عام جديد
مر
عام آخر .
وأنا مازلت أعانى من حالة لخبطة مريرة، لم أمر
بمثلها من قبل .
طوال حياتى وأنا أعانى من مواقف فلسفية بسيطة
وعادية وعابرة، ولكن لماذا أصبحت الحقيقة غائبة الآن أمام عينىً ؟
فأبحث عنها داخل الخيبات الصغيرة والمواقف
الإنسانية المتعددة والتى مرت بحياتى وعشتها عبر خمسة وخمسين عاما مضت .
الحالات الأنسانية هى أكثر الأشياء حزنا وأصابة
فى قلبى الطيب الحنون .
أتعاطف كثيرا مع كل ماهو إنسانى وعميق ويشدنى
من أذنى حتى أظافرى وأعافر .
أعافر .
فى محاولات كثيرة فاشلة للخروج .
أعشق شهر يناير برغم البرد القارص، والذى
يجعل عظامى تؤلمنى بقسوة
منذ أيام وأنا أعانى من توتر شديد، وألم حاد
فى العمود الفقرى، وخاصة الفقرات القطنية .
قال لى الطبيب وهويبتسم ببرود دمث : مرض
المثقفين ياأستاذة .
والجلوس على المكتب لفترات طويلة .
وبدأت الذاكرة تنشط، وكل يدلو بدلوه فى
الصراع الدائر بين الثورين من الشباب ورجالات الدولة والرئيس، وأرتفع سقف مطالب
الثوار .
ونزل جميع الشعب المصرى بجميع طوائفة وإتجاهته
وتياراته، وما كان يحسبه البعض(لعب عيال) أوطيش شباب، أصبح حقيقة واقعة، أصبح
واقعا ملموسا أمام الجميع .
أنا مازلت إلى الآن فى المقهى، أحتسى كوب
الشاى الساخن، ولا أنتظر أحد، والجو بارد، وقطرات المطر تسقط بغزارة وقوة، فى
اليوم الأول من شهر يناير الجديد .
دلف إلى المقهى أناس عديدون، يحتمون من البرد
والمطر .
فى النهاية جاءت امرأة عجوز تحمل طفلا رضيعا
وبيد مرتعشة تحمل بعض المناديل الورقية ، تمدها إلى رواد المقهى فى استجداء وعطف،
نظرت نحوها، كان الطفل نائما على كتفها فى استرخاء شديد، وهى بيد مرتعشة تضع باكو
المناديل أمامى على المنضدة، أمد يدى لها بمبلغا صغيرا من المال،تتركنى شاكرة
وتنصرف،وأظل أتابع حركاتها داخل المقهى بعينين متعبتين .
دقائق وتدخل أخرى بعدها امرأة أكثر شبابا
وقوة، تضع على المنضدة أمامى بعض حبات من الفول السودانى الطازجة، وتتركنى وتذهب
إلى المناضد الأخرى المتناثرة هنا وهناك .
أرها تتحدث مع المرأة العجوز والتى تحمل طفلا
رضيعا فى همس وغيظ، تخرج المرأة مسرعة وتترك المقهى، وتعود المرأة الشابة تجمع
النقود من زبائن المقهى والذين بدأوا فى تقشير الفول السودانى ومضغة مع الشاى
الساخن، وعندما حضرت إلى منضدتى، جمعت لها حبات الفول ووضعتها فى يدها، أنصرفت من
أمامى صامتة، وخرجت من المقهى مسرعة.
جاء الجرسون، ورفع الكوب الفارغ من أمامى، وأعطيته
زجاجة المياة المعدنية، وقلت له بصوت شديد اللهجة : من فضلك فنجان قهوة مضبوط،
وكوباية مياة من الحنفية بعد أذنك .
سار من أمامى وهو يكظم غيظه بعض الشىء .
جلست فى أسترخاء المستمتع، أتابع حوارات
الناس القليلين فى الشارع، وسقوط المطر المتوالى بشدة .
بعد دقائق جاء الجرسون ووضع أمامى فنجان
القهوة، وكوب الماء كما طلبت منه بالضبط .
*************************