المثال والضلع الأيسر
أمام الشاطىء البعيد .
جلس يرقبالأمواج وهى تتقارب ثم تتداخل إلى أن
تأتى إلى قدميه فتبللهما .
من جواره، جمع بعض الحجاره، أخذ يلقى بها
واحدة وراء الأخرى بقوة يدفعها بعيدا .
الحجر يسقط فى الماء، يصنع نقطة، ثم دائرة..
فدوائر عديدة، تستدير مكملة دائرة، وتتسع أكثر فأكثر إلى أن تختفى .
صوت الحجارة هادىء رتيب مثل كل شىء .
تململ فى جلسته، أمسك حجر أكبر، ألقى به
بقوة، أنبعثت نافورة، تصاعدت إلى أعلى، بللت وجهه وهندامه .
تراجع خطوة، رأى دوائر عديدة تظهر ثم بهدوء
تختفى .
نظر جواره . وجد كلبا جالسا فى هدوء مميت . زجره
بقدمه . نهض مفزوعا، أخذ ينبح .
قال له بصوت مرتفع
- أنظر.. أقترب، أنظر فى القاع، تجد نفسك
جوارى، حتى هنا جوارى .
منذ أن وجدتك فى هذه الواحة شريدا جائعا،
وأنت وحيد مثلى، مارأيك أصنع لك وليفه .
الكلب ينبح، يتراجع، ينظر إليه .
- تحب أصنعها لك من الطينأم من الحجارة،
الأفضل أعطينى ضلعك الأيسر أصنعها لك منه، وتكون لك بمثابة إيزيس، ويأتى أخاك،
فيقتلك، وهى تظل تبحث عنك، وتجمع بقايا جسدك .
أقترب.. أقترب، خائفا، لأنك أبلة، انظر من
حافة الشاطىء أخذ قطعة من الطين صنع منها تمثالا على شكل أنثى.
وضعها على كفه، أخذ ينظر إليها، تذكر وجه
سناء، تلك الحسناء المتمردة، التى ألتقى بها ذات يوم واقفة أمام أعلان عن مسابقة
فى نحت أغرب شكل .
هناك على اللوحة داخل الجامعة، لازالت بعض
الكلمات، والمكان دائما يبقى .
الجميع يتحدثون عنها، سناء.. سناء ، تمثال
سناء اخذ الجائزة الأولى .. سناء صاحبة أغرب تمثال، الأولى على الدفعة، مشتركة فى
أغلب الأنشطة، نشيطة، جريئة، الكل سناء.. سناء.
أراد ذات يوم التودد لها، الأقتراب منها –
حدثها – ظنها مثل أمه، تصمت كثيرا .
ويوم تتحدث، يكون حديثها صوته منخفض، يصحبه
شحوب فى الوجه وأرتعاشه فى الأطراف أمام ذاك الزوج الفظ .
ألتقى بها لأول مرة، نظر فى عينيها، وجد نساء
العالم تتحداه فى عينيها .
لها عيون كل النساء !
تتحدث بلسانهن جميعا !
ألتقى بها ثانيا، حدثها .
أرتسمت أمامه صورة أبيه بكل جبروته وقوته،
يشتم، يسب، يأمر، وينهى.
أمه صامتة، تقف صامتة، أحيانا كان يتلصص
عليها فى حجرتها، يجدها تبكى فى صمت، حتى البكاء فى صمت .
سناء تتحدث .
يسمع صوت أمه يرن فى أذنه، اليوم الذى تجرأت
وتحدثت بصوت، كان جذائها، صفعة على خدها، ودموع تسترسل، تطالب بالرحمة .
بسرعة أفاق من أراقة طويلة، رفع رأسه، أخذ
يجرى ويلهث داخل معبد مهجور، وضع التمثال وهو يردد
- سناء .. سناء
لم تكت أمى، لم تكن أمى .
نظر وجد تمثاله مجرد حصاه بجوار التماثيل
الأخرى.
قال بصوت مرتفع.
- أيها التمثال الأصم، سوف أصنع أفضل منك، إن
كنت عملاقا، سوف اصنع ماهو أغرب .
أمتلك سكينته، أخذ يغرسها فى الأرض، يخرج قطع
الطين، يصنع هياكل غريبة، على شكل أنثى لها أثداء عديدة، ورجل يحوطها بألف ذراع،
واشياء أخرى صغيرة لها أرجل وعين واحدة، وأذن وشفاه، وأخرى لها وجوه متموصة
المعالم، تدارى وجهها بيدها، وأخرى لها وجهان ويدان ، وأخرى بدون وجه .
ثم أخذ يضحك : هاء..هاء .
ترك المعبد ورحل .
على غفلة عاد، رأى الكلب يتشمم التماثيل،
يتبول عليها، أزاحه بعيدا، أخذ ينبح، أمتلك يده، قضمها قضمة عنيفة، أوجعته، تألم .
أمسك سكينته طعنه، طعنة فى ظهره، ثم توالت
الطعنات، أخذ يقطعه، قطع صغيرة، خلع ضلعه وهو يردد : آه أصنه منه تمثالا، تمثال من
العظم بدل من الطين .
كيف ضلع واحد لا يكف، أخلع عظامه كلها، أصنع
منها تماثيل رائعة، قلت له يوما أعطينى ضلع تكبر، اليوم أخلع ضلوعه كلها، أصنع
منها ما أشاء .
ثم أخذ قطع اللحم، وألقى بها فى النهر، خلا
عن قطعة واحدة، أبقاها مع الذيل.
فى طريق عودته، رأى سيدة فى المعبد تنتظر، من
الخلف أخذ يقترب . سمعها تردد : القطعة الأخيرة، أين هى ؟
نظر فى يده، وجد قطعة، القى بها أمامها،
وجدها تحملها، تسرع داخل كوخ صغير، تضعها داخل جلباب أسود .
تراجع بضع خطوات، سأل نفسه : ماذا تصنع ؟
أنتظر قليلا، وجدها تخرج قطع اللحم ثم تضعها
قطعة بجوار الأخرى، تصنع منها جسدا، هيكل إنسان !
نظر فى يده الأخرى، وجد ذيل الكلب، أقترب
منها بحرص وقال :أنظرى أنه ذيل هذا الجسد .
أجابت صارخة : لا تقل شىء، أنه جسد زوجى،
قتلوه ثم ألقوا به فى اليم .
ضحك، ضحكة عالية، أرتج أرجاء الكوخ ثم قال :
أنظرى، ماهو إلا ذيل كلب، كنت أمتلكه فى يوم ما، لكننى قطعته بهذه السكين، أنه
اصبح يمارس غريزته، وتهجم على.
ثم أخذ قطع اللحم وجمعها على هيئة كلب، أضاف
إليه الذيل، وقال : انظرى الآن أكتمل العمل .. أنظرى أنه كلب لا أكثر .
أجابت مسرعة : إن كان كلبا، فأنا صنعت من
ضلعه فى يوم ما، أما أنت أعطينى ضلعك، كى أصنع لك منه أليفه تجمع أشلاءك فى يوم الهلاك
.
خرج مفزوعا، وهو يردد : لا لا ... لا لا .
ثم ألقى بجسده فى الماء .
بينما وقف الكلب على الشاطىء، ينبح، ويهز ذيله،
وصورته تهتز .
والدائرة تتسع أكثر فاكثر ثم تختفى بهدوء .
***************************