- ستى تفاحة -
ستى
تفاحة غنية وجميلة .
تسكن الإسكندرية ، هي ليست جدتي ، هي
عمة أبى .
الإسكندرية فى الأربعينات تمتلئ
بالمظاهرات ، والإنجليز والسفن ، وعرائس البحر ، أقارب جدتي .
ستى
تفاحة تعيش في الرمل .
بيتها الكبير مفتوح ، للأهل ، للأصحاب ،
وتجار الذهب . زوج شتى تفاحة يملك محلا للذهب فى محطة الرمل .
ستى
تفاحة تأتى ببنات العائلة .
واحدة وراء الأخرى ، تزوجهن للتجار
الأغنياء . عرائس البحر قريباتها ، صرن
يملأن شواطئ الإسكندرية يرتدين البكينى ، والملس ، ويتمتعن بدفء الشمس
المصطافون من رجال المدينة ( القاهرة ) أقرباء ستى
تفاحة ، يحبون الإسكندرية ، وينزلون فى محطة الرمل . بيت ستى
تفاحة الكبير يسع الأحباب
.
والأساور الذهبية المشغولة بدقة وعناية ، تضفى جمالا على جمالها ، وهى تضع
السيجارة بين شفتيها وتدخن بعمق ، تسحب الدخان وتدفعه ، فتظهر أسنانها الذهبية بين
شفتين حمراوين .
ستى تفاحة الجميع يدين لها بالكثير ، من
زواج البنات إلى السفر يوم أو يومين ، للاستجمام ، والاستحمام ، والعودة بالجنيهات
.
ستى تفاحة عمة أبى لم تنجب !
زوجها الغنى يحبها ويدللها .
ستى
تفاحة عمة أبى ترتدي ملابس ( شفتشى ) وتدخن ، وتحمل حقيبة فى يدها مليئة بالأساور
والجنيهات .
ستى تفاحة عمة أبى .
لم أراها فى الأربعينات ، ولا الخمسينات
، ولكنني رأيتها في الستينات .
كان زوجها قد مات .
وأخذ أخوته المحل والبيت .
فى السبعينات .
عادت ستى
تفاحة إلى البلد .
ومعها فستان أسود ، وإيشارب أسود ،
وشنطة سوداء ، وعلبة سجائر فلوريدا .
في السبعينات .
جلست أمام الدار ، تراقب الإوز السابح في
ماء الترعة ، وتنادى عليه بصوتها الرقيق ، وأسنانها الذهبية ( تعالى عسل .. عسل
عسل ) .
ستى تفاحة .
كانت تعتلى السرير الحديد ، وتجلس معنا
نحن الصغار تحكى لنا عن الإسكندرية ، وبيتها فى الرمل ، والبحر الكبير والحرب والضرب ، والإنجليز والمظاهرات .
ستى تفاحة .
نفاجأ بها
تبكى
وتمسح خديها بمنديل ناعم ، وتلمع عيناها وتحكى .
- أنا جوزت بنات العيله كلهم .
عملت لهم حس وعزوه .
أبوكم طول عمره فقرى ، رفض يسمع كلامي ، وأجوزه واحده غنية . خلاني يا دوب
جبت له الصيني والالومنيا .
ستى تفاحة .
تضع ( الحناء ) على رأسها ، وتدعى لأمي
.
-
ربنا يخليكى يا بنت
أخويا .
ما أجمل أن نرى شعرها الغزير معقوصا في
ضفيرتين ، ويسقط خلف
ظهرها ،
ورائحة
حناء طازجة تنبعث منه.
ما أجمل أن تحكى لنا عن الإسكندرية والسيجارة الفلوريدا فى يدها وأسنانها
الذهبية تبرق خلف ابتسامتها الجميلة ، وتسرح طويلا .
ما أجمل أن تحكى لنا عن يوم رحيل ( الملك ) وكيف كانت تقف على الميناء
تودعه باكية ، وزوجها يحيطها بذراعين دافئين .
كانت تأتى إلينا ( بالأنشوجة والبطارخ ) وحكايات عن سيدي عبد الرحمن ،
والأنفوشى ، والمرسى ، ومحطة الرمل ، وبنات بحري ، وأغاني سيد درويش ، وزنقة الستات .
وعقد من الخرز ، وغوايش بلاستيك ،
ورائحة اليود ( ومياه مالحة ووشوش كالحة )
وضرطة طويلة تدفعها من مؤخرتها ، ونحن أمام
الطعام ، نكتم ضحكاتنا الصغيرة .
ترانا نضحك ، تناوشنا بضرطة أخرى .
-
دستورك يا دي الأكل .
وتدفع بأخرى وأخرى .
يقوم أبى من بيتنا ، وتواصل هي ضرا طها
، ونواصل نحن الضحك .
تنام وجوهنا
الطفولية على صباح جديد ، وحكايات شتى تفاحة . نفاجأ إنها تركت لنا علبة ملبس
كبيرة وعلبة فلوريدا فارغة .
سبتمبر 1998