صدر عن إقليم القاهرة الكبرى وشمال الصعيد، فرع ثقافة الجيزة، مجموعة قصصية بعنوان(خدوش على جدار الحياة)للكاتبة إسراء الديك.
والمجموعة تقع فى حوالى 72 صفحة من القطع المتوسط، وتتناول حوالى 25 قصة بين القصة القصيرة جدا والمتوسطة فى حوالى 3 صفحات.
يحتوى كتاب الديك على قصص قصيرة تتراوح بين عدة سطور وقليل من الصفحات، ولكن ماتمتاز به هذه القصص رغم قصرها أحيانا كثيرة هو(بساطة المتعة) أو (البساطة الناعمة) التى تسحبك مثل الموج الهادىء أو الرمال الناعمة، حتى تغوص قدماك إلى أسفل بكل سهولة ويسر.
لقد قرأت المجموعة بشكل نهم ومحبب، وذلك لما تمتاز به من سلاسة اللغة، وهذا ليس عيبا، ولكن إنه الإتقان والدقة، والجمل القصيرة الناعمة، فهى لا تجعلك تلهث وراء الأحداث أو المقاطع المتوالية، ولكنها تأخذك من يدك بهدوء شديد وتضعك أمام حدث واحد فقط، وإنما تجعلك تنتظر المزيد من الإبداع الهادىء دون ضجيج أو صراخ مفجع، على سبيل المثال كما حدث فى قصة(اقتناع)ص59 .
تحكى القصة ببساطة عن فتاة وصلت إلى سن الثلاثين بهدوء شديد، وتكتب عن كيفية قناعة الأب وهو يتحدث مع الأم الحزينة أنه لم يأت الزوج المناسب لأبنته الطبيبة بعد، فيقول على لسانه(... أحنا عارفين إن دماغها كبيرة،أكيد لو فى حد من اللى اتقدمولها اقتنعت به، كانت وافقت ... إنما مش أى حد وخلاص). هنا قناعة الأب تدفعك إلى التعاطف مع البطلة(نورا) التى تفتش داخل ألبوم الصور والهدايا عن الذكريات القديمة الهاربة وتاريخ الأصدقاء فى ليلة عيد ميلادها.
ففكرة السن والعمر والتعجل بزواج البنت(الستر) لم تعد هماً ثقيلا على كتف الأب مثلما كان يحدث من قبل، حتى الصورة الذهنية قد تغيرت ونرى الأخ المهندس(أحمد) يقدم لها(دبدوب أحمر) هدية عيد ميلادها، وكأنه يعوضها التعويض المناسب عن غياب الحبيب.
والكاتبة تذكرنا فى مجموعتها بالكتاب العظام مثل تشيكوف فى قصة(موت موظف) وقصة(نظرة) للكاتب يوسف إدريس، حيث البساطة والهدوء، والطعنة المفاجأة ببرود ومحبة مفرطة الدهشة.
وفى قصة(صورة) ص 9 .
وهى أول قصة فى المجموعة. تحكى عن عائلة على شاطىء البحر قررت أخذ صورة جماعية للذكرى، واللقطة من وجهة نظر إبتسام(خرج أفراد أسرتها من البحر، يتأرجحون مندفعين نحوها، لمح أخوها مصوراً، هرول نحوه، أتى به إليهم: يالا ياجماعة هنتصور صورة جماعية) نكتشف بعد ذلك أن (إبتسام) لا تظهر فى الصورة بسبب أنها تجلس على كرسى بعجل، ولم يظهر فى الصورة سوى طرف الإيشارب(..أخرج الرجل الصورة، استقرت فى يديها. حطت عتمة على ملامحها، عندما دققت فيها، لم تجد سوى طرف طرحتها.. انسحبت من الإطار.. دافعة عجلات الكرسى المتحرك).
البساطة فى المشهد، البساطة فى التعبير، الانسحاب بهدوء من الصورة دون ضجيج، ودون افتعال أزمة أو إفساد اللحظة، لأنه لا يوجد مكان لها بينهم، هم الأصحاء، وهى العاجزة.
فى قصة(فترات)ص15 .
آمن بمقولة: كلنا فترات فى حياة بعضنا البعض.
فهجر من أحبوه وراح يبحث عن حب جديد.
هكذا بدأت، وانتهت القصة، وربما كانت تجرب فكرة القصة الومضة أو القصة السطر(الدفقة). ولكن حتى بداخل هذا السطر كلام كثير تستشفه بقراءتها بدقة.
فى قصة(الكأس) ص20 .
وهى عبارة عن 6 أسطر،49 كلمة تقريباً.
هناك حالة إشباع فنى.
(يلقى بجسده بعد يوم حافل على كرسى الأنتريه، يمسك كأساً يرتشف ويمص ما فى الكأس.. كأنه يرشف عصيراً لذيذا، يريد أن يستمتع بكل قطرة فيه، يسند رأسه للخلف، يسبل عينيه، يتذكر عندما كان والده يفعل ذلك وهو ينظر إليه من بعيد يراقبه فى حركاته. انتابه شىء من الفزع، تقلصت عضلات وجهه، فتح عينيه وجد طفله فى زاوية الباب يرقبه).
لك أن تتخيل ماسوف يحدث فى المستقبل، وكأن هذه النظرة والرشفة من الكوب باستمتاع هى(الميراث) الأبدى، الهادىء الذى سوف يرثه هذا الطفل عن أبيه، كما ورثه أبوه عن جده.
وسوف نجد هذه المتعة ثانية فى قصة(نمل) ص43 .
وفى قصة(مرور)ص 53 .
تعود ثانية(إسراء الديك) لكتابة قصة سطر بعد كتابة عدة قصص تتكون من صفحة أو صفحتين.
(أدرك أن الأيام مهما بلغت مرارتها ستمر بخطى ثقيلة، ابتسم فى وجهها لعلها تسرع).
وكأن هذه القصة هى ردا بليغ على القصة السابقة(فترات)ص15 .
هو فى الأولى خرج يبحث عن حب جديد، وفى هذه القصة يريد أن تسرع الأيام، وكأنه لم يجد ضالته المنشودة رغم الأمل والتفاؤل فى القصة الأولى.
إن الكاتبة(إسراء الديك) تمتاز بحس مرهف نحو الكتابة، وتقبض على تلابيب العمل حتى لا يفلت منها، فهى تقتصر النص على قدر الإمكان حتى لا تكون فيه كلمة فى غير مكانها، فليس لديها هوس الإطالة، فى لا تحتفى بالسرد المسترسل، بقدر ماتحتفى بالسرد المقتضب الموحى.
فنحن أمام كاتبة واعية بفن(القص) ولها أسلوب خاص، قد تصل به إلى مايشكل إضافة جديدة فى عالم(القصة القصيرة).