عن موسيقى ولحن عبد الوهاب الأصلي للأغنية.
تمنيتُ لحظتها أن أقف إلى جوارها وأطوح ذراعي عاليا في
محاولة للرقص والنشوى، ولكن طبيعتي الخجولة المتحفظة حرمتني من فكرة المحاولة.
الحقيقة هو ليس الخجل ما منعني، ولكن الفكرة في حد
ذاتها هى أنني لا أعرف الرقص، الرقص كان بالنسبة لي في بيتنا يندرج تحت سقف
المحرمات والعيب.
وطنين التحذيرات يملأني (الرقص عيب) بطلي مياصة، مع
أنني لا أملك جسد راقص ولا قوام ممشوق، ولكنني كنت أرى البنات بين الحصص يرقصن مثل
فراشات طائرة داخل الفصل.
ودائما كنتُ أقف لهن خلف الباب، أسده بظهري كي نشعر
بقرب المدرس إذا قام بزق الباب لفتحه.
فتجري البنات مسرعات يجلسن في هدوء، وأنا أفتح الباب
بكل ثقة وأضحك في هدوء، فيطمأن المدرس أن الفصل تمام، وأن الأصوات العالية لم تكن
من هنا.
أجلس في صمت، والبنات يكتمن الضحك، وينظرن نحوي وهن
يهمسن في هدوء وبصوت خفيض: شاطرة. شكرا للشويش عطية.
فعلا تنطبق علي فكرة الشويش عطية .
أكظم غيظي بداخلي وأنا أريد أن أصرخ فيهن لماذا أنتن
فرحات، منتشيات، ترقصن في حبوروسعادة وأنا لا؟
ولماذا أنا الوحيدة التي تقف خلف الباب بأستمرار وتسده
بظهرها.
وتأتي إلى رأسي أصوات عالية ومحذرة ومنفره (الرقص عيب)
البنات المؤدبة تقول حاضر وتسمع الكلام.
في أفراح بنات الجارات كنت أذهب مع أمي، كنت أراها ترقص
وتغني وتزغرد لهن، بصوت جميل، وأنا جالسة في صمت أتابع بعيني حركات أهتزاز الأجساد
في الرقص والنشوى والحبور والفرح.
وإذا قررت أحدى الجارات أن تمسك يدي وتدخلني داخل
الدائرة وسط البنات كي أرقص معهن، كنت أبعد يدها بسرعة وأجلس في مكاني والأصوات
العالية المزعجة تملأني (الرقص عيب).
أعود مسرعة إلى البيت، أترك أمي لنشوتها وحبورها مع
الجارات، أدخل حجرتي أغلق الباب خلفي، وأذهب في حالة من البكاء الشديد.
يأتي أبي ويسألني من الخارج: أمك فين؟
أجيب في هدوء وأنا أفتح الباب خارجة: ماما في الفرح.
يخلع حذاءه، ويجلس على الكرسي، ثم يضحك وهو يهز رأسه:
أعملي لي كوباية شاي يا قطة.
أدخل المطبخ، اسمع صوت عبد الوهاب يشدو عليا: يا مسافر
وحدك، يا مسافر وحدك وفايتني، ليه تبعد عني وتشغلني.
حينما أنتهت الأغنية وأغلقت أبنتي صوت المغنية سألتها
بهدوء شديد: مين المغنية دي يا قطة؟ ترد بفتور بعد أن تعبت من الرقص: دي غالية بن
عالي.
أضحك في مرارة: صوتها حلو. بس عبد الوهاب أحلى.
تغضب أبنتي وتقوم واقفة: يا شيخة حرام عليكي، دا كفاية
صوت الساكس وموسيقي الجاز.
أصمت وأنا أستعيد في رأسي صوت عبد الوهاب الشجي وهو
يشدو: يا مسافر وحدك. وأبي يشرب من كوب الشاي في نشوة وهدوء.
![]() |