كوب شاى على الرصيف
عندما تكون فى حضرة الماضى، ما عليكَ إلا أن
تقف أحتراماً.
كنتُ فى هذا الصباح المنعش من شهر إبريل،
والجو مائلاً للبرودة قليلاً، أبحث عن شارع السبتية من جهة رمسيس، حيث علىَ أن
أحضر تدريباً لمدة أربعة أيام كاملة، ربما أكون حضرت هذه التدريبات من قبل!
ولكن ما علينا، ربما أحب المدير أن يتخلص منى
لمدة أربعة أيام، كى يستريح من عناء التربص بى، أو من حالة الأستفزاز المستمر
والمدمر بيننا، ولكن بغطاء من الود الزائف من جانبه، أو من جانبى على الأقل.
عندما سألت سائق الباص الذى أستقله من مدينة
نصر إلى شارع رمسيس : من فضلك، عايزة أنزل عند شارع السنتية.
أشار لى بأصبعه وهو يدير الباص بهدوء المتمرس
: على الجهة اليسرى من سكك حديد مصر، قال هذا بهدوء المستغرب من أننى لا أعرف
الشارع، بما يبدو علىَ من مظهرى البرجوازى، أننى أبنة المدينة، فكيف لا اعرف
الشارع.
نزلت من الباص، وأنطلقت برشاقة غير معهودة
فىَ الآن نحو الشارع الذى أشار غليه، وبرغم أننى ذهبت إلى هذا المكان كثيراً فوق
مايقرب من العشر مرات تقريبا، إلا أننى ولأول مرة أأتى من هذه الجهة، جهة رمسيس،
طوال العشر سنوات الماضية وانا أذهب من جهة بولاق، فشارع الوكالة، الأجمل من هذا
كله هو أحساس الأنتشاء بأن عينيك ترى مكانا جديدا ومختلفا، ربما أكون قد سمعت عنه
كثيراً، ولكن من رأى غير من سمع!
عندما كان يبحث جلجامش فى ملحمته العظيمة
(التى رأى) عن عشب الخلود الأسطورى الذى يريد أن يعيد به الحياة إلى صديقه إنكيدو،
الجمال هو فى رحلة البحث.
أنا كذلك الآن فى رحلة البحث عن المكان الذى
سوف يقام به التدريب، والأتيان من إتجاه مختلف، صنع معى شعوراً غريباً، ولسعة
البرد اللذيذ فى هذا الصباح الربيعى، أضاءت جنبات روحى المظلمة، حقيقة منذ فترة
قليلة وأنا أشعر بظلمات غائمة تطفو على روحى، أو تخرج من ظلمات الروح، من المناطق
المخبؤة فى العمق، والتى دائما نتجنبها أو نبتعد عنها عمداً، هناك دائما شعور خفى
بالظلام الدامس فى الروح، يسمى أحيانا المسكوت عنه، ولكنها الخبيئة، خبيئة كل نفس
وترسبات من الماضى البعيد، المهم وأننى فى طريقى الهادىء فى شارع السبتية فى
السابعة صباحاً، لا يوجد سوى بعض المارة المتناثرون هنا وهناك، وكلما سرتُ بضع
خطوات أخذت أسأل عن الإتجاه الصح(هل هذا هو شارع السبتية؟) سألت بائع الجرائد،
وفتاة تجلس داخل كشك صغير بجوار إدارة الكهرباء، وكلما مررت على محل أقف قليلا
اقرأ اليافطة المعلقة(محلات مهنى الأسيوطى، محلات المغازية، وكالة الغلال التابعة
لسكك حديد مصر.. جامع أحمد طلعت) وقفتُ قليلا أتأمل زخارف الجامع الذى أراه لأول
مرة، جميل تحفة معمارية، ولكننى لا أعتقد أننى سمعت عن هذا الجامع من قبل، وهل
صاحبه ولى من أولياء الله الصالحين مثل سيدى ابى العلاء بمنطقة بولاق أبو العلا.
المهم أننى لمحت عن قرب على الرصيف المواجه
للجامع(سبيل شعبى) عبارة عن بعض القلل الفخار موضوعة فوق حامل من الحديد، مددت يدى
وشربتُ من القلة حتى أرتويت بالماء البارد الطازج النقى، شعرتُ لحظتها برغبة شديدة
فى كوب من الشاى، أخذتُ أبحث عن مقهى قريب، والرغبة الملحة فى كوب من الشاى بدأت
تسيطر على، وبعد خطوات قليلة على الرصيف، رأيت شابا يقف بجوار(نصبة شاى) اقتربت
منه وبشجاعة خارقة سالته : ممكن أشرب شاى!
جلستُ إلى جواره على دكة خشبية صغيرة، وجاء
لى بكوب شاى داخل صينية صغيرة من الألمونيوم وكب ماء، ووضعها أمامى فوق الرصيف،
فوق صف من الطوب صنعه على هيئة منضدة، وجلستُ أمام رائحة الشاى، وكأن مانشربه داخل
جدران البيت ليس شايا، وليس له طعم، وكأن الجمال والروعة تقف هنا على الرصيف أمامى
وأنا أرتشف من كوب الشاى على الرصيف فى تمام الساعة السابعة صباحا.
*********************