داية وماشطة.. عادات وتقاليد ذاكرة الشعوب وهويتها
يؤكد كتاب "داية وماشطة" للروائية والباحثة "صفاء عبد المنعم" على أن للشعب المصرى عاداته وتقاليده فى كل مجال من مجالات الحياة التى كان يمارسها بشكل تلقائى وطبيعى دون الرجوع إلى معاجم أو قواميس لمعرفة أهمية ما يقوم به، فلم ترجع الجدات والأمهات مثلا إلى قاموس أو مرجع لمعرفة التأصيل الفكرى أو العلمى لاستخدامهن الهون والسبع حبوب فى الاحتفال بسبوع المولود، أو حرصهن على وضع لقمة عيش فى الطبق أو المنخل قبل إعارته للجارة، بل كن يتصرفن وفق وعى شفاهى توارثنه جيل بعد جيل، وشكل الثقافة العامة للمجتمع المصري.
"يوم الحنة" ونقوط العم جرجس
اعتمدت "صفاء عبدالمنعم" على جمع مادة بحثها شفاهة، فقامت بكثير من المقابلات فى أماكن متعددة مثل المطرية، الباجور، الخصوص، كلابشة، حلايب، شلاتين وغيرها. أيضا قابلت شرائح متعددة من الناس. وتعرضت فى بحثها إلى كثير من العادات والتقاليد ومنها عادات وطقوس الزواج، و"ليلة الحنة" التى تسبق الزفاف. ولكن الجديد هنا، أن "صفاء عبدالمنعم" تقدم للقارئ راويا مسيحيا ليتحدث عن طقوس ليلة الحنة، وكأن الكاتبة تؤكد أن شعب مصر، عاش طيلة حياته مثل نسيج الثوب الواحد يتشارك نفس العادات والتقاليد. فيقول فى وصفه: " إنه فى يوم الحنة أصرت عمتى أن أتحنى، ويومها جاء رجل إلى البيت ومعه ميكروفون، وجلس يجمع النقوط منذ الصباح. فكان يقول محمد محمود نقط بخمسين جنيها، وجرجس تاوضروس نقط بستين.." ويستكمل وصفه للزفاف وسبوع المولود، وطقوس الوفاة، لنصل إلى نتيجة أن معظم العادات تتشابه بين المسلمين والمسيحيين، لأنها ثقافة شعب عاش فى نفس المكان ومر بنفس الأحداث، فكان من الطبيعى أن يتشارك العادات والتقاليد نفسها، وإن كان هناك بعض الاختلاف فى التفاصيل.. وتذكر أن العادات والتقاليد كانت تنتقل من جيل إلى آخر بالممارسة وشفاهة، وعندما زادت نسبة التعليم، أصبح هناك مسافة بين الموروث الشفاهى والشخصية المتعلمة، كذلك مع زيادة الأفكار الواردة من المجتمعات الصحراوية التى تتشبث بقشور الدين دون جوهره، ظهرت المحاولات المستميتة لمحاربة كثير من العادات والتقاليد بتحريمها ليحل محلها عادات أخرى دخيلة ومستحدثة لا تخص مجتمعنا المصري.
إيه تعمل الماشطة فى الوش العكر !
أجرت الكاتبة عدة حوارات مع سيدات كن يعملن "ماشطة" و"داية"، عن الزواج، والميلاد، والأفراح، وطقوس العزاء والحسد وغيرها من أمور كانت سائدة قبل انتشار مهنة الطب والوعى الصحى وغيرها من مظاهر المدنية. وتذكر أن انتشار الوحدات الصحية قلصت من عدد النساء اللواتى يعملن "داية" والتى كانت مهمتها توليد النساء فى البيوت، إلى جانب خفاض البنات، وأحيانا تأخذ دور "الخاطبة" و"الدلالة" التى تبيع الملابس والأقمشة.. وتذكر أيضا أن مهنة "الماشطة" التى تقوم بتمشيط العروس وإعدادها للزواج، اختفت تقريبا نتيجة ظهور بيوت التجميل. وفى حوار طويل وشائق مع سيدة تعمل "داية وماشطة" منذ ثلاثين عاما، نعرف أنها ورثت المهنة وتتلمذت على يد خالتها "أم سعودي" ورغم ذلك لم تورث المهنة لبناتها اللواتى يكملن تعليمهن فى المدارس، ومن هذه السيدة نعرف مهام الماشطة من ختان للبنات، وكيفية إعداد العروس، وتهيئتها لليلة الزفاف، وكيف كانت تدخل مع العروسين غرفة النوم، وكيف تعرف وقت حدوث الحمل والمعتقدات المتعلقة بالوحم، وعملية الولادة وسبوع المولود، وتذكر بالتفصيل العادات المتعلقة به من دق الهون، وهز الطفل فى الغربال، والقلة والأبريق، وشرب المغات، وتسرد نماذج من "الرقية" التى تقال للمولود عند الخوف من الحسد، كذلك الأغانى التى تقال عند معرفة نوع المولود ذكرا كان أو أنثى:
"لما قالوا دا ولد انشد حيلى وانسند، وجابولى البيض مقشر، وعليه سمن البلد.. ولما قالوا دى بنيه، انهدت الدار عليه، وجابولى البيض بقشره، وبدال السمن ميه".
وأشياء عديدة منها ما زال معروفا فى الأحياء الشعبية، ومنها ما هو غريب على القراء مثل ما يسمى (العهود السليمانية) وتعرفها الكاتبة بأنها السبع عهود التى أخدها سيدنا سليمان على أم الصبيان وهى "القرينة للزوج" عندما أمسك بها، بألا تؤذى الطفل الذى يحمل العهود السبع أو يتم عمل تحويطة له أو رقية من العين. ثم تصف كيفية صنع العهود على ورقة مستطيلة الشكل عليها رسوم وألوان وما يتم كتابته عليها وكل ذلك بالتفصيل، إلى جانب قصة أم الصبيان مع نبى الله سليمان، ونصوص العهود السبع كاملة.. وتسأل الكاتبة الداية عن أشياء كانت تفعلها النساء اللواتى يتأخر عندهن الحمل، أو اللواتى ينجبن التوائم، وكيف كان الناس يظنون فى أرواح القطط .
صفاء عبدالمنعم
فأر وثعبان وطاسة الخضة علاج للعاقر!
فأر وثعبان وطاسة الخضة علاج للعاقر!
تحدثت الداية / الماشطة عن تفاصيل عملية التوليد والاعتناء بالأم والمولود، وذكرت عددا من الأدعية لرقية المولود لحمايته من الحسد. وعمل عروسة من الورق وبإبرة الخياطة "ننغز عين إللى شافته على طول ونقول من عين فلان ومن عين فلانة ولابد من ذكر اسم إللى نشك فيها بالاسم عشان نخرم عينها إللى حسدت، وبعدين نولع الورقة، ونخلى الولد يدوسها بكعب رجله الشمال، وناخد الهباب ونعمل صليب على قورته".. بعد الحديث عن الولادة والحفاظ على المولود، سألت الكاتبة الحاجة "فاطمة" التى مارست مهنتها كماشطة وداية لأكثر من ثلاثين عاما عما كانوا يفعلونه للسيدة العاقر قبل تقدم الطب فقالت: نيجى على سهوة ونحط فى عبها فأر صاحي، تعبان، أو نجيب لها طاسة الخضة.. وهى عبارة عن طاسة نحاس مكتوب عليها آيات قرآنية، بنحط عليها سبع بلحات ناشفين وشوية مياه ونسيبهم فى الندى للصبح يسمعوا آذان الفجر، ونخليها تاكلهم، ونكررها تلات أيام.
وتقابل الكاتبة "صفاء عبدالمنعم" أيضا عددا من السيدات وتتحدث معهن عن خبراتهن الخاصة والعادات التى مارسنها وقت الخطوبة وتقديم الشبكة وزف العفش والفرح وزفة العريس وكعك العروس وغيرها.. تتضمن الكتاب كثيرا من الموروث الثقافى الشفاهي، ووصف عدد من الطقوس التى اندثرت أو تبدلت والمتعلقة بمهن كانت تقوم بها المرأة، مثل الداية والماشطة، وكلها أمور كانت تتطلب مهارة فى المقام الأول، إلى جانب الأمانة والثقة لما تفرضه هذه الخدمات من أن تؤدى داخل البيوت، بما فيها من خصوصية وأسرار متعلقة بأمور الزواج والميلاد والوفاة ومعالجة النساء والأطفال. ولا تغفل الكاتبة مع ذكر الطقوس المعتادة، أن تذكر نص المقولات التى كانت تدور على الألسنة وقت أن كانت العادات والتقاليد تعبر عن ثقافة المجموع، قبل أن يعود كثيرون بعادات مغايرة لتحل محل عاداتنا وتقاليدنا.
كتاب "صفاء عبدالمنعم" الصادر حديثا عن دار غراب، يدق ناقوس الخطر كى ننتبه لما تبقى لدينا من عادات وتقاليد ميزتنا عن غيرنا، كى لا تضمحل وتذوى هى الأخرى مثل ما ذكرت فى الكتاب وأصبح أثرا بعيدا.. فالشعب الذى يتخلى عن عاداته وتقاليده يفقد هويته.