أهداء إلى / صديقتى الكاتبة إبتهال سالم
هناك من يحبك فى صمت دون أن تدرى
شتاء يناير
رزاز خفيف يتطاير فوق رأسى فى السادسة
صباحاَ، الجو مشبع ببخار الماء، والضباب الكثيف يحجب الرؤية، فلا تبين الأشياء إلا
عند أقتراب الناس الذين يسيرون فرادا، فى هذا الصباح الشتوى الجديد .
أو أحيانا كثيرة أشعر، كأننى أسير بمفردى فى
هذا الجو مبكرا .
الجو يشبه زجاجة الكوكولا المشبرة ، ضحكت فى
داخلى وأنا أضع يدى داخل جيب المعطف الأخضر الثقيل ، ولكن نغزات خفيفة ومتتالية
تخترق وتدخل إلى عظامى فى هذا الصباح الباكر .
بالأمس بلغ عمرى الخامسة والخمسين !
ضحكت ورددت بينى وبين نفسسى ( عام جديد )
أضيف إلى عمرك ياوزة كم مرة جاء، وكم عام
مضى ؟
دائما ما أحدث نفسى كثيرا، وأحيانا أهننها
وأهدهدها مثل طفل صغير عصى، بالأمس فى الثامنة ونصف مساء، خرجت من مبنى التليفزيون
العتيق بماسبيرو، كان الجو دافئا لا أعرف لماذا ؟
هل بسبب الحفاوة البالغة التى يستقبلنى بها
العاملين منذ دخولى، بداية من موظف الأمن وأنتهاء بالمذيعة والمخرج ومهندس الصوت .
للمرة الثانية، أحضر إلى المبنى وأكون ضيفة
على الهواء مباشرة، وعبر الأثير أهدى بسماتى وامنياتى للسادة المستمعين .
أنا أجهل تماما من يسمعنى .
ربما يكونون قلة، وربما يكونون كثر .. وربما
لا يكون هناك أحدا بالمرة، ولكن هناك دائما هاجس خفى يزن فى أذنى ويقول لى بفرح
شيطانى : من يسمع إذاعة ثقافية فى هذا الجو البارد ؟ أنك حالمة .
أضحك فى سرى وأغلق باب الشيطان سريعا، لأننى
إذا سمحت له أن يعضعض فى أذنى ويتحث طويلا فلن أفعل شيئا . أغادر مبنى التليفزيون
فى أطمئنان العاشق الواثق الذى بذل كل ما فى وسعه كى يحتفظ بمعشوقته، ولكنها دائما لا ترضى عنه .
هكذا أنا !
أتعامل مع نفسى على أنها المعشوقة المتمردة،
وأنا العاشق المتيم الذى دائما يحاول أسترضائها بكل السبل مهما تكلف من متاعب
ومشقة .
ودائما ما أردد مقطع صلاح جاهين ..
( أيه يانفسى تطلبى فوق كل .. حظك بيضحك وأنت
متنكده )
النفس أمارة بالسوء .
نعم .
ولكن نفسى مختلفة تماما فهى عشيقة تدربت على
عشقها منذ سنوات طويلة، هى لا تحرضنى على فعل السوء أو الشر، بل على العكس تماما،
هى ذات إنسانية لأبعد الحدود وتحثنى على الفضيلة كأنها واعظ تقى فى مسجد أو دير،
ولكنها لا ترضى بالقليل من العمل والعطاء والمحبة، ومهما فعلت، لا ترضى أبدا عن
مستوى الأداء، أو تشكرنى على جهد الوصول، ولكن دائما تلومنى وتشدنى من أذنى بأن
هناك الكثير والكثير ولم أفعله بعد .
فأبدأ من جديد، وكأننى فى حالة لهاث مستمر
أفعل .
أفعل .
أفعل .
كأن هناك شخص ما قوى يمسك بيده سوطا طويلا،
ودائما يلهب ظهرى به، ولذا دائما ظهرى يؤلمنى بقوة وعنف لدرجة البكاء .
أحدثها : ياحبيبتى كفى لقد تيبست أطرافك،
وثقل قلبك، وقل جهدك .
مهما حدثتها لا ترضى، بل تغضب وتتركنى وتذهب
بعيدا عنى شاردة فى أشياء مبعثرة، وأخرى مهملة فى صندوق ذاكرتى البعيد، تدعبث فيه
بذاكرتها وأطرافها عن أشياء قديمة وجميلة وصعيبة قد فعلتها من قبل، ثم تخرج علىً
ضاحكة وهى تقول لى بملىء فيها سعيدة : شفتى، ياما فعلنا وعملنا وتعبنا .
أصمت وأسير وراءها بكل طيبة وود مثل كلب يلهث
من الحر، وهي تربت على ظهرى أحيانا قليلة، أشعر كأنها أمى الرؤوم .. هذه هى نفسى .
فى الأحد الماضى أتممت الخامسة والخمسين، واحتفلت
بى المذيعة المتألقة فردوس عبد الرحمن على الهواء مباشرة، مع السادة المستمعين
بعيد ميلادى على الهواء، واسعدنى الحظ وسمعت صوت صديقة لى كنت أفتقدها من الزمن
الجميل، ولم أراها منذ سنوات طويلة، وارسلت لى تهنئة رقيقة عبر الأثير .
هل سمعت الإذاعة مصادفة صديقتى ؟ أم أن
الأرواح الطيبة تتلاقى، فنادت روحى روحها فحضرت، كان يوما جميلا .
قضيته مع المستمعين نتحدث عن أحتفال المصريين
برأس السنة .
المصريون شعب محب للحياة، ويعشق الفن
والغناء،إنه شعب صاحب حضارة عريقة ونادرة ، ولكن كما قال أستاذى جلال أمين( ماذا
حدث للمصريين؟) .
حدث للمصريين مثلما يحدث مع أى شعب يترك
هويته الحقيقية، ويرتدى عباءة غيرعبائته، لقد أحتار المؤرخون فى هوية مصر .
هل هى عربية ؟ أم قبطية ؟ فرعونية ؟أم شرق
أوسطية ؟ أم بحر أبيض متوسط ؟ هل هى زراعية ؟ أم صحراوية ؟
لقد أحتاروا جغرافيا ومناخيا وتاريخيا
وثقافيا، إنها كل هذا وأكثر، كوكتيل نادر الوجود .
وأحبها بكل تناقضاتها، وطيبتها، وضجيجها،
وأرضها السمراء والصفراء والحمراء، عشقها
جمال حمدان فكتب عنها، وعشقها سيد عويس فهام فى حبها، وعشقتها أنا مثل كل العاشقين
السابقين وأكثر .
من يأخذ لا يعطى، ومن يعطى لا ينظر إلى ماذا
أخذ ؟
مصرتعطى الكثير مثل الأم الرؤم، ولا تطالب
إلا بالحب إنها معشوقتى المدللة، هى أمى، وابنتى، واختى، هى كل شىء بالنسبة لى .
هى كما قال صلاح جاهين (على اسم مصر يقول
التاريخ ماشاء، أنا مصرعندى أحب وأجمل الأشياء ) .
الآن
الساعة الثامنة ونصف مساء، أسير فى هذا الشتاء البارد بمفردى، اليوم هو الثالث من
شهر يناير، والعشرون من شهر كهيك أحد الشهورالقبطية الباردة، أيام قليلة ويأتى شهر
طوبة، البرد القارص، والماء العذب، كانت جدتى رحمها الله تطوب ملابسها فى هذا
الشهر، وتستحم من ماء الزير حتى تعيش عمرا أطول وبصحة جيدة .
وكانت أحيانا تضحك عندما تمر طوبة بسلام دون
أن تمطر وتردد جملتها الأثيرة من خلف دراديرها : روحى ياطوبة، ياللى مبلاتى ولاعرقوبة
.
جدتى مثل الفلاحات المصريات القديمات تحب
المطر، وتحب أن يسقط لأنه من وجهة نظرها المطرخير، يروى الأرض، ويسقى الزرع، ويفيض
النيل، ويدفىء الجو، وفى اليوم الثانى عشر من شهر طوبة (يوم الغطاس) كانت تطهو لنا
القلقاس، فنأكله على مضض وهى تضحك بشدة وحنو( غطست يانصرانى صيفت يامسلم بعد
أربعينين ) فنعرف بعدها أن الصيف قادم وأن البرد إلى زوال .
وهى تجلس على المصلى الكبيرة فى الحجرة
الداخلية تقول لأمى بعد شهر طوبة يأتى شهر أمشير فتزم شفتيها وتخفى ضحكتها الخبيثة
وتقول :
( أمشير أبو الزعابير ) تقضم جدتى رأس البصلة
بدراديرها وتهمس : أمشير يعفر يعفر ومهما يزعبب فيه روايح من روايح الصيف .
نحن الصغار كنا نحب الشتاء ليلا، حيث نجتمع
جميعا فى حجرة جدتى الداخلية البعيدة الدافئة، فهى تقع فى مكان قصى، وبعيدة عن يد
البرد لا يطولها، اليد الطويلة التى تقرص الأطفال بشدة فى بطونهم الصغيرة، وتخرج
لنا أمى الملابس الصوفية الثقيلة، وتصنع لنا المشروبات الساخنة اللذيذة مثل الحلبة
والسحلب والقرفة باللبن .
كنت أحب السحلب، وأخى يحب الحلبة، وأمى تفضل
كوب القرفة، وأبى يفضل الجنزبيل، وتصنع أمى كوكتيل المشروبات، وتضعه أمامنا، وكل
منا يختار مايحبه فى صمت، وبهمس، وتدور الأحاديث الشيقة عن القرية وجنية الساقية،
وأم الشعور، والحكايات تدور مع الأكواب الدافئة، والضيوف والحجرة البعيدة .
وفصل الشتاء البارد / الدافىء بالحب واللمة
والصحبة والأصدقاء، وأبى الذى كنا لا نراه إلا نادرا كان يأتى فى فصل الشتاء مبكرا،
ويجلس معنا فى حجرة الجدة البعيدة .
وتبدأ الحكايات القديمة، ونصطادها نحن الصغار،
وننام نلهو فى أحلامنا مع الفراشات والقمر والنجوم العالية فى حكايات الجدة عن ست
الحسن والجمال والشاطر حسن، والماضى البعيد البعيد، وذكرياتها وهى تحكى لنا عن ثورة
1919 وهى طفلة صغيرة تسمع الحكايات من أبيها عن هوجة عرابى فى 1881 والتى حدثت قبل
ميلادها، وعن جدها الكبير الذى أخذته السلطة فى حفر قناة السويس، ثم هرب، ولا
يعرفون مكانه إلى الآن .
هى تحكى، ونحن نسمع ونخزن فى ذاكراتنا
الصغيرة، فتتسع، وتتسع، وكتبر مع الحكايات، ونطير مثل العصافير، محلقين نرفرف على
أغصان الحكايات القديمة .
وكان ياما كان ياسعد يااكرام، ولا يحلى
الكلام إلا بذكر النبى علية الصلاة والسلام، بنت جميلة اسمها ست الحسن والجمال ..
وتبدأ الحكاية وتنتهى، ويكون الجميع نيام وفى حالة ثبات تام، وأظل أنا الوحيدة
أنتظرالشاطرحسن على حصانه الأبيض كى ينقذ ست الحسن الجمال من بيت أمنا الغولة .
فى هذا الوقت تحديدا من الليل فى ينايرلا
يعرفنى أحد .
ولا أحد فى أنتظارى . تعبت من السير طويلا،
فقررت دخول المقهى والجلوس قليلا .
فقط أنا أقتل الوقت داخل المقهى، وأنظر إلى
المارة بعينين شاخصتين جاحظتين غير محددة الهدف .
الصمت يلف المكان، وأنا وحدى أدندن مقاطع من
أغانى مختلفة ومرتجلة، وتأتى ذاكرتى الممتلئة ببعض الأشعار المتناثرة والمتداخلة
القديم منها والحديث .
كان وجودى فى هذا المكان صدفة، دلفت إلى
المقهى كى أحتمى من قطرات المطر المتاسقطة بشدة فوق رأسى .
اليوم علىً أن أنجز بعض الأعمال المهمة نهارا،
وفى الليل علىً أن أقرأ الصفحات الأخيرة من كتاب ( الحالة دايت ) لصديقى المبدع
سيد الوكيل .
فى البيت توجد بعض الأطعمة الجافة، وقليلا من
الشاى والسكر، فى الفترة الأخيرة ذهدت فى كل شىء، الأكل ، والملبس، والمشروبات،
حتى الشاى الذى كنت أعشقه، زهدته .
الفوضى أمامى وحولى فى كل مكان،بعض من المارة
جاءوا إلى المقهى للأحتماء من المطر .
الجرسون النحيل وضع أمامى كوبا من الشاى
وزجاجة مياة غازية .
شكرته بهزة من رأسى، فأنصرف فى أدب وتواضع،
سألته عن اسم أحد العاملين فى المقهى، رد على بجفاء قائلا : ياه لسه فاكره، ترك
المقهى من زمن .
مازالت عيناى حائرة بين المقهى والشارع والعابرين
القلائل فى هذا الجو المشبع برزاز المطرفى شهر يناير، ورائحة أوراق الشجر التى
حولى لها رائحة العطن والأتربة المبللة، تركت المقهى الطارد لى بسرعة، وخرجت إلى
الشارع، وظللت أسير بمفردى فى هذا الجو، حتى تعبت قدماى من السير طويلا .
أين يقع هذا المكان بالضبط، لا أعرف .
ولكننى وجدتنى مدفوعة تجاهه دون سابق معرفة،
مكان منعزل وهادىء، ورغم صغر مساحته إلا أنه مكانا نظيفا وجميلا، والشاب الذى يقف أمام
النصبة فى آخرالمقهى يبدو أنيقا ونظيفا، جلست أنتظر قليلا، حتى جاء الجرسون وطلبت
كوبا من الشاى، حتى الجرسون الذى وضع كوب الشاى أمامى منذ دقائق، تبدو على ملامحه
بعض الطيبة، ربما يكون من أبناء الطبقة المتوسطة المنهارة المكافحة من أجل البقاء .
رن الهاتف الذى فى الحقيبة المعلقة إلى جوارى
على يد المقعد، فتحتها وأخرجته، كان رقم غير معلوم بالنسبة لى، وعندما أخرجت الهاتف
من الحقيبة كان قد توقف الرنين، فنظرت إليه ووضعته على المنضدة أمامى، وأخذت أنظر
إلى المارة المتناثرين هنا وهناك .
مازلت أبحث فى ذاكرتى عن اسم المكان الذى
أجلس فيه الآن، والذى قادتنى الصدفة إلى التواجد فيه، لا فائدة .
الجاكت الصوف الذى أرتديه الآن، أكتشفت أنه
خفيف جدا بالنسبة لحالة الجو فى هذا الوقت، أو فى هذا الشتاء البارد تحديدا .
آلام حادة !
نعم
.
أعانى من آلام حادة ومتعددة ومنتشرة فى مناطق
كثيرة من جسدى .
جسدى الذى تحمل مشقات السفر والترحال
والأحمال الثقيلة، وأكياس الرمل، وقدماى متعبتان الآن من حمله، ولهذا دائما ما
أبحث عن أى مقهى قريب وأجلس عليه لبعض الوقت كى أستريح، ثم أواصل السيرمن جديد .
أصبحت أدمن المقاهى المنعزلة والمنتشرة على
الأرصفة .
أجلس فى مكان منزوى وبعيدا، أراقب الناس والمارة
بشغف، أفعل مثلما فعل باربوس فى روايته (الجحيم) أنظرعلى الناس من خلال ثقب صغير
فى الحائط مثله، ولذا أسميته ثقب باربوس، أتابع الناس وحركاتهم أمام عينى، وأصبح
الصمت يلازمنى كثيرا .
فقدت العام الماضى ومنذ شهور تحديدا أعز
صديقة لدى، كانت هى بمثابة (الخل الوفى) فقدتها فقدا سريعا، لدرجة أننى إلى الآن
لا أصدق ماحدث .
كيف حدث هذا ياحبيبتى فى غفلة منى ؟
أخذنى غيابك على غفلة وفجأة إلى هوة عميقة، وجدت
نفسى هكذا بمفردى وحيدة، أسقى فى شقاء دائم ومتصل بعض الزهرات الذابلات من تاريخ
صداقتنا الطويل والممتد منذ ثلاثين عاما أو أكثر .
شقاء دائم ومتصل !
كانت رفيقة عمر طويل وممتد منذ رأيتها أول
مرة فى عام 1987 بصحبة الشاعر مجدى الجابرى بشبرا الخيمة، وصرنا بعدها صديقتين
حميميتين مهما أفترقنا، نفترق ونلتقى، على فترات قريبة أو بعيدة حتى وفاتها .
تركتنى أكمل الرحلة بمفردى، وحرمت على قلبى
المتعب دخول صديقة جديدة عليه مهما حاولت الأخريات .
أخذت مفتاح قلبى ورحلت بعيدا .
كانت تفهمنى دون حديث، وتواسينى دون كلل، هل
أنا خائنة لصداقتنا ؟ وضعيفة إلى حد الهزال كى أتركها بمفردها هكذا ترحل فى صمت
ودون وداع ؟
قلبى الحزين المتعب يلومنى كثيرا، وكأننى أنا
المذنبة أمام نفسى، لماذا تركتها فى آخر مرة على الرصيف المواجهة للجامعة
الأمريكية بميدان التحرير ليلة الأحتفال بأفتتاح قناة السويس الجديدة فى أغسطس
2015 .
يومها كنا فى أتيليه القاهرة للفنانين
والكتاب، بشارع الأنتيكخانة بوسط البلد
وسرنا معا من ميدان طلعت حرب حتى ميدان
التحرير، ونحن نغنى ونضحك فى عظمة وشموخ، ونحن فارحات بليلة جميلة من ليالى شهر
أغسطس الحار، ونحلم معا بأيام جميلة قادمة بعد ثورتين كبيرتين كما قيل، وبعد حكم الأخوان لمصرلمدة عام واحد فقط .
كانت تسير معنا صديقة مشتركة، كنا ثلاثة
سيدات ضاحكات، فارحات، مازحات، نرفع أصابعنا بعلامة النصر، والتقطنا أخر صورة لنا
معا، هل حقا كانت أخر صورة ؟
أنا وهى والصديقة .
وقفنا نلتقط صورة تذكارية فى ميدان التحرير
المزين بالأعلام واللافتات أستعدادا للحفل البهيج غدا .
قالت لنا بضحكاتها المعتادة المبتهجة : إيه
رأيكم يابنات ننزل تانى بكرة ميدان التحرير ونحتفل معا بقناة السويس الجديدة .
ضحكت أنا وأعتذرت لها بأننى لن استطيع الحضور
.
وقالت الأخرى : وأنا كذلك .
أما هى فقالت بإصرار عنيد : أنا سوف أأتى، وأحتفل
مع الناس الفرحين بالنصر، وبهذا الحدث السعيد .
وقفنا كثيرا على الرصيف نلتقط الصور
التذكارية، كنا نضحك، نضحك ، حتى أغرورقت عيوننا من كثرة الضحك وامتلأت بالدموع .
وأصابنى صداع نصفى فجأة من شدة الحر والتعب،
فاعتذرت لهما ونزلنا السلم سويا تجاة محطة مترو الأنفاق .
وأفترقنا كل منا فى طريقها إلى البيت .
لأول مرة ومنذ مايقرب من ثلاثين عاما تقريبا
تكون معى ونفترق كل منا فى طريق مختلف، عكس ما أعتدنا عليه دائما، أن تذهب معى إلى
البيت ونقضى عدة أيام معا .
كنت أنا وهى وعلى مدى سنوات طويلة، وخاصة فى الفترة
الأخيرة وبعد وفاة زوجى تحديدا منذ عام 1999، كانت لا تتركنى بمفردى طويلا، خاصة
عندما نكون فى وسط البلد، أو فى سهرة من سهراتنا فى الأتيليه أو فى ندوات، نظل معا،
ونسقط على الجريون، نحتسى زجاجتين من البيرة المثلجة، وهى تدخن، وتطرد الألم والحزن
من داخلها مع دخان السجائر، وأنا أضحك بشدة، وأحيانا كثيرة كانت تطلب شيشة تفاح،
نسهر ونحكى ونضحك ونتألم ونصمت، وأحيانا تنزل بعض الدمعات الرقيقة غاسلة كل الهموم،
وتعود معى إلى البيت نكمل السهرة وحوارتنا الطويلة عن الأدب والثقافة، كانت تسمعنى
أحدث كتاباتها، وأنا اقرأ لها آخر أعمالى الأدبية، ونسمع أغانى فيروز والشيخ سيد
درويش ومرسال خليفة والشيخ إمام، ونضحك، نضحك، ونحن نأكل سويا الطعام الذى أحضرناه
من السوبر ماركت قبل صعودنا .
ودائما فى آخر الليل كانت تضحك فى حزن وهى
تربت على ظهرى بيديها الصغيرتين وأصابعها المكتنزة قليلا : دايمن عامر بحسك ياوزة
.
أضحك وأنا أمد يدى لها بكوب الشاى الساخن :
تسلمى ياحبيبتى، ربنا مايحرمنى منك .
تقبل رأسى فى حنو أم وهى تملس على شعرى
الأسود الناعم : ياسلام ياوزة، أنا مباحسش بالراحة دى غير فى بيتك ده .
أضحك ثانية بفرح طفولى وسعادة بالغة، وأنا أفتح
كتاب الأعمال الكاملة لسعدى يوسف واقرأ لها بعض المقاطع التى أحبها واعشقها من
قصيدته الجميلة (الأخضر بن يوسف يكتب قصيدته الأخيرة)
( مقطع وراء مقطع من سعدى يوسف )
تقوم من مكانها منتفضة وسعيدة وهى تصفق
بيديها مثل طفل فرح، وفى بهاء لا يقاوم تدخل إلى المطبخ، تصنع لنا كوبين من الشاى
جديدين .
وتأتى حاملة الصينية بين يديها مثل مراهقة
وهى تهلل : تعرفى ياصفصف أنا بعشق بتكم
ده، بحس فيه براحتى، كأنه بيتى .
أضحك وانا أبحث فى المكتبة عن كتاب جديد أكون
قد أشتريته حديثا حتى أريه لها : ماهو
بيتك ياقلبى، تحبى أعمل لك نسخة من المفتاح .
تضع صينية الشاى على المكتب، ثم تخرج علبة
سجائرها الكليوباترا من شنطتها، وتشعل سيجارة، وتدخن فى صمت وحبور، ثم تصرخ فىً
هاتفة : أيه رأيك ياوزة، عايزة اسمع مقطع من رواية (فى الليل لما خلى) أنا بعشق
الرواية دى، فيها مساحة صدق عالى، وصفاء نفس، بحس أنها حتة منك بجد ياصفصف .
أمد يدى أخرج الرواية من بين الكتب المرصوصة
فى المكتبة بعناية بالغة، وأجلس أمام المكتب، أنا اقرأ، وهى تسمع فى صمت، وتدخن
بشراهة، وتشرب الشاى فى استمتاع وتلذذ .
( مقطع وراء مقطع من رواية فى الليل لما خلى
) .
بعد أن أنتهى من القراءة، وتنتهى هى من شرب الشاى،
واشعال مايقرب من الخمس أو الست سجائر، تصمت فى استرخاء غريب، ثم تذهب فى النوم،
وتغط فيه بعمق وهى جالسة مكانها على الكنبة أمامى فى حجرة المكتب .
ألاحظ أنا ذلك، أخرج من الحجرة على أطراف
أصابعى، واتركها تنام، وتستمتع بأحلامها، تكون الساعة قد تجاوزت الثالثة أو الرابعة
فجرا، أدخل حجرتى، وأضع رأسى على المخدة، وأذهب فى النوم، فى ثبات عميق،أحلم أننى
طفلة صغيرة بضفيرتين معقوصتين خلف رأسى، وجدتى تحكى لى حكاية من حكاياتها الجميلة،
وانا أنصت فى اهتمام شديد ثم ارى كل الراحلين دفعة واحدة .
جدتى وأمى وزوجى، وشخصيات أخرى بعيدة، رحلت
منذ زمن سحيق، ربما أكون قد رأيتهم وأنا طفلة، وربما أكون قد سمعت عنهم من حكايات
الجدة ولم أراهم من قبل، ولكننى كونت عنهم فى مخيلتى صورة صادقة ومقربة لهم، وأحيانا
أذهب فى أحلامى إلى أماكن عديدة ومختلفة واستحالة أن أكون ذهبت إليها من قبل، أصعد
جبال، وأهبط وديان، وأغوص حتى أذنى فى بحر عميق، واستيقظ مفزوعة وأنا على حافة
الغرق . وهم مازالوا يضحكون، يضحكون بشدة،
ويذهبون بعيدا عنى .
أجلس مكانى صامتة، أستعيذ بالله من الشيطان
الرجيم، أنظر إلى الساعة فى الموبايل أجدها قد تجاوزت الثانية عشر ظهرا .
أقوم من مكانى، واخرج من حجرتى، أجدها قد
استيقظت، وتجلس بمفردها تشاهد نشرة الأخبار، تنظر نحوى وهى تضحك : أنا صحيت من
بدرى، وخفت تقلقى، ووطيت صوت التليفزيون .
أدخل الحمام،أغسل وجهى، ثم أتجه نحو المطبخ،
أصنع كوبين من الشاى،وأأتى إلى جوارها ، نجلس سويا ونشاهد نشرة الأخبار، ونتبادل
التعليقات على الأحداث الجارية .
طوال أيام الثورة فى 25 يناير 2011، وفى 30 يونيه،وطوال فترة حكم الأخوان
لمصر ، والذى لم يدم طويلا أكثر من عام واحد فقط، ونحن نادرا ما نفترق سواء فى
البيت أو فى الشارع، أو فى ميدان التحرير، وكم من مرات تفرقنا وسط الزحام، ثم نعود
فنلتقى .
كان الزحام يبتلعنا مثل الدوامة، هى تجد
نفسها فى ميدان التحرير قرب مجمع التحرير وشارع القصر العينى، وأنا أجد نفسى فجأة
فى ميدان عابدين، وسط جموع هادرة ومختلفة، ولا أعرفهم، يستبد بى الخوف والفزع،
وأخاف، أخاف مثل طفل صغير فقد أمه، وضاع منها وسط الزحام، أجرى، أجرى، وأهرول،
أريد أن أصرخ، لكن صوتى يذهب بعيدا عنى، وسط الحشود الهاتفة .
من شدة الخوف .
أبلع ريقى الجاف، يخرج صوتى مشروخا، كأن طفلا
ابتعدت عنه أمه وتاهت وسط الزحام، أفتح الموبايل، أهاتفها، لا تسمع صوتي من وسط
صراخ الجماهير .
ولكن فى لحظة أجد من ينادى علىً من الأصدقاء،
وكأن العناية الألهية فى هذه اللحظة أرسلته لنجدتى، ولكى يكون إلى جوارى أنا
الحزينة المتعبة التى لا تكترث كثيرا بالموت، ولكن مازال الله يرعاها، ويحنو عليها
فيرسل لها ملائكته من البشر فى أخر لحظة وقبل السقوط تحت أقدام الجموع الهادرة .
أنا نعجة ضالة ياالله ، فخذ بيدى .
إنه الفزع الرهيب، رأيته بأم عينيى مرتين أو
أكثر أثناء أندلاع الثورة، المرة الأولى كنت بالقرب من شارع محمد محمود أنخلع قلبى
يومها وغاب عنى وسقط تحت قدمى، والمرة الثانية كنت بالقرب من مبنى التليفزيون
أثناء أندلاع أحداث ماسبيرو، كانت صديقتى مريضة ومحجوزة بمستشفى معهد ناصر لأجراء
عملية المرارة لها، وخرجت بعد زيارتها، ورأيت ما رأيت، كان يوما تشيب له الولدان،
النار فى كل مكان، والصراخ، وطلقات الرصاص، كنت بالقرب من مبنى التليفزيون فى
بولاق أبو العلا، أقف على الرصيف المواجه أتابع الأحداث بعينين جاحظتين وخوف لا
ينتهى، وكأن الله أرسلنى كى أرى، وأكون شاهدة على مايحدث، هرج، ناس تصرخ، وناس
تهرول، وطلقات مدوية، ونيران مشتعلة .
يالله .. كيف نجت عبدتك الفقيرة الطيبة فى
المرتين ؟
رغم أننى كنت قاب قوسين أو أدنى من الموت،
وخفت أن أحدث البنتين أو أبى أو أخوتى عن ذلك، حتى لا تزداد مخاوفهم علىً .
لقد رأيت الموت .
لا أحد يصدق .
لأننى لا أتاجر بالأحداث والمواقف، ولا أدعى
البطولة، ولا اربى عداوة مجانية، ولا أضمر الشر لأحد .
أنا الأستاذة مديرة المدرسة التى تقع فى شارع
26 يوليو والمجاورة لمبنى وزارة الخارجية، ورأت الأحداث منذ بدايتها فى أول يوم
لها، يوم 25 يناير 2011 يوم عيد الشرطة .
فى يوم 27 يناير الخميس واليوم الثالث
لأندلاع الثورة، سألنى بعض الزملاء سؤالا عابرا : تفتكرى ياميس الثورة هتستمر،
وهتنجح .
صمت قليلا مثل عرافة عجوز، ثم قلت لهم مثل
خبيرعسكرى : لو استمرت ليوم واحد كمان، أعرفوا أن الثورة مستمرة، وهتنجح .
لا أعرف لماذا كنت على يقين بهذا القول ؟
ولا أعرف أن الأمل كان يبث مشاعره الطيبة
والقوية فى قلوب العاشقين الثوريين .
النبؤات .
من أين أتتنى الحكمة، وأنا السلحفاة العجوز
والتى مرت بتجارب عديدة وكثيرة منذ طفولتها وإلى الان ؟ إنها حكاياتك ياجدتى عن
التاريخ والمواقف والأبطال الشجعان .
أذكر منها على سبيل المثال هزيمة 1967، وحرب
الأستنزاف، وحرب أكتوبر 1973، وأحداث 17، 18 يناير1977وأتفاقية كامب ديفيد، وزيارة
الرئيس الراحل محمد أنور السادات للقدس، وأتفاقية السلام ...الخ ..الخ .
أحداث، وراءأحداث، وراء أحداث .
وكأن ذاكرة الطفلة الصغيرة والتى كانت تختبىء
خلف جدتها من صوت المدافع والطائرات، وتبكى خائفة من صوت الرجال القوى فى الشارع :
طفى النور طفى النور . وصوت سفارة الغارة،
ثم بعد ذلك سفارة الأمان
كانت تتسع لكل هذا وتخزنه فى مخزن بعيد وعميق
من مخازن الذاكرة .
ولكن لماذا تفاءلت بإستمرار الثورة ونجاحها ؟
ولماذا خفت فى المرتين السابقتين على نفسى
أثناء أحداث موقعة الجمل الشهيرة فى 28 يناير 2011 (جمعة الغضب) .
كنت فى البيت، أتابع مثل الكثيرين مايحدث عبر
شاشة التلفاز، وأنا أجلس على كنبة الأنترية الصغيرة فى صباح يوم الجمعة، وأصرخ بصوت
مرتفع : هتقتلوهم ياولاد الكلب، الشباب هيموت ياولاد الكلب .
من القاتل ؟
ومن المقتول ؟
كنت أرى الجمال تهرس الشباب فى الميدان،
وكأننى أشاهد فيلما سينمائيا من أفلام الأبيض وأسود، فيلم عنترة بن شداد مثلا، أو
فجر الإسلام .
أختلطت الصور، وتشوشت الرؤية، وأصابنى
الدوارالشديد من كثرة البكاء والصراخ، وحزنت حزنا جما وعميقا من قلبى، ولا أعرف
مصدره أو أتجاهه(لمن الملك اليوم؟) .
هل قامت القيامة ؟
ثم بعثت ؟
سمعت كثيرا عن ساعة النحس فى يوم الجمعة .
ولكن لم أكن أخمن أننى سوف أراها هكذا متجسدة
أمام عينىً بهذا الشكل الفظيع .
حتى عندما قرأت رواية ماركيز(فى ساعة نحس)
كنت أدرك تماما وبشكل واعى ومنطقى، أننى أقرأ رواية .
رغم رداءة الترجمة .
ولكنها فى النهاية رواية من صنع خيال مؤلف .
حتى فى رواية(الجرينال فى متاهته) لنفس
الكاتب، كنت أعرف بالوعى الكلى أنها عمل أدبى مهما أضفى عليه المؤلف من وقائع
وحقائق تاريخية، رواية كتبها مبدع فرد، خلق أحداثها، ورسم شخصياتها بكل دقة .
ولكن أن أرى وأسمع وأشاهد مايحدث هكذا، هذا
تجاوز للواقع بكل إبداعاته السابقة .
من يستطيع أن يكتب عن كل هذا وبدقة فى يوم من
الأيام، لقد وقعنا فى الفخ، ومات شباب كثيرون .
(الورد اللى فتح فى جناين مصر) .
*****************