السبت، 21 فبراير 2015

د. عزت تقرأ هذه الرواية الفاتنة
"حلاوة روح" صفاء عبد المنعم
فرق كبير بين تعبيرين عاميين لا اختلاف بينهما من حيث الصياغة.. إلا في حرف الجر "من"، في حين أن الفارق بينهما من حيث المعنى والدلالة كبير جدا.. بل شاسع، فإن تقول:  "حلاوة الروح" فذلك يعنى الجمال الخفي غير المرئي لإنسان لطيف وخفيف الظل، وقلبه نقي شفاف يشي بما في داخله، وينعكس هذا الباطن الحلو على سلوكه فيحبب الناس فيه، وبين أن تضيف حرف الجر "من" إلى هذا المصطلح الشعبي، لتعطى دلالة مختلفة تماما! فيصبح المعنى "المعافرة أو الفرفرة قبل الاحتضار"، أو ما نشاهده من حركات الغريق أو الذبيح.. قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة تشبثا بالحياة.
هذا بالضبط ما استشعرته منذ الوهلة الأولى لمطالعتي رواية القاصة الروائية صفاء عبد المنعم، المعنونة "حلاوة الروح"، والمصاغة بكاملها باللهجة العامية المصرية، التي عكست خفة وحلاوة روح القاصة وقدرتها على تقديم واقع مرير بأسلوب خفيف، ومع كل طي لصفحة من هذه الرواية تأكد لي تمكن الكاتبة من مفردات هذه اللهجة الحلوة والثرية، التي لا تقل بحال  ـ إن لم تكن تزيد ـ حلاوة وثراء عن اللغة العربية الأم.. بكل جمالها وجلالها، وكثرة مترادفاتها، ودقة الفروق بين مفرداتها، وما تسوقه إلينا ألفاظها ومصطلحاها من دلالات.
هذا وقد أدركت ضرورة ـ لا بل حتمية ـ التجاء الكاتبة لصياغة روايتها بالعامية.. دون الفصحى، لتعبر بصدق متناه عن واقع ما يجري من أحداث ومواجهات، وصراعات في مجتمع عشوائي يعافر ويلاطم أفراده مع الحياة وأنوائها، وتصعد وتهبط به أمواجها، فتغرقه تارة، وتطفو به تارة أخرى.. ولكن ليس إلى السطح.. بل إلى مستوى أعلى قليلا  من القاع السفلى للمجتمع، إلى الحد الذي  يتصور معه هؤلاء الأفراد أو الشخصيات أنهم يعلون على واقعهم المرير.. غير مدركين أنهم لم ولن يطفوا بحال من ألأحوال  على السطح، فهم في القاع دائما.. دون أن يغادروه!! فهم يسكنونه وهو يسكنهم.. يتمرغون في أوحاله، ويدمي كل منهم الآخر في صراع متنام يخرجون منه خاسرين دائما الغالب والمغلوب يتصارعون في قاع ضيق رغم تفاوت مستوى هذا القاع! يتصارعون دون وعي منهم أنهم جميعا ضحايا لمجتمع قاس، ولظروف ظالمة لهم جميعا.
الحقيقة أن رواية صفاء عبد المنعم " من حلاوة الروح" قدمت للقارئ المصري لغة بسيطة وعميقة في آن معا، ولم تتعال عليه.. إذا كان من البسطاء، والمبتدئين والعامة من القراء، كما أنها قدمت للمكتبة العربية وللقارئ المثقف ـ أو حتى الرافض لفكرة صياغة رواية بالعامية ـ متعة حقيقية، تعكس اتساقا بين لغة السرد وطبيعة الأحداث، والشخصيات المرسومة بدقة.. ودون أن يتعالى الراوي على شخوص روايته، لينطقهم بلسان غير لسانهم.
هذا وإن كانت صفاء عبد المنعم ليست رائدة في هذا المجال.. إذ سبقاها يوسف القعيد في روايته "لبن العصفور"، ومصطفي مشرفة في رواية "قنطرة الذي  كفر" وغيرهما .. إلا أن  صفاء وبحس المرأة المصرية، حاملة الثقافة الشعبية، وناقتلها عبر الأجيال، قد تفوقت على كل من سبقوها إلى كتابة رواية بالعامية، من حيث التمكن من التعبير، وإنطاق الشخصيات كل بما يناسبه تماما كحوار، كما أن استخدامها للمصطلحات الشعبية والكنايات والاستعارات والأمثال والعديد والغناء الشعبي قد جاء في موضعه تماما، معبرا بصدق ودقة عما تقصده بما اقتبسه، من بحر الشفهيات الشعبية من عبارات وتشبيهات وصيغ.
ذلك كله على مستوى الحوار ومدى توظيفه كعنصر أساسي في السرد الروائي.. كبديل لاستخدام الوصف، الذي  بات يملل المتلقي، الذي  تعود على التلقي المختصر السريع، والمباشر  في عصر الرؤية والسمع من خلال وسائط مسموعة ومرئية.. وليست مقروءة، فنجد أن صفاء عبد المنعم أخذت بيده بالأسلوب الذي  يناسبه، ويثير شهيته ويثير شغفه للاستمرار في المطالعة، فقسمت فصول روايتها إلى ما يشبه المشاهد المرئية، التي يغلب فيها الحوار على السرد والوصف، فلم نجد الكثير من الوصف .. إلا إذا اقتصت الضرورة، لتوظيف الوصف في موضع لا مفر فيه من استخدامه كأداة من أدوات القص الروائي المكتوب.
هذا ولم يشعر القارئ للحظة أن صفاء عبد المنعم قد تعسفت في بنائها الروائي، لتضع عنوانا لكل فصل، يبتر تسلسل الأحداث في مخيلة القارئ المسترسلة.. بل جاءت عناوين الفصول وكأنها جزء لا يتجزأ من الحكي الروائي، وكأن جملة العنوان جزء متمم لأحداث الفصل السابق، أو جملة افتتاحية لأحداث الفصل التالي.
أما عن زمن الرواية في حقبة نهاية الستينيات وأحداث النكسة، وهجرة سكان مدن القناة، ومنافستهم لسكان حي شعبي من أحياء القاهرة في الرزق، وتأثيرهم عليهم ماديا ومعنويا، واكتساب سكان هذا الحي لبعض مهارات هؤلاء المهاجرين.. رغم سخطهم وتبرمهم من مزاحمتهم لهم في مصادر الرزق الضيقة، فأرى أنه كان اختيار موفقا جدا من الروائية صفاء عبد المنعم.. إذا كان هناك ثمة تعمد لاختيارا زمن الرواية.. وأنه لم يأت عفوا، لأن بعض الأحداث الواقعية التي أثارت رغبتها في القصة كانت تدور في هذه الحقبة الزمنية بالذات.. وإن كنت قد أحسست.. بل أدركت أنها تخيرت هذه الحقبة بالذات، لأنها أرادت أن تسقط ملامح هذا الصراع من أجل  البقاء على ما يحدث من صراع داخل العشوائيات، التي باتت كثيرة ومتناثرة على أطراف مدينة القاهرة بكل أحيائها.. حتى دون أن يكون هناك دخل، أو مهاجرون، فسكان هذه الأحياء يفد إليهم ويرحل عنهم أناس كثيرون دائما، يأتون ليقاسموهم لقمة العيش، ويصارعوهم عليها، ثم ما ينفكون يرحلون إلى عشوائية أخرى.. أو لعلها أرادت أن تشير إلى صراع البشر داخل العشوائية المجتمعية التي نعيشها الآن ونعافر فيها من حلاوة الروح.. لكن الواضح من إنهائها لروايتها بوفاة الرئيس جمال عبد الناصر، وما شعر به الناس من يتم حقيقي وضياع، يشبه الاحتضار أو معاناة ما قبل الاحتضار ، التي يسميها الوجدان الشعبي المصري "من حلاوة الروح".
ولعل أبرز الملامح الشعبية التي ركزت عليها صفاء عبد المنعم في روايتها "من حلاوة الروح" النسيج الواحد للشعب المصري، وما يجمع بين عنصريه من وحدة في العادات والتقاليد.. بل والمعتقدات.. حتى الديني منها، مهما اختلفت ديانتهم، فنجدهم في الملمات والمصائب لا يفرقون كثيرا بين ولي من أولياء الله.. مسلما كان أم نصرانيا، فيجتمعون على طلب العون منه بالتبادل دون تفريق.. ولعل ذلك ما حدا بالرواية إلى اختيار مكان أحداث الرواية في حي المطرية، وما يحيط به من أحياء لتلتجئ شخصيات روايتها إلى سيدي المطراوي أو شجرة مريم، أو كنيسة العذراء ـ التي قيل بظهور العذراء فيها ـ في حي الزيتون، القريب من موقع الأحداث في الرواية، فكان اختيار المكان موفقا جدا من الروائية، ومناسبا تماما للمعاني التي ترمي للإشارة إليها من خلال عرضها للوقائع.
أما عن أسلوب العرض على طول الرواية، فأرى أنه أقرب إلى العرض المرئي منه إلى العرض المطبوع ـ حتى وإن كان أمام رواية مكتوبة ـ فالفصول كانت أشبه بمشاهد السيناريو السينمائي المحكم ـ ولا أقول التليفزيوني المترهل ـ فالتقطيع كان شبيه بالمونتاج الجيد، حافظت فيه الراوية على التقطيع السريع، الذي  يصعد الأحداث، ويحافظ على إيقاعها في نفس الوقت، ولا يقود القارئ بحال للحظة ملل واحدة، أو حتى لحظة شرود عن مجرى الأحداث المتلاحقة، واستعراض الملابسات الخاصة بكل شخصية، مع الحفاظ على الخط العام للرواية، وأحداثها المتشابكة.
أما عن شخصيات الرواية فقد رسمت بدقة وإحكام، ولم تفلت من الكاتبة أي   لحظة يشعر فيها القارئ  بصدور أي   سلوك أو تصرف، أو تعبير يتناقض وملامح كل شخصية، فالكاتبة لم تتعال ـ كما سبق القول ـ على شخصياتها، وحركتهم كلا وفقا لملامحه الشخصية، كما أنطقتهم بالحوار الملائم لكل منهم، ولعل حبها لشخوص روايتها هو ما جعلها ترسمها بشكل يجعل القارئ يتعاطف مع كل شخصية.. حتى الشرير منها، لأن الشر في رواية "من حلاوة الروح" كان له ما يبرره، وقد أتى في إطار المشروع، بالنسبة لك فرد يعافر من أجل البقاء، و"يرفس من حلاوة الروح"، وقد يضر بمصالح من حوله، ليجد لنفسه موضع قدم في هذا المجتمع العشوائي المزدحم أو المكتظ بسكانه، وبتعارض مصالحهم، وصراعهم من أجل استمرار حياتهم.. وإن ساد منطق القوة وهيمنتها في المجتمعات العشوائية التي يسعى البشر فيها لتقليد بعضهم لبعض والغيرة من تميزهم، ومحاولة توسيع وبناء مساكن جديدة منفصلة لها قدر من الخصوصية على أطراف العشوائية الأساسية من خلال مصادر استرزاق عشوائية غير مخططة أيضا.
الحقيقة أن الرواية جديرة بالالتفات، ولعل ذلك ما حدا بى إلى  الإمساك بالقلم لكتابة هذه الكلمات تقويما لها، ومنحها ما تستحقه  من تقدير، ليس بوصفي متخصصة في الشفهيات الشعبية فقط. ولكن بوصفي قارئة، أستطيع أن أدعي أنى قارئة جيدة لألوان الأدب القصصي والروائي، ومشاركة في الإبداع القصصي القصير، وممن ينبهرون بقدرة الروائيين ـ الجدد بالذات ـ على الإمساك بتلابيب القارئ المتعجل الذي  لم تعد له قدرة أو نفس طويل على مطالعة الروايات .. ما لم تكن على هذا المستوى الروائي المتميز والجديد، والإعجاب بتمكنهم من الحكي الممتع، والمناسب لملامح العصر.. عصر الرؤية أو المشاهدة في آن معا!!
ولذا أقول: إني قد رأيت أحداث رواية صفاء عبد المنعم "من حلاوة الروح" ولم أقرأها فقط، واستمتعت بمشاهدة وقائعها، ومشاركة أبطالها في بطولة جماعية تقاسمت فيها الشخصيات الأدوار كل يكمل الآخر، وشعرت أنى خرجت لتوي من مشاهدة عرض ممتع، أحدث لي قدرا من التأثير التطهير الذي  كان يحدثه فينا الأدب والفن الرفيع، الذي  بتنا نفتقده كثيرا.. حتى بعد مشاهدة الأعمال المرئية! كما أن مطالعة  هذه الرواية قد خلقت لدي رغبة في التفكير في واقع هذه الفئات المهمشة، وحياتها العشوائية، التي نجحت صفاء عبد المنعم في نقلها للقارئ، والربط بين الواقع والأحداث السياسية  الجسام في مصر، ورصد آثار التحولات السياسية على حياة هؤلاء البشر، أو نقل القارئ نفسه ليعيش داخل هذه العشوائيات، وكأنه والكاتبة أحد أفرادها من خلال روايتها الجميلة.. إن لم أقل الرائعة "من حلاوة الروح".
العربي الناصري

15/12/2002

قصة قصيرة (عزيزي أصلان)

  عزيزى أصلان     الآن وللمرة الثانية انتهى من وردية ليل . لم يكن يشغل بالى سوى العم بيومى وهو يرفع وجهه ( أول دور مش تانى دور ) جملة ...

المتابعون