الاثنين، 19 مارس 2018

دراسة أدبية



خدوش الديك
قراءة/ صفاء عبد المنعم
صدر عن أقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد، فرع ثقافة الجيزة، مجموعة قصصية(خدوش على جدار الحياة)للكاتبة إسراء الديك.
والمجموعة تقع فى حوالى 72 صفحة من القطع المتوسط، وتتناول حوالى 25 قصة بين القصة القصيرة جدا والمتوسطة فى حوالى 3 صفحات.
يحتوى كتابالديك على قة قصيرة تتراوح بين عدة سطور وقليل من الصفحات، ولكن ماتمتاز به هذه القصص رغم قصرها أحيانا كثيرة هو(بساطة المتعة) أو (البساطة الناعمة) التى تسحبك مثل الموج الهادىء أو الرمال الناعمة، حتى تغوص قدميك إلى أسفل بكل سهولة ويسر.
لقد قرأت المجموعة بشكل نهم ومحبب، وذلك لما تمتاز به من سلاسة اللغة، وهذا ليس عيبا، ولكن إنه الأتقان والدقة، والجمل القصيرة الناعمة، فهى لا تجعلك تلهث وراء الأحداث أو المقاطع المتوالية، ولكنها تأخذك من يدك بهدوء شديد وتضعك أمام حدث واحد فقط، وإنما تجعلك تنتظر المزيد من الإبداع الهادىء دون ضجيج أو صراخ مفجع، على سبيل المثال كما حدث فى قصة(أقتناع)ص59 .
تحكى القصة ببساطة عن فتاة وصلت إلى سن الثلاثين بهدوء شديد، وتكتب عن كيفية قناعة الأب وهو يتحدث مع الأم الحزينة أنه لم يأت الزوج المناسب لأبنته الطبيبة بعد، فيقول على لسانه(... أحنا عارفين إن دماغها كبيرة،أكيد لو فى حد من اللى اتقدمولها اقتنعت به، كانت وافقت ... إنما مش أى حد وخلاص). هنا قناعة الأب تدفعك إلى التعاطف مع البطلة(نورا) التى تفتش داخل ألبوم الصور والهدايا عن الزكريات القديمة الهاربة وتاريخ الأصدقاء فى ليلة عيد ميلادها.
ففكرة السن والعمر والتعجل بزواج البنت(الستر) لم تعد هماً ثقيلا على كتف الأب مثلما كان يحدث من قبل، حتى الصورة الذهنية قد تغيرت ونرى الأخ المهندس(أحمد) يقدم لها(دبدوب أحمر) هدية عيد ميلادها، وكأنه يعوضها التعويض المناسب عن غياب الحبيب.
والكاتبة تذكرنا فى مجموعتها بالكتاب العظام مثل تشيكوف فى قصة(موت موظف) وقصة(نظرة) للكاتب يوسف إدريس، حيث البساطة والهدوء، والطعنة المفاجأة ببرود ومحبة مفرطة الدهشة.
وفى قصة(صورة) ص 9 .
وهى أول قصة فى المجموعة. القصة تحكى عن عائلة على شاطىء البحر قررت أخذ صورة جماعية للذكرى، واللقطة من وجهة نظر إبتسام(خرج أفراد أسرتها من البحر، يتأرجحون مندفعين نحوها، لمح أخوها مصوراً، هرول نحوه، أتى به إليهم: يالا ياجماعة هنتصور صورة جماعية) نكتشف بعد ذلك أن (إبتسام) لا تظهر فى الصورة بسبب أنها تجلس على كرسى بعجل، ولم يظهر فى الصورة سوى طرف الإيشارب(..أخرج الرجل الصورة، استقرت فى يديها. حطت عتمة على ملامحها، عندما دققت فيها، لم تجد سوى طرف طرحتها.. أنسحبت من الإطار.. دافعة عجلات الكرسى المتحرك).
البساطة فى المشهد، البساطة فى التعبير، الأنسحاب بهدوء من الصورة دون ضجيج، ودون أفتعال أزمة أو أفساد اللحظة، لأنه لا يوجد مكانا لها بينهم، هم الأصحاء، وهى العاجزة.
فى قصة(فترات)ص15 .
آمن بمقولة: كلنا فترات فى حياة بعضنا البعض.
فهجر من أحبوه وراح يبحث عن حب جديد.
هكذا بدأت، وأنتهت القصة، وربما كانت تجرب فكرة القصة الومضة أو القصة السطر(الدفقة). ولكن حتى بداخل هذا السطر كلام كثير تستشفه بقرأتها بدقة.
فى قصة(الكأس) ص20 .
وهى عبارة عن 6 أسطر،49 كلمة تقريباً.
هناك حالة إشباع فنى.
(يلقى بجسده بعد يوم حافل على كرسى الأنترية، يمسك كأساً يرتشف ويمص ما فى الكأس.. كأنه يرشف عصيراً لذيذا، يريد أن يستمتع بكل قطرة فيه، يسند رأسه للخلف، يسبل عينيه، يتذكر عندما كان والده يفعل ذلك وهو ينظر إليه من بعيد يراقبه فى حركاته. انتابه شىء من الفزع، تقلصت عضلات وجهه، فتح عينيه وجد طفله فى زاوية الباب يرقبه).
لك أن تتخيل ماسوف يحدث فى المستقبل، وكأن هذه النظرة والرشفة من الكوب باستمتاع هى(الميراث) الأبدى، الهادىء الذى سوف يرثه هذا الطفل عن أبيه، كما ورثه أبيه عن جده.
وسوف نجد هذه المتعة ثانية فى قصة(نمل) ص43 .
وفى قصة(مرور)ص 53 .
تعود ثانية(إسراء الديك) لكتابة قصة سطر بعد كتابة عدة قصص تتكون من صفحة أو صفحتين.
(أدرك أن الأيام مهما بلغت مرارتها ستمر بخطى ثقيلة، ابتسم فى وجهها لعلها تسرع).
وكأن هذه القصة هى رداً بليغاً على القصة السابقة(فترات)ص15 .
هو فى الألى خرج يبحث عن حب جديد، وفى هذه القصة يريد أن تسرع الأيام، وكأنه لم يجد ضالته المنشودة رغم الأمل والتفاؤل فى القصة الأولى.
إن الكاتبة(إسراء الديك) تمتاز بحس مرهف نحو الكتابة، وتقبض على تلابيب العمل حتى لا يفلت منها، فهى تقتصر النص على قدر الإمكان حتى لا تكون فيه كلمة فى غير مكانها، فليس لديها هوس الأطالة، فى لا تحتفى بالسرد المسترسل، بقدر ماتحتفى بالسرد المقتضب الموحى.
فنحن أمام كاتبة واعية بفن(القص) ولها أسلوب خاص، قد تصل به إلى مايشكل إضافة جديدة فى عالم(القصة القصيرة).
                                                           صفاء عبد المنعم

*********************************************************************

الثلاثاء، 13 مارس 2018

صفاء عبدالمنعم: الأمومة أضافت لي مناطق مجهولة

صفاء عبدالمنعم: الأمومة أضافت لي مناطق مجهولة: قالت الأديبة صفاء عبدالمنعم إن الأمومة أضافت لها مناطق كانت مجهولة بحيث إنها كانت تسمع أو تقرأ عنها فقط، غير أن التجربة في الواقع أعمق بغير شك وأوسع من القراءة. وأضافت: «تستمد الكاتبة من الأمومة، وهي ...

الجمعة، 9 مارس 2018

فعل ماضى
فى لحظات نتمدد فوق اسرة بيضاء ، ومراتب من القطن المشبع برائحة العرق ، يمر بنا الزكريات ، نحلق معها فرحين كأنها حكايات قديمة سمعناها من أفواه الجدات المسنات ونحن نمتطى صهوة جواد أبيض قبل النوم ، ونغلق أعيننا الصغيرة البريئة ، ونتأهب للأنطلاق نحو بيت أمنا الغولة كى نحرر ست الحسن والجمال من محبسها المخيف بالبيت ، ونتسلق سبع جبال من شوك ، ونعبر سبع بحور من دم ، وعلينا قبل الرجوع منتصرين أن نذبح الدجاجة الوحيدة بالبيت والتى تبيض بيضة ذهب كى ندهن الحيطان العالية بدمائها ، ونخطف ست الحسن والجمال على الحصان الأبيض ونفر بها هاربين ، وإلى الآن مازالت الجدة تواصل الحكى فى أذن الصغار .
كانت هذه هى الأحلام المتواضعة البسيطة والتى من فرط غرابتها وعجائيبيتها نحلم بها كل يوم ونستأنس بنار العشق الحنون ، ونغار على أحلامنا الصغيرة من البوح أمام الجارات الرابضات على عتبة الباب فى المساء ، تحكى كل منهن لجارتها حكاية شيقة ومولعة بالمغامرة وموغلة فى القدم عن حبيب ضاعت ملامحه فى عتمة الليل بين أعواد الذرة الكثيفة ، وتظل كل واحدة منهن جالسة لبعض الوقت فى صمت وهى تعيد ترتيب الزكريات والأحداث فى رأسها حسب أهميتها ، متى خطف الحبيب منها أول قبلة تحت العنباية الظليلة فى وهج شهر أغسطس ، ومتى خطف حبيب آخر مولع بالستر أول قضمة من تفاحة صدرها الرحب البض بين أوراق شجر الرمان المزهر ، ومتى رأت كل منهن جنية البحر رؤى العين واضحة فى حيرتها وهى تنادى على شاب وسيم : والنبى ياخوى ممكن تشيلنى الزلعة .
وإذا أقترب منها الشاب الغافل الساهى ، تسحبه معها إلى العمق البعيد ، وتعود لتسأله مرة اخرى : أنا أحلى ولا أمك ؟
إذا قال لها أنتِ الأحلى نجى ، وإذا قال لها أمى هلك . فهو فى كلا الحالتين هالك .
كانت أمى ونحن صغار نلتف حولها فى أمسيات الشتاء البعيدة وهى تخيط لكل منا بيجامة من الكستور المقلم ، بيجامة شتوية دافئة على مقاسه ، وتحكى لنا حكايات جميلة و شيقة عن بنت الفوال وأبن السلطان ، وكيف نجت بالحيلة من مكائده المدبرة لأغتصابها ، وكيف أن الخياطة الخبيرة بخبث الرجال سألتها البنت ببراءة متناهية عن قط الخزانة الذى يشكشكها ، كانت الخياطة تكذب وتدارى عليها الحيل والمكائد وهى تقول ضاحكة : معلش ياحبيبتى دا كابوس ، يحضن ويبوس ، ويرمى على الناس الفلوس .
لنا الله ياأمى الآن بعد أن مر كل هذا العمر السعيد بكل حكاياته وطفولته البريئة ، فلم نعد الآن نذهب إلى بئر مريم ، ولا نجلس تحت الشجرة المقدسة ، ولم تعد النساء يربطن بها بعض مزق من ملابسهن القديمة كى يعود الغائب ، أو تختفى الدورة الشهرية وترزق بمولود ذكر ، لم تعد ياأمى المسلة العملاقة والتى كم من مرة تعبت عيناى من النظر إليها طويلا ونحن عائدات من المدرسة الأعدادية ، لم تعد الدنيا سهلة وبسيطة مثل طيبتك وحكاياتك ، لم تعد إنجيل تجلس إلى جوار فاطمة ، ومدرس اللغة العربية ينظر من خلف نظارته بخبث وخبرة نحو البنت تماضر وهى تنطق كلمة (ماضى) بحرف التاء وتقول (ماتى) فيضحك المدرس قليلا ثم يسخر منها أمامنا جميعا بود طيب ويقول : يابنتى ياحبيبتى ، الكلمة اسمها فعل ماضى ، بالضاد ياأم جهل .
فنضحك جميعا ، خائفات ، خائبات ، سعيدات ، لا ندرك أهمية الأفعال الماضية .
*********************************

ذكرى

أستديو مصر
أمس الثلاثاء ، وبعد عشرين عاما تدخل امرأة سمينة وبجوارها شابة رشيقة إلى أستديو مصر .
وقفت بجوار الأمن ، وهى تطقطق على أزرار الموبايل كى يأتى من ينتظرها إلى الخارج .
ضحك مراقب الأمن وقال لها بأستظراف : فيه حد منتظر حضرتك ، ولا جاين لغشل ؟!
أبتسمت فى سخافة زائدة ، وقالت بعنطظة فظيعة : فيه حد مستنينا ، وجاين لغشل ، فيه حاجة ؟!
صمت الرجل وبهت ووضع وجهه فى الدفتر الذى أمامه ، وقال بتجهم : أتفضلى أكتبى اسمك واسم اللى معاكى .
نظرت له بغيظ : تحب تشوف البطاقة كمان .
صمت الرجل صمتا مطبقا ، ونظر فى الدفتر ، وهو يرقب حضور المنتظر ، ثم قال لها : ممكن حضرتك تخشى يمين فى شمال ، الحارة القديمة ، هتلاقى هناك التصوير .
صمتت وتحركت بعض الخطوات ، وهى تتذكر ، كيف مرت هذه السنوات سريعا كالبرق ، هنا ومنذ عشرين عاما أو أكثر ، جاءت بخطوات شابة ورشيقة ومبتهجة ، كى تقابل المخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ وهو يصور الجزء الثانى من حارة المواردى ، ويجهز للجزء الثانى من ليالى الحلمية .
كانت صافية وطيبة مثل أوراق شجر الكافور الذى يحيط بترعة المريوطية ، وحنونة وندية مثل شجر الصفصاف المحيط بالمكان .
نظرت حولها رأت الأبراج الأسمنتية تلتهم كل شىء كغول قوى يقف سداد طريق الحياة على المارة ، أو كالهولا التى وقفت فى طريق أوديب تبحث عن مجيب لسؤالها .
أحمرت عيناها وأغرورقت بالدموع وهى تتبع خطوات السابقين الذين مروا من ها هنا ، وقرأت الفاتحة فى صمت على روح المخرج الكبير إسماعيل عبد الحافظ

دراسة

حكايات صفاء عبد المنعم
وأحلامها الملونة
بقلم/ محمد عبد الظاهر المطارقى:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحلام الملونة هى العمود الفقرى الذى تتكأ عليه صفاء عبد المنعم فى بث حكاياتها للأطفال. إنها تؤمن بقوة الحكاية، وقدرتها على صنع عالم جميل ومحبب لدى الطفل، بل إن الحكاية ـ بذاتها ـ تمتلك القدرة على صناعة مستقبل أكثر إشراقا من خلال تزكية خيال الطفل، وتحديد هدفه وإكسابه الهمة على تحقيق هذا الهدف النبيل.
ولا غرو فإن الكاتبة صفاء عبد المنعم نفسها تعترف أنها تأثرت بحكايات جدتها منذ أن كان عمرها ثمانى سنوات.. إنها صنيعة تلك الحكايات ، ولأنها استطاعت ـ الى حد كبير ـ أن تحقق أحلامها القديمة بأن تصبح فى يوم ما مديرة مدرسة، وكاتبة لها العديد من المؤلفات، فهاهى تحاول جاهدة أن تقوم بدور الجدة ولكن بطريقة تتماهى مع طفل عصرى، يتعاطى الثقافة بطرق وأساليب متعددة تختلف إلىذ حد كبير عن أسلافه من الصغار..
صفاء عبد المنعم ـ بجانب الحكايات القديمة لجدتها. استفادت أيضا كباحثة فى التراث الشعبى، وبكونها أم تهتم بشئون صغارها بجانب حرصها على استخدام الحكاية كعنصر أساسى ومهم فى التنشئة والتربية..كذلك من طبيعة عملها كمعلمة، ثم مديرة مدرسة.. بل إن احتكاكها الأكثر تأثيرا هو ورش الإبداع التى تلتقى فيها مباشرة مع الأطفال المبدعين وهو جمهورها المستهدف الذى لاغنى عنه لكل من يكتب للطفل، بالإضافة إلى ورش تدريب الموهوبين وهى عبارة عن ورش حكى تتبع قصور الثقافة.. نحن إذن أمام كاتبة لها رصيد مشبع من التراث الشعبى، والكتابات الإبداعية المتنوعة، ومحملة بقدر هائل من الأحلام الملونة المدهشة التى تعمل على تقديمها للطفل.
ولقد تجلت أحلام الكاتبة صفاء عبد المنعم بوضوح فى مجموعتها القصصية "حكايات بسملة".. الصادرة عن المركز القومى لثقافة الطفل.
المجموعة تمتاز بالأسلوب البسيط الذى لا يشكل أى عائق للطفل المتلقى، فضلا عن كونه يتسق مع طبيعة الشخصية والحوار. والشخصية الرئيسة فى المجموعة هى شخصية البنت "بسملة". تلك البنت الجميلة، التى تحرص دائما على طرح الأسئلة لتعرف، وكأن الكاتبة تؤكد على أن مفتاح العلم هو السؤال. فلابد لكى نتعلم ونعرف أن تكون هناك علامات استفهام تحتاج منا الى البحث والاستفسار، للوصول الى إجابة منطقية ومقنعة.ودائما الإجابة تأتى من مصادر موثوق بها. نجد ذلك فى قصة "بسملة تحب القراءة" حين دخلت الصغيرة مكتبة خالها لتبحث عن كتاب تقرأه.
وقفت بسملة أمام صفوف الكتب فى حيرة، وهنا بدأ الحوار بين الطفلة"بسملة"، وخالها.. إنها الأسئلة التى تشغل بالنا حين تبدأ أولى خطواتنا مع رحلة القراءة والكتب، فالمكتبة تحمل بين أجنحتها كتب: تاريخ، فلسفة، قصص، روايات، خيال علمى، أديان.. كتب كثيرة وجميلة وشائقة جدا.
واحتارت بسملة، وبدأت علامات الاستفهام تداهمها، لكن خالها باعتباره شخصية محبة للقراءة، قدم إليها الإجابة ببساطة أقتعت بسملة وأقنعتنا معها نحن كقراء صغار، نريد أن نعرف ونتعلم كيف نبدأ حياتنا مع الكتاب. ينبغى أن نبدأ أولا بمجلات الأطفال، وبعد أن نتعود على القراءة نبدأ بالمعلومات البسيطة مثل كتب تبسيط العلوم، وكتاب قطر الندى وكتب مكتبة الأسرة الخاصة بالأطفال.. إنه الأسلوب الأمثل لنعتاد القراءة.. إن الكاتبة صفاء عبد المنعم تعطى الطفل القارىء دروسا نافعة على لسان الطفلة "بسملة" ، ثم تأتينا الإجابة بطريقة مبسطة عن طريق شخصية ناضجة وواعية ، ولها خبرة فى مجالها.
فى قصة "بسملة تحب شراء الملابس الجديدة" تدخلنا الكاتبة فى حيرة من نوع آخر.. بسملة احتارت أمام الكتب فكان خالها يمتلك الإجابات الشافية التى أقنعتها.. وفى القصة الثانية تحتار بسملة أمام كم الملابس الكثيرة التى تمتلكها، إنها تحرص دائما على شراء الملابس الجديدة عند كل مناسبة من المناسبات.. وهى تصر على ارتداء الجديد دائما، وعندما تضطر لارتداء ملابسها تقف كثيرا محتارة أيها تختار من كثرتها.. وتضطر لأن تخرج جميع ملابسها وتمكث وقتا طويلا لكى تحدد أى الملابس ترتديها. "بسملة" .وبرغم كم الملابس التى تمتلكها إلا أنها تطالب بملابس أخرى جديدة، وتصر على ذلك، وتحاول الأم إقناعها بأن ملابسها الكثيرة هى التى تسبب لها هذه الحيرة ، بعد محاولات مضنية تضطر الأم لأن تهدد بسملة بعدم اصطحابها معها ولن تشترى لها ملابس جديدة.. وتستعيد بسملة كلمات الأم حين قالت غاضبة" يا بسملة هناك أطفال كثيرون ليس لديهم غير فستان واحد، ولا يملكون كل هذه الملابس."
وهذا مادفع بسملة فى نهاية القصة لأن تعيد النظر فى موقفها، وتسلم بهذا الرأى لتعطينا درسا فى العطاء حين قررت أن تخرج الزائد عن حاجتها لتتبرع به.
وفى "بسملة والانتخابات" نجد الحوار هذه المرة ينتصر لصالح بسملة حين أقنعت أمها بالذهاب معها الى الانتخابات برغم كونها طفلة لاتزال، ولا يحق لها التصويت. إن بسملة تحلم بأن تكون ذات شأن فى المستقبل، ولابد أن تستفيد من تجربة كهذه الآن ،لتنتفع بها حين تكبر، فهى تحلم أن تصبح صحفية مشهورة ، ولسوف تكتب عن هذا اليوم فى مذكراتها.. كما أن شقيقها عمر يريد أن يصبح عالما ويدخل جامعة زويل،ويدرس فيها.. إن شخصيات صفاء عبد المنعم ليسوا مجرد أطفالا صغار يهتمون فقط باللعب، ولكنهم يحلمون، ويرسمون أحلامهم الملونة بأيديهم ويعملون جاهدين على تحقيق تلك الأحلام من خلال إصرارهم على التفوق..
وفى حكاية "ورقة بيضاء" وهى قصة تختلف عن بقية المجموعة بكونها تتكأ على أجواء خيالية وأنسنة الأشياء، واحتشادها بكم من المشاعر الفياضة المؤثرة وذلك من خلال حوارا بين ورقة نتيجة، وورقة بيضاء، تستعرض فيه ورقة النتيجة نفسها، وتفخر بكونها تمتاز بصفات تفتقر اليها الورقة البيضاء..وبطريقة بارعة نتعرف على أهمية ورقة النتيجة برغم حالة الصلف والغرور التى تعتليها، ونتعرف على أمجاد الورقة البيضاء ودورها الذى كان له أهمية قصوى فى حياتنا.. حين كنا نتبادل الرسائل البريدية من خلال الخطابات المكتوبة بخط اليد ، هذا مافعله عمر نفسه حين كان يرسل الخطابات الى الأصدقاء فى البلاد العربية .. وهى نفسها الورقة البيضاء التى كتب والد عمر ملاحظاته عليها حين كان يحضر لرسالة الدكتوراه. وبلغت الورقة البيضاء حالة من الحزن الشديد، والإحباط لكونها لم يعد لها فائدة، وإصرار ورقة النتيجة على التفاخر والتقليل من شأن صاحبتها، لكنها (أى الورقة البيضاء ) تسعد أيما سعادة حين تمسك بها بسملة وتقوم برسم طيورا كثيرة تطير، وترفرف بجناحيها، وأطفالا صغارا يلعبون بالبالونات، وأشجارا وزهورا جميلة.. وهكذا استعادت الورقة مكانتها مرة أخرى حين قامت بسملة بلصقها على الحائط.
وكأن القصة تؤكد على قيمة التواضع، وعدم ازدراء الآخرين فربما كانوا يمتلكون مهارات تفوق مهارتنا وقدراتنا.. كما علينا أن نفتش فى أنفسنا ولا نستسلم لحالات الإحباط واليأس لمجرد أن يتهمنا أحد أو يحاول النيل منا، فالقادم دائما أجمل.
وفى قصة " حلم خاص" تؤكد الكاتبة على أهمية الحلم، والعمل على تحقيقه منذ البداية.. فالصغير مصيره يكبر، وعليه أن يجتهد من الآن وكما تقول "شيرين" لزميلتها "بسملة": أنا ابنى حلمى كل يوم فى الليل وأنا نائمة، ابنى المدينة الجميلة، وأصمم مبانيها، وأرسم شوارعها المزخرفة...
ما أجمل أن نحلم، وما أروع أن نسعى جاهدين لتحقيق هذا الحلم .
وفى قصة "إجازة نصف العام" وهى ما تختم به الكاتبة مجموعتها القصصية، ننتقل هذه المرة الى المدرسة ليكون اللقاء بين المعلمة التى تشبه الى حد كبير الكاتبة نفسها ، فهى تحسن مخاطبة الصغار، وتستنفر فيهم طاقات الإبداع، وتتبادل معهم الحوار بأسلوب راقى وشائق، إنها المعلمة التى تؤمن بأهمية الموهبة، وتفتش عنها، وتسعى لاكتشافها، لتجد أن ثمة أطفالا كثيرون يحملون بين جوانحهم مواهب متعددة.. يقدمونها بكل سعادة وفخر.. لتنتهى القصة بحصول المدرسة على شهادة تقدير وبعض الجوائز العينيه التى كانت عبارة عن مجموعة من قصص ومجلات وعلب ألوان.
الكاتبة المبدعة صفاء عبد المنعم نجحت الى حد كبير فى توصيل رسالتها التربوية من خلال أسلوب قصصى بسيط وهادف.. وهى تمنحنا دروسا مهمة فى كيفية التحاور مع الصغار، واحترام وجهات نظرهم، كما تؤكد على إيمانها بجدوى الفن والإبداع وقدرته على صنع أجيال جديدة محملة بالأحلام التى حتما ستتحقق يوما ما.
المجموعة لاشك تزدان بلوحات رائعة للفنان هشام السعيد، الذى استطاع أن يجسد ملامح بسملة ببراءتها وطفولتها بشكل لافت وجميل.. وقد منحتنا الألوان فى فضاء الصفحات راحة نفسية.. مع رسومات طفولية توالدت من رحم النص، فكانت متسقة الى حد كبير مع القصص بشخصياتها البسيطة المحببة.
محمد المطارقى
المحلة الكبرى
مارس 2018

الجمعة، 2 مارس 2018

شتاء يناير

أهداء إلى / صديقتى الكاتبة إبتهال سالم
هناك من يحبك فى صمت دون أن تدرى
                                                                       






شتاء يناير
                                 

     رزاز خفيف يتطاير فوق رأسى فى السادسة صباحاَ، الجو مشبع ببخار الماء، والضباب الكثيف يحجب الرؤية، فلا تبين الأشياء إلا عند أقتراب الناس الذين يسيرون فرادا، فى هذا الصباح الشتوى الجديد .
أو أحيانا كثيرة أشعر، كأننى أسير بمفردى فى هذا الجو مبكرا .
الجو يشبه زجاجة الكوكولا المشبرة ، ضحكت فى داخلى وأنا أضع يدى داخل جيب المعطف الأخضر الثقيل ، ولكن نغزات خفيفة ومتتالية تخترق وتدخل إلى عظامى فى هذا الصباح الباكر .
بالأمس بلغ عمرى الخامسة والخمسين !
ضحكت ورددت بينى وبين نفسسى ( عام جديد ) أضيف إلى عمرك ياوزة  كم مرة جاء، وكم عام مضى ؟
دائما ما أحدث نفسى كثيرا، وأحيانا أهننها وأهدهدها مثل طفل صغير عصى، بالأمس فى الثامنة ونصف مساء، خرجت من مبنى التليفزيون العتيق بماسبيرو، كان الجو دافئا لا أعرف لماذا ؟
هل بسبب الحفاوة البالغة التى يستقبلنى بها العاملين منذ دخولى، بداية من موظف الأمن وأنتهاء بالمذيعة والمخرج ومهندس الصوت .
للمرة الثانية، أحضر إلى المبنى وأكون ضيفة على الهواء مباشرة، وعبر الأثير أهدى بسماتى وامنياتى للسادة المستمعين .
أنا أجهل تماما من يسمعنى .
ربما يكونون قلة، وربما يكونون كثر .. وربما لا يكون هناك أحدا بالمرة، ولكن هناك دائما هاجس خفى يزن فى أذنى ويقول لى بفرح شيطانى : من يسمع إذاعة ثقافية فى هذا الجو البارد ؟ أنك حالمة .
أضحك فى سرى وأغلق باب الشيطان سريعا، لأننى إذا سمحت له أن يعضعض فى أذنى ويتحث طويلا فلن أفعل شيئا . أغادر مبنى التليفزيون فى أطمئنان العاشق الواثق الذى بذل كل ما فى وسعه كى يحتفظ بمعشوقته، ولكنها  دائما لا ترضى عنه .
هكذا أنا !
أتعامل مع نفسى على أنها المعشوقة المتمردة، وأنا العاشق المتيم الذى دائما يحاول أسترضائها بكل السبل مهما تكلف من متاعب ومشقة .
ودائما ما أردد مقطع صلاح جاهين ..
( أيه يانفسى تطلبى فوق كل .. حظك بيضحك وأنت متنكده )
النفس أمارة بالسوء .
نعم .
ولكن نفسى مختلفة تماما فهى عشيقة تدربت على عشقها منذ سنوات طويلة، هى لا تحرضنى على فعل السوء أو الشر، بل على العكس تماما، هى ذات إنسانية لأبعد الحدود وتحثنى على الفضيلة كأنها واعظ تقى فى مسجد أو دير، ولكنها لا ترضى بالقليل من العمل والعطاء والمحبة، ومهما فعلت، لا ترضى أبدا عن مستوى الأداء، أو تشكرنى على جهد الوصول، ولكن دائما تلومنى وتشدنى من أذنى بأن هناك الكثير والكثير ولم أفعله بعد .
فأبدأ من جديد، وكأننى فى حالة لهاث مستمر أفعل .
أفعل .
أفعل .
كأن هناك شخص ما قوى يمسك بيده سوطا طويلا، ودائما يلهب ظهرى به، ولذا دائما ظهرى يؤلمنى بقوة وعنف لدرجة البكاء .
أحدثها : ياحبيبتى كفى لقد تيبست أطرافك، وثقل قلبك، وقل جهدك .
مهما حدثتها لا ترضى، بل تغضب وتتركنى وتذهب بعيدا عنى شاردة فى أشياء مبعثرة، وأخرى مهملة فى صندوق ذاكرتى البعيد، تدعبث فيه بذاكرتها وأطرافها عن أشياء قديمة وجميلة وصعيبة قد فعلتها من قبل، ثم تخرج علىً ضاحكة وهى تقول لى بملىء فيها سعيدة : شفتى، ياما فعلنا وعملنا وتعبنا .
أصمت وأسير وراءها بكل طيبة وود مثل كلب يلهث من الحر، وهي تربت على ظهرى أحيانا قليلة، أشعر كأنها أمى الرؤوم .. هذه هى نفسى .
فى الأحد الماضى أتممت الخامسة والخمسين، واحتفلت بى المذيعة المتألقة فردوس عبد الرحمن على الهواء مباشرة، مع السادة المستمعين بعيد ميلادى على الهواء، واسعدنى الحظ وسمعت صوت صديقة لى كنت أفتقدها من الزمن الجميل، ولم أراها منذ سنوات طويلة، وارسلت لى تهنئة رقيقة عبر الأثير .
هل سمعت الإذاعة مصادفة صديقتى ؟ أم أن الأرواح الطيبة تتلاقى، فنادت روحى روحها فحضرت، كان يوما جميلا .
قضيته مع المستمعين نتحدث عن أحتفال المصريين برأس السنة .
المصريون شعب محب للحياة، ويعشق الفن والغناء،إنه شعب صاحب حضارة عريقة ونادرة ، ولكن كما قال أستاذى جلال أمين( ماذا حدث للمصريين؟) .
حدث للمصريين مثلما يحدث مع أى شعب يترك هويته الحقيقية، ويرتدى عباءة غيرعبائته، لقد أحتار المؤرخون فى هوية مصر .
هل هى عربية ؟ أم قبطية ؟ فرعونية ؟أم شرق أوسطية ؟ أم بحر أبيض متوسط ؟ هل هى زراعية ؟ أم صحراوية ؟
لقد أحتاروا جغرافيا ومناخيا وتاريخيا وثقافيا، إنها كل هذا وأكثر، كوكتيل نادر الوجود .
وأحبها بكل تناقضاتها، وطيبتها، وضجيجها، وأرضها السمراء والصفراء  والحمراء، عشقها جمال حمدان فكتب عنها، وعشقها سيد عويس فهام فى حبها، وعشقتها أنا مثل كل العاشقين السابقين وأكثر .
من يأخذ لا يعطى، ومن يعطى لا ينظر إلى ماذا أخذ ؟
مصرتعطى الكثير مثل الأم الرؤم، ولا تطالب إلا بالحب إنها معشوقتى المدللة، هى أمى، وابنتى، واختى، هى كل شىء بالنسبة لى .
هى كما قال صلاح جاهين (على اسم مصر يقول التاريخ ماشاء، أنا مصرعندى أحب وأجمل الأشياء ) .
     الآن الساعة الثامنة ونصف مساء، أسير فى هذا الشتاء البارد بمفردى، اليوم هو الثالث من شهر يناير، والعشرون من شهر كهيك أحد الشهورالقبطية الباردة، أيام قليلة ويأتى شهر طوبة، البرد القارص، والماء العذب، كانت جدتى رحمها الله تطوب ملابسها فى هذا الشهر، وتستحم من ماء الزير حتى تعيش عمرا أطول وبصحة جيدة .
وكانت أحيانا تضحك عندما تمر طوبة بسلام دون أن تمطر وتردد جملتها الأثيرة من خلف دراديرها : روحى ياطوبة، ياللى مبلاتى ولاعرقوبة .
جدتى مثل الفلاحات المصريات القديمات تحب المطر، وتحب أن يسقط لأنه من وجهة نظرها المطرخير، يروى الأرض، ويسقى الزرع، ويفيض النيل، ويدفىء الجو، وفى اليوم الثانى عشر من شهر طوبة (يوم الغطاس) كانت تطهو لنا القلقاس، فنأكله على مضض وهى تضحك بشدة وحنو( غطست يانصرانى صيفت يامسلم بعد أربعينين ) فنعرف بعدها أن الصيف قادم وأن البرد إلى زوال .
وهى تجلس على المصلى الكبيرة فى الحجرة الداخلية تقول لأمى بعد شهر طوبة يأتى شهر أمشير فتزم شفتيها وتخفى ضحكتها الخبيثة وتقول :
( أمشير أبو الزعابير ) تقضم جدتى رأس البصلة بدراديرها وتهمس : أمشير يعفر يعفر ومهما يزعبب فيه روايح من روايح الصيف .

     نحن الصغار كنا نحب الشتاء ليلا، حيث نجتمع جميعا فى حجرة جدتى الداخلية البعيدة الدافئة، فهى تقع فى مكان قصى، وبعيدة عن يد البرد لا يطولها، اليد الطويلة التى تقرص الأطفال بشدة فى بطونهم الصغيرة، وتخرج لنا أمى الملابس الصوفية الثقيلة، وتصنع لنا المشروبات الساخنة اللذيذة مثل الحلبة والسحلب والقرفة باللبن .
كنت أحب السحلب، وأخى يحب الحلبة، وأمى تفضل كوب القرفة، وأبى يفضل الجنزبيل، وتصنع أمى كوكتيل المشروبات، وتضعه أمامنا، وكل منا يختار مايحبه فى صمت، وبهمس، وتدور الأحاديث الشيقة عن القرية وجنية الساقية، وأم الشعور، والحكايات تدور مع الأكواب الدافئة، والضيوف والحجرة البعيدة .
وفصل الشتاء البارد / الدافىء بالحب واللمة والصحبة والأصدقاء، وأبى الذى كنا لا نراه إلا نادرا كان يأتى فى فصل الشتاء مبكرا، ويجلس معنا فى حجرة الجدة البعيدة .
وتبدأ الحكايات القديمة، ونصطادها نحن الصغار، وننام نلهو فى أحلامنا مع الفراشات والقمر والنجوم العالية فى حكايات الجدة عن ست الحسن والجمال والشاطر حسن، والماضى البعيد البعيد، وذكرياتها وهى تحكى لنا عن ثورة 1919 وهى طفلة صغيرة تسمع الحكايات من أبيها عن هوجة عرابى فى 1881 والتى حدثت قبل ميلادها، وعن جدها الكبير الذى أخذته السلطة فى حفر قناة السويس، ثم هرب، ولا يعرفون مكانه إلى الآن .
هى تحكى، ونحن نسمع ونخزن فى ذاكراتنا الصغيرة، فتتسع، وتتسع، وكتبر مع الحكايات، ونطير مثل العصافير، محلقين نرفرف على أغصان الحكايات القديمة .
وكان ياما كان ياسعد يااكرام، ولا يحلى الكلام إلا بذكر النبى علية الصلاة والسلام، بنت جميلة اسمها ست الحسن والجمال .. وتبدأ الحكاية وتنتهى، ويكون الجميع نيام وفى حالة ثبات تام، وأظل أنا الوحيدة أنتظرالشاطرحسن على حصانه الأبيض كى ينقذ ست الحسن الجمال من بيت أمنا الغولة .
فى هذا الوقت تحديدا من الليل فى ينايرلا يعرفنى أحد .
ولا أحد فى أنتظارى . تعبت من السير طويلا، فقررت دخول المقهى والجلوس قليلا .
فقط أنا أقتل الوقت داخل المقهى، وأنظر إلى المارة بعينين شاخصتين جاحظتين غير محددة الهدف .
الصمت يلف المكان، وأنا وحدى أدندن مقاطع من أغانى مختلفة ومرتجلة، وتأتى ذاكرتى الممتلئة ببعض الأشعار المتناثرة والمتداخلة القديم منها والحديث .
     كان وجودى فى هذا المكان صدفة، دلفت إلى المقهى كى أحتمى من قطرات المطر المتاسقطة بشدة فوق رأسى .
اليوم علىً أن أنجز بعض الأعمال المهمة نهارا، وفى الليل علىً أن أقرأ الصفحات الأخيرة من كتاب ( الحالة دايت ) لصديقى المبدع سيد الوكيل .
فى البيت توجد بعض الأطعمة الجافة، وقليلا من الشاى والسكر، فى الفترة الأخيرة ذهدت فى كل شىء، الأكل ، والملبس، والمشروبات، حتى الشاى الذى كنت أعشقه، زهدته .
الفوضى أمامى وحولى فى كل مكان،بعض من المارة جاءوا إلى المقهى للأحتماء من المطر .
الجرسون النحيل وضع أمامى كوبا من الشاى وزجاجة مياة غازية .
شكرته بهزة من رأسى، فأنصرف فى أدب وتواضع، سألته عن اسم أحد العاملين فى المقهى، رد على بجفاء قائلا : ياه لسه فاكره، ترك المقهى من زمن .
 مازالت عيناى حائرة بين المقهى والشارع والعابرين القلائل فى هذا الجو المشبع برزاز المطرفى شهر يناير، ورائحة أوراق الشجر التى حولى لها رائحة العطن والأتربة المبللة، تركت المقهى الطارد لى بسرعة، وخرجت إلى الشارع، وظللت أسير بمفردى فى هذا الجو، حتى تعبت قدماى من السير طويلا .
أين يقع هذا المكان بالضبط، لا أعرف .
ولكننى وجدتنى مدفوعة تجاهه دون سابق معرفة، مكان منعزل وهادىء، ورغم صغر مساحته إلا أنه مكانا نظيفا وجميلا، والشاب الذى يقف أمام النصبة فى آخرالمقهى يبدو أنيقا ونظيفا، جلست أنتظر قليلا، حتى جاء الجرسون وطلبت كوبا من الشاى، حتى الجرسون الذى وضع كوب الشاى أمامى منذ دقائق، تبدو على ملامحه بعض الطيبة، ربما يكون من أبناء الطبقة المتوسطة المنهارة المكافحة من أجل البقاء  .
رن الهاتف الذى فى الحقيبة المعلقة إلى جوارى على يد المقعد، فتحتها وأخرجته، كان رقم غير معلوم بالنسبة لى، وعندما أخرجت الهاتف من الحقيبة كان قد توقف الرنين، فنظرت إليه ووضعته على المنضدة أمامى، وأخذت أنظر إلى المارة المتناثرين هنا وهناك .
مازلت أبحث فى ذاكرتى عن اسم المكان الذى أجلس فيه الآن، والذى قادتنى الصدفة إلى التواجد فيه، لا فائدة .
الجاكت الصوف الذى أرتديه الآن، أكتشفت أنه خفيف جدا بالنسبة لحالة الجو فى هذا الوقت، أو فى هذا الشتاء البارد تحديدا .


آلام حادة !            
 نعم .
أعانى من آلام حادة ومتعددة ومنتشرة فى مناطق كثيرة من جسدى .
جسدى الذى تحمل مشقات السفر والترحال والأحمال الثقيلة، وأكياس الرمل، وقدماى متعبتان الآن من حمله، ولهذا دائما ما أبحث عن أى مقهى قريب وأجلس عليه لبعض الوقت كى أستريح، ثم أواصل السيرمن جديد .
أصبحت أدمن المقاهى المنعزلة والمنتشرة على الأرصفة .
أجلس فى مكان منزوى وبعيدا، أراقب الناس والمارة بشغف، أفعل مثلما فعل باربوس فى روايته (الجحيم) أنظرعلى الناس من خلال ثقب صغير فى الحائط مثله، ولذا أسميته ثقب باربوس، أتابع الناس وحركاتهم أمام عينى، وأصبح الصمت يلازمنى كثيرا .
فقدت العام الماضى ومنذ شهور تحديدا أعز صديقة لدى، كانت هى بمثابة (الخل الوفى) فقدتها فقدا سريعا، لدرجة أننى إلى الآن لا أصدق ماحدث .
كيف حدث هذا ياحبيبتى فى غفلة منى ؟
أخذنى غيابك على غفلة وفجأة إلى هوة عميقة، وجدت نفسى هكذا بمفردى وحيدة، أسقى فى شقاء دائم ومتصل بعض الزهرات الذابلات من تاريخ صداقتنا الطويل والممتد منذ ثلاثين عاما أو أكثر .
شقاء دائم ومتصل !
كانت رفيقة عمر طويل وممتد منذ رأيتها أول مرة فى عام 1987 بصحبة الشاعر مجدى الجابرى بشبرا الخيمة، وصرنا بعدها صديقتين حميميتين مهما أفترقنا، نفترق ونلتقى، على فترات قريبة أو بعيدة حتى وفاتها .
تركتنى أكمل الرحلة بمفردى، وحرمت على قلبى المتعب دخول صديقة جديدة عليه مهما حاولت الأخريات .
أخذت مفتاح قلبى ورحلت بعيدا .
كانت تفهمنى دون حديث، وتواسينى دون كلل، هل أنا خائنة لصداقتنا ؟ وضعيفة إلى حد الهزال كى أتركها بمفردها هكذا ترحل فى صمت ودون وداع ؟
قلبى الحزين المتعب يلومنى كثيرا، وكأننى أنا المذنبة أمام نفسى، لماذا تركتها فى آخر مرة على الرصيف المواجهة للجامعة الأمريكية بميدان التحرير ليلة الأحتفال بأفتتاح قناة السويس الجديدة فى أغسطس 2015 .
يومها كنا فى أتيليه القاهرة للفنانين والكتاب، بشارع الأنتيكخانة بوسط البلد
وسرنا معا من ميدان طلعت حرب حتى ميدان التحرير، ونحن نغنى ونضحك فى عظمة وشموخ، ونحن فارحات بليلة جميلة من ليالى شهر أغسطس الحار، ونحلم معا بأيام جميلة قادمة بعد ثورتين كبيرتين كما قيل، وبعد حكم الأخوان  لمصرلمدة عام واحد فقط .
كانت تسير معنا صديقة مشتركة، كنا ثلاثة سيدات ضاحكات، فارحات، مازحات، نرفع أصابعنا بعلامة النصر، والتقطنا أخر صورة لنا معا، هل حقا كانت أخر صورة ؟
أنا وهى والصديقة .
وقفنا نلتقط صورة تذكارية فى ميدان التحرير المزين بالأعلام واللافتات أستعدادا للحفل البهيج غدا .
قالت لنا بضحكاتها المعتادة المبتهجة : إيه رأيكم يابنات ننزل تانى بكرة ميدان التحرير ونحتفل معا بقناة السويس الجديدة .
ضحكت أنا وأعتذرت لها بأننى لن استطيع الحضور .
وقالت الأخرى : وأنا كذلك .
أما هى فقالت بإصرار عنيد : أنا سوف أأتى، وأحتفل مع الناس الفرحين بالنصر، وبهذا الحدث السعيد .
وقفنا كثيرا على الرصيف نلتقط الصور التذكارية، كنا نضحك، نضحك ، حتى أغرورقت عيوننا من كثرة الضحك وامتلأت بالدموع .
وأصابنى صداع نصفى فجأة من شدة الحر والتعب، فاعتذرت لهما ونزلنا السلم سويا تجاة محطة مترو الأنفاق .
وأفترقنا كل منا فى طريقها إلى البيت .
لأول مرة ومنذ مايقرب من ثلاثين عاما تقريبا تكون معى ونفترق كل منا فى طريق مختلف، عكس ما أعتدنا عليه دائما، أن تذهب معى إلى البيت ونقضى عدة أيام معا .
كنت أنا وهى وعلى مدى سنوات طويلة، وخاصة فى الفترة الأخيرة وبعد وفاة زوجى تحديدا منذ عام 1999، كانت لا تتركنى بمفردى طويلا، خاصة عندما نكون فى وسط البلد، أو فى سهرة من سهراتنا فى الأتيليه أو فى ندوات، نظل معا، ونسقط على الجريون، نحتسى زجاجتين من البيرة المثلجة، وهى تدخن، وتطرد الألم والحزن من داخلها مع دخان السجائر، وأنا أضحك بشدة، وأحيانا كثيرة كانت تطلب شيشة تفاح، نسهر ونحكى ونضحك ونتألم ونصمت، وأحيانا تنزل بعض الدمعات الرقيقة غاسلة كل الهموم، وتعود معى إلى البيت نكمل السهرة وحوارتنا الطويلة عن الأدب والثقافة، كانت تسمعنى أحدث كتاباتها، وأنا اقرأ لها آخر أعمالى الأدبية، ونسمع أغانى فيروز والشيخ سيد درويش ومرسال خليفة والشيخ إمام، ونضحك، نضحك، ونحن نأكل سويا الطعام الذى أحضرناه من السوبر ماركت قبل صعودنا .
ودائما فى آخر الليل كانت تضحك فى حزن وهى تربت على ظهرى بيديها الصغيرتين وأصابعها المكتنزة قليلا : دايمن عامر بحسك ياوزة .
أضحك وأنا أمد يدى لها بكوب الشاى الساخن : تسلمى ياحبيبتى، ربنا مايحرمنى منك .
تقبل رأسى فى حنو أم وهى تملس على شعرى الأسود الناعم : ياسلام ياوزة، أنا مباحسش بالراحة دى غير فى بيتك ده .
أضحك ثانية بفرح طفولى وسعادة بالغة، وأنا أفتح كتاب الأعمال الكاملة لسعدى يوسف واقرأ لها بعض المقاطع التى أحبها واعشقها من قصيدته الجميلة (الأخضر بن يوسف يكتب قصيدته الأخيرة)
( مقطع وراء مقطع من سعدى يوسف )
تقوم من مكانها منتفضة وسعيدة وهى تصفق بيديها مثل طفل فرح، وفى بهاء لا يقاوم تدخل إلى المطبخ، تصنع لنا كوبين من الشاى جديدين .
وتأتى حاملة الصينية بين يديها مثل مراهقة وهى تهلل : تعرفى ياصفصف  أنا بعشق بتكم ده، بحس فيه براحتى، كأنه بيتى .
أضحك وانا أبحث فى المكتبة عن كتاب جديد أكون قد أشتريته حديثا حتى أريه لها  : ماهو بيتك ياقلبى، تحبى أعمل لك نسخة من المفتاح .
تضع صينية الشاى على المكتب، ثم تخرج علبة سجائرها الكليوباترا من شنطتها، وتشعل سيجارة، وتدخن فى صمت وحبور، ثم تصرخ فىً هاتفة : أيه رأيك ياوزة، عايزة اسمع مقطع من رواية (فى الليل لما خلى) أنا بعشق الرواية دى، فيها مساحة صدق عالى، وصفاء نفس، بحس أنها حتة منك بجد ياصفصف .
أمد يدى أخرج الرواية من بين الكتب المرصوصة فى المكتبة بعناية بالغة، وأجلس أمام المكتب، أنا اقرأ، وهى تسمع فى صمت، وتدخن بشراهة، وتشرب الشاى فى استمتاع وتلذذ .
( مقطع وراء مقطع من رواية فى الليل لما خلى ) .
بعد أن أنتهى من القراءة، وتنتهى هى من شرب الشاى، واشعال مايقرب من الخمس أو الست سجائر، تصمت فى استرخاء غريب، ثم تذهب فى النوم، وتغط فيه بعمق وهى جالسة مكانها على الكنبة أمامى فى حجرة المكتب .
ألاحظ أنا ذلك، أخرج من الحجرة على أطراف أصابعى، واتركها تنام، وتستمتع بأحلامها، تكون الساعة قد تجاوزت الثالثة أو الرابعة فجرا، أدخل حجرتى، وأضع رأسى على المخدة، وأذهب فى النوم، فى ثبات عميق،أحلم أننى طفلة صغيرة بضفيرتين معقوصتين خلف رأسى، وجدتى تحكى لى حكاية من حكاياتها الجميلة، وانا أنصت فى اهتمام شديد ثم ارى كل الراحلين دفعة واحدة .
جدتى وأمى وزوجى، وشخصيات أخرى بعيدة، رحلت منذ زمن سحيق، ربما أكون قد رأيتهم وأنا طفلة، وربما أكون قد سمعت عنهم من حكايات الجدة ولم أراهم من قبل، ولكننى كونت عنهم فى مخيلتى صورة صادقة ومقربة لهم، وأحيانا أذهب فى أحلامى إلى أماكن عديدة ومختلفة واستحالة أن أكون ذهبت إليها من قبل، أصعد جبال، وأهبط وديان، وأغوص حتى أذنى فى بحر عميق، واستيقظ مفزوعة وأنا على حافة الغرق . وهم مازالوا  يضحكون، يضحكون بشدة، ويذهبون بعيدا عنى .
أجلس مكانى صامتة، أستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أنظر إلى الساعة فى الموبايل أجدها قد تجاوزت الثانية عشر ظهرا .
أقوم من مكانى، واخرج من حجرتى، أجدها قد استيقظت، وتجلس بمفردها تشاهد نشرة الأخبار، تنظر نحوى وهى تضحك : أنا صحيت من بدرى، وخفت تقلقى، ووطيت صوت التليفزيون .
أدخل الحمام،أغسل وجهى، ثم أتجه نحو المطبخ، أصنع كوبين من الشاى،وأأتى إلى جوارها ، نجلس سويا ونشاهد نشرة الأخبار، ونتبادل التعليقات على الأحداث الجارية .
     طوال أيام الثورة فى 25 يناير 2011، وفى 30 يونيه،وطوال فترة حكم الأخوان لمصر ، والذى لم يدم طويلا أكثر من عام واحد فقط، ونحن نادرا ما نفترق سواء فى البيت أو فى الشارع، أو فى ميدان التحرير، وكم من مرات تفرقنا وسط الزحام، ثم نعود فنلتقى .
كان الزحام يبتلعنا مثل الدوامة، هى تجد نفسها فى ميدان التحرير قرب مجمع التحرير وشارع القصر العينى، وأنا أجد نفسى فجأة فى ميدان عابدين، وسط جموع هادرة ومختلفة، ولا أعرفهم، يستبد بى الخوف والفزع، وأخاف، أخاف مثل طفل صغير فقد أمه، وضاع منها وسط الزحام، أجرى، أجرى، وأهرول، أريد أن أصرخ، لكن صوتى يذهب بعيدا عنى، وسط الحشود الهاتفة .
من شدة الخوف .
أبلع ريقى الجاف، يخرج صوتى مشروخا، كأن طفلا ابتعدت عنه أمه وتاهت وسط الزحام، أفتح الموبايل، أهاتفها، لا تسمع صوتي من وسط صراخ الجماهير .
ولكن فى لحظة أجد من ينادى علىً من الأصدقاء، وكأن العناية الألهية فى هذه اللحظة أرسلته لنجدتى، ولكى يكون إلى جوارى أنا الحزينة المتعبة التى لا تكترث كثيرا بالموت، ولكن مازال الله يرعاها، ويحنو عليها فيرسل لها ملائكته من البشر فى أخر لحظة وقبل السقوط تحت أقدام الجموع الهادرة .
أنا نعجة ضالة ياالله ، فخذ بيدى .
إنه الفزع الرهيب، رأيته بأم عينيى مرتين أو أكثر أثناء أندلاع الثورة، المرة الأولى كنت بالقرب من شارع محمد محمود أنخلع قلبى يومها وغاب عنى وسقط تحت قدمى، والمرة الثانية كنت بالقرب من مبنى التليفزيون أثناء أندلاع أحداث ماسبيرو، كانت صديقتى مريضة ومحجوزة بمستشفى معهد ناصر لأجراء عملية المرارة لها، وخرجت بعد زيارتها، ورأيت ما رأيت، كان يوما تشيب له الولدان، النار فى كل مكان، والصراخ، وطلقات الرصاص، كنت بالقرب من مبنى التليفزيون فى بولاق أبو العلا، أقف على الرصيف المواجه أتابع الأحداث بعينين جاحظتين وخوف لا ينتهى، وكأن الله أرسلنى كى أرى، وأكون شاهدة على مايحدث، هرج، ناس تصرخ، وناس تهرول، وطلقات مدوية، ونيران مشتعلة .
يالله .. كيف نجت عبدتك الفقيرة الطيبة فى المرتين ؟
رغم أننى كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت، وخفت أن أحدث البنتين أو أبى أو أخوتى عن ذلك، حتى لا تزداد مخاوفهم علىً .
لقد رأيت الموت .
لا أحد يصدق .
لأننى لا أتاجر بالأحداث والمواقف، ولا أدعى البطولة، ولا اربى عداوة مجانية، ولا أضمر الشر لأحد .
أنا الأستاذة مديرة المدرسة التى تقع فى شارع 26 يوليو والمجاورة لمبنى وزارة الخارجية، ورأت الأحداث منذ بدايتها فى أول يوم لها، يوم 25 يناير 2011 يوم عيد الشرطة .
فى يوم 27 يناير الخميس واليوم الثالث لأندلاع الثورة، سألنى بعض الزملاء سؤالا عابرا : تفتكرى ياميس الثورة هتستمر، وهتنجح .
صمت قليلا مثل عرافة عجوز، ثم قلت لهم مثل خبيرعسكرى : لو استمرت ليوم واحد كمان، أعرفوا أن الثورة مستمرة، وهتنجح .
لا أعرف لماذا كنت على يقين بهذا القول ؟
ولا أعرف أن الأمل كان يبث مشاعره الطيبة والقوية فى قلوب العاشقين الثوريين .
النبؤات .
من أين أتتنى الحكمة، وأنا السلحفاة العجوز والتى مرت بتجارب عديدة وكثيرة منذ طفولتها وإلى الان ؟ إنها حكاياتك ياجدتى عن التاريخ والمواقف والأبطال الشجعان .
أذكر منها على سبيل المثال هزيمة 1967، وحرب الأستنزاف، وحرب أكتوبر 1973، وأحداث 17، 18 يناير1977وأتفاقية كامب ديفيد، وزيارة الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس، وأتفاقية السلام ...الخ ..الخ .
أحداث، وراءأحداث، وراء أحداث .
وكأن ذاكرة الطفلة الصغيرة والتى كانت تختبىء خلف جدتها من صوت المدافع والطائرات، وتبكى خائفة من صوت الرجال القوى فى الشارع : طفى النور طفى النور . وصوت سفارة الغارة،  ثم بعد ذلك سفارة الأمان   
كانت تتسع لكل هذا وتخزنه فى مخزن بعيد وعميق من مخازن الذاكرة .
ولكن لماذا تفاءلت بإستمرار الثورة ونجاحها ؟
ولماذا خفت فى المرتين السابقتين على نفسى أثناء أحداث موقعة الجمل الشهيرة فى 28 يناير 2011 (جمعة الغضب) .
كنت فى البيت، أتابع مثل الكثيرين مايحدث عبر شاشة التلفاز، وأنا أجلس على كنبة الأنترية الصغيرة فى صباح يوم الجمعة، وأصرخ بصوت مرتفع : هتقتلوهم ياولاد الكلب، الشباب هيموت ياولاد الكلب .
من القاتل ؟
ومن المقتول ؟
كنت أرى الجمال تهرس الشباب فى الميدان، وكأننى أشاهد فيلما سينمائيا من أفلام الأبيض وأسود، فيلم عنترة بن شداد مثلا، أو فجر الإسلام .
أختلطت الصور، وتشوشت الرؤية، وأصابنى الدوارالشديد من كثرة البكاء والصراخ، وحزنت حزنا جما وعميقا من قلبى، ولا أعرف مصدره أو أتجاهه(لمن الملك اليوم؟) .
هل قامت القيامة ؟
ثم بعثت ؟
سمعت كثيرا عن ساعة النحس فى يوم الجمعة .
ولكن لم أكن أخمن أننى سوف أراها هكذا متجسدة أمام عينىً بهذا الشكل الفظيع .
حتى عندما قرأت رواية ماركيز(فى ساعة نحس) كنت أدرك تماما وبشكل واعى ومنطقى، أننى أقرأ رواية .
رغم رداءة الترجمة .
ولكنها فى النهاية رواية من صنع خيال مؤلف .
حتى فى رواية(الجرينال فى متاهته) لنفس الكاتب، كنت أعرف بالوعى الكلى أنها عمل أدبى مهما أضفى عليه المؤلف من وقائع وحقائق تاريخية، رواية كتبها مبدع فرد، خلق أحداثها، ورسم شخصياتها بكل دقة .
ولكن أن أرى وأسمع وأشاهد مايحدث هكذا، هذا تجاوز للواقع بكل إبداعاته السابقة .
من يستطيع أن يكتب عن كل هذا وبدقة فى يوم من الأيام، لقد وقعنا فى الفخ، ومات شباب كثيرون .
(الورد اللى فتح فى جناين مصر) .

                             *****************  







فبراير 27, 2018

اللهجة العامية هي الحامل الحقيقي لتراث الشعوب

الكاتبة المصرية صفاء عبدالمنعم تؤكد أن المأثورات الشعبية اليوم تعاني التهميش وأن التطور المتسارع غير الثقافة الشعبية الممتدة لآلاف السنوات.
لقد تغيرت الكثير من العادات
غالبا ما ينظر إلى اللهجة العامية بنظرة دونية، على أنها غير قادرة على أن تحوي فكرا أو أدبا راقيا أو أن تكون حمالة فنية، وهذا ما فندته الكثير من الأعمال الإبداعية من أغان وأفلام ومسرحيات وحتى كتب وقصص وأشعار قدمت كلها بالعامية دون أن تفقد المعطيات الجمالية أو العمق المطلوبين في الأعمال الفنية.
“العرب” التقت الكاتبة المصرية صفاء عبدالمنعم التي حاولت رد الاعتبار للهجة العامية المصرية من خلال اشتغالها في رواياتها أو كتبها البحثية بهذه اللهجة.
صفاء عبدالمنعم روائية وباحثة في الأدب الشعبي المصري، كتبت العديد من الأعمال الموجهة للطفل وتتأسف لندرة أناشيد الطفل اليوم والسبب برأيها يعود لقلة الكتابة الجيدة.
 وتقول ضيفتنا “لا يوجد اهتمام كاف بالطفل، حتى الألعاب الشعبية والأغاني القديمة اختفت ونادرا ما نجد أما تغني لطفلها مثلما كان يحدث معنا ونحن أطفال”.

تغير التقاليد

 تؤمن عبدالمنعم أن هوية الشخص مستمدة من هوية وطنه، من الثقافة العامة واللغة، والعادات والتقاليد، واللغة العامية (المصرية) هي حاملة لهذا التراث لأنها لغة الخطاب اليومي.
وفي كتابها الصادر حديثا “داية وماشطة” تستمر الكاتبة في تجميع الأمثال والعادات الشعبية المصرية وكأنها بهذا الكتاب توثق أثرا قارب على الامحاء.
تقول عبدالمنعم “إن المأثورات الشعبية اليوم تعاني التهميش، مع دخول فكر جديد مختلف كليا عن أفكار المجتمع المصرى، فكر يقوم على تحريم أشياء كثيرة كان المصري يمارسها بتلقائية وباستمرار”.
هناك أمثال شعبية تهاجر من مكان إلى مكان مع التجار والمسافرين وغيرهم لتنتقل من بيئة إلى أخرى
 
وتضيف “على سبيل المثال: ظاهرة السبوع، كنا نحتفل بدق الهون وتوزيع الحلوى على الأطفال، تم استبدالها بالذبح وعمل ‘العقيقة‘، أكل اللحم والفتة. المضيفة التي كان يقام فيها العزاء، كل عائلة كان لها مضيفة خاصة بها، تم استبدالها بإقامة العزاء في الجامع. الفرح كان يقام في المنزل أو السطوح أو الشارع والبنات تغني وترقص والمزمار البلدي كان يزف العفش، تم استبدال كل ذلك بـ ‘القاعة‘ في الفنادق أوالأندية”.

الشخصية المصرية

في كتابها “داية وماشطة”، ذكرت عبدالمنعم الكثير من العادات والتقاليد المصرية في الزواج والسبوع وحدوتة ما قبل النوم ودفن الميت وغيرها من العادات التي وإن لم تختف فقد تم إدخال التعديلات عليها بسبب تسارع نمط الحياة.
هنا تشير الكاتبة إلى أنه “للأسف الشديد حدثت بعض التغيرات، المجتمع المصري يمتد تراثه إلى الآلاف من السنين وهو يتطور مع تطور الزمن واللغة ودخول ثقافات جديدة ومغايرة، ولكن الشخصية المصرية لها سمات خاصة بها بسبب ارتباطها بالأرض، وطريقة التفكير”.
وتتابع “مجتمعنا زراعي بالأساس، فالمصري بطبعه ودود، يحب العشرة، صبور، يتحمل الشدائد، ونادرا ما يثور، ولا يتعدى على حقوق الغير، فهو بطبعه غير مغير، ولا يحتل أرض غيره. وحريص على بيته ودينه”.
وتضيف “القصص والحكايات والأمثال الشعبية التي أقوم بتجميعها هي جزء كبير من الأعراف والحكم والنواهي والقوانين، تعكس بشكل ضمني طبيعة الشخصية المصرية وأفكارها المتوارثة عبر الأجيال”.
 اهتمام عبدالمنعم بالموروث الثقافي الشعبي في كتاب “داية وماشطة”، سبقته روايتها “من حلاوة روح” التي كتبت باللهجة العامية. تحدثنا الكاتبة عن ذلك قائلة “المسألة ليست بعيدة تماما بين رواية ‘من حلاوة الروح‘ التي كتبت بالعامية المصرية وطبعت عام 2001، وبين كتاب ‘داية وماشطة‘ الذي يتحدث عن العادات والتقاليد منذ الميلاد وحتى الوفاة وطبع عام 2018، أي بعد مرور 18 عاما، لأن البيئة الثقافية واحدة، وقد تكون متشابهة كثيرا، الحياة الشعبية البسيطة لجميع سكان البيت والحي الذي يعيشون فيه، وقد خرجت جميع نساء البيت للعمل في أعمال متواضعة بسبب الأزمة الاقتصادية بعد حرب 67،  فالسياق الثقافي والفكري والاجتماعي متشابه”.

مرونة النص الشفاهي

توثيق أثر قارب على الامحاء
توثيق أثر قارب على الامحاء
مع انتشار الأزمات الاقتصادية تظهر مهن مختلفة للنساء، الماشطة تحولت إلى مزينة، والغسالة تستدعى لغسل الصحون أثناء المناسبات، والدلالة والخياطة هذه المهن محافظة على بقائها في كافة المجتمعات تقريبا.
هذا يعني أن العادات والتقاليد واحدة. وهو ما تؤكده عبدالمنعم مضيفة أنه قد تكون هناك اختلافات طفيفة بين وجه بحري والصعيد في مصر مثلا، ولكنها ليست فروقا جوهرية، ويمكن أن تدخل عليها بعض التعديلات حسب الظروف والحالة الاقتصادية، وخصوصا عند المرأة المعيلة التي تخرج لسوق العمل وهي على قدر بسيط من التعليم، فتعمل بالطبع في مهن بسيطة ويدوية ولا تحتاج إلى إعمال الفكر، فالماشطة أصبحت كوافير، ويشاركها الرجل في هذا العمل، وغيرها من المهن المذكورة لأن هذا تطور طبيعي مع تطور المجتمع والتكنولوجيا التي تلعب دورا مهما في تطوير أو تغير هذه المهن.
الكثير من الأمثال الشعبية المصرية الواردة في كتاب “داية وماشطة”، لا تزال متداولة ووصلت إلى بلدان مختلفة. في ليبيا مثلا تستخدم بعض هذه الأمثال المصرية مثل “مركب الضراير سارت، ومركب السلايف غارت”. هذا يؤكد أن النص الشفاهي يمتلك قدرة على التغيير وملاءمة الظروف المختلفة.
تعلق عبدالمنعم على ذلك قائلة “هناك أمثال شعبية تهاجر من مكان إلى مكان. تهاجر مع التجار والمسافرين والعاملين والعلاقات الإنسانية، وتنتقل من بيئة إلى أخرى، وميزة اللغة العامية (الشفاهية) المصرية أنها لغة سهلة ويمكن التحدث بها، اللغة وعاء الفكر، وهي سهلة الحفظ والتداول، والمثل يقال في موقف أو ظرف خاص، ينتهي الموقف ويظل المثل الملخص لما حدث ويتم تداوله في موقف مشابه للأصل، ‘مركب الضراير سارت ومركب السلايف غارت’ لأن الضرة يمكن أن تتفق مع ضرتها على الزوج أو على أهله أو على تربية الأولاد، لكن السلايف كل واحدة تريد أن تنفرد برأيها”.
وتختتم صفاء عبدالمنعم حديثها مشيرة إلى الصعوبات التي واجهتها أثناء تجميع مادة الكتاب، منها عدم التفرغ الكامل لهذا العمل، فهي تعمل في مؤسسة حكومية. وتضيف “من الصعوبات عدم التمكن من السفر إلى جميع المحافظات خاصة الصعيد. التعثر المادي، رفض بعض الرواة الإجابة عن بعض الأسئلة الخاصة بالجنس مثلاً”.

قصة صورة

  صورة ---------------- كانت تقصد. بالتأكيد كانت تقصد. وفعلت ذلك عن عمد. ربما تكون غير محترفة! ربما! عندما أعطيتها الموبايل وط...

المتابعون