صورة الجسد ..بين الذات والموضوع
قراءة فى قصص صفاء عبد المنعم
(1)
إذا كان ثمة جيل من المبدعين الجدد يعانى إحساساً بالبدد والتوزع ، فإن هذا الإحساس يعكس ذاتاً تحتشد بمعانى التهميش والفقد واضمحلال الفاعلية ، وربما يزيد هذا الإحساس قسوة عندما يقع المبدع بين وعيين ، وعيه بأهمية دورة وقدراته وتفرده ، ووعيه بعجزه عن المشاركة الحقيقية الفاعلة فى واقع يحكمه إما المقدس وإما الأقوياء ، هذه المواجهة غير العادلة تبدد يقينه بذاته ، بمعنى أنها لم تعد ذاتاً مؤهلة لحمل الرسالات العظمى ، وتغيير الواقع .
إن هذه المفارقة بين وعيين ( التمايز والعجز ) تصنع – في المقابل – موفقين مفارقين – أيضا – موقف المتمرد الرافض لواقع مفكك ومتهالك ، وموقف المستسلم لخديعة كبرى اسمها الواقع ، وهو ما يضع الذات في حالة من الاضطراب ، والقلق المستمر الذي يعرضها للتقويض والتفكك ، إنها ذات تنسحب من فضاء القيمة والمعنى ، لتتحول إلى كم مهمل من الأشياء الزائدة عن الحاجة " الأشياء الأليفة تخدعك للغاية ، في بساطتها ، تواجدها ، إذا بتها داخلك" (1)
ففى قصة " أشياء صغيرة أليفة " (2)، تواجهنا الكاتبة صفاء عبد المنعم ، بحشد لمفردات الواقع اليومى المستهلك لقدراتنا وطاقتنا " مروراً بالوقت ، الأولاد ، الدروس الخصوصية، وانتهاء بالبيت ، والصابون ، وصوت الموسيقى "
وليس من قبيل المصادفة أن تبدأ القصة بهذا الحشد للأشياء الاستهلاكية ، أو أن تبدأ الجملة الأولى بإشارة إلى الزمن ( مرورا بالوقت ) ، فحركة الزمن فى عمر الإنسان تتجه بالضرورة لمزيد من العجز ، هذا هو قانون الحياة المخادع " الحياة تتحرك باتجاه الموت" ، وسوف نرى أن هذه الفكرة تتعمق كثيراً فى مجموعتها التالية ، بنات فى بنات (3)، حيث يصبح الموت هو الهاجس المسيطر على كل قصصها ، وتتعمق إشكالية الزمن على نحو يعكس رغبة عارمة فى تثبيته ، ووقف زحفه .
الحياة تتحرك باتجاه الموت ، هذا القانون الملوح بحرية مزعومة هى فى الحقيقة مزيد من الاعتداء والقهر " أنت الآن حرة فى شرب الشاى ، مد ساقيك ، غسل الكوب أو تركه ، صحتك ، حديثك ، حرة إلى مدى خرق عينيك فى صورة زواجك أو تقطيعها، إنه الشتاء " .
سيرتبط الشتاء دلالياً بالزمن وسنرى كيف تسيطر هذه اللفظة ( الشتاء ) على مقدرات السرد فى مجموعتها التالية بنات فى بنات .
والراوية تمارس نفس اللعبة ، لعبة المخادعات الصغيرة ، تمارسها بكل قوانينها ، لا لتستمتع بها ، أو لتحرز مكاسبها ، بل لتكتشف بنفسها قوانين اللعبة وما تنطوى عليها من ضلال وخديعة.
يبدو الجسد غطاء للذات وملاذاً أخيراً وليس مجرد موضوع لها، فبعد تفكك الذات واهتزاز صورتها الجمعية ، فان الجسد يسعى للقيام منفرداً بدور الذات ليس بنفيها بل بتقليص المسافة بينهما حد التوحد، ومن ثم يمكن تعويض عجز الذات ،بالتفاعل والتأثير فى أجساد الآخرين إنه نوع من الخطاب الحسى الذى ينشأ بيننا وبين الآخرين حتى يكون لوجودنا ذلك الثقل المؤثر
ترسل الراوية إلى زوجها الغائب ، تعبيراً عن حالة من التشارك الحسى المأزوم " أريد إخبارك ، الجميع هنا فى الجو والوقت والأعباء سواء " .
والمساواة هنا ليست تلك القيمة الأيدلوجية ذات البعد الاجتماعى السياسى ولكنها واحدة من مسلسل الخدع الصغيرة ، كما لو كانت سجناً يحد الذات لا يسمح لها بالتواصل مع الآخرين .
" الجيران خيمة لابد من تمزيقها ، البرد قارص هذا الشتاء "
قراءة الشاهدين السابقين تكشفان عن موقع الذات بين الداخل والخارج / بين الجسد والعالم ، بين برودة الجسد ودفء الجيران .
" خنقت رغباتى المتداخلة فيك ، وقفزت بكل مدخراتك عن معرفتى وحبستك داخل أسئلتى ".
الحبس والخنق من محيط دلالى واحد ، والرغبة والمعرفة والأسئلة من محيط دلالى واحد ، وهما معاً يشكلان الإيقاع العام المعبر عن قلق الذات وضيقها وتمردها .
ويبدو العنوان فى قصة ( إن عظامك لن تفنى ) (4 ) على المستوى البلاغى مؤكداً بإن والنفى ، غير أن قراءة النص تطلعنا على مزيد من الخدع الصغيرة فحتى الجسد يستطيع ممارسة هذه الخدع على نفسه ، فالبول المحتبس فى المثانة يهيئ الرجل إلى حالة جنسية وهمية ، تماماً كحمل كاذب .
والمسافة الفاصلة بين الأجساد شاسعة حتى لتسع شيطاناً يرقد ، إن الاحتماء بالجسد وهم آخر وخدعة أخرى ، لكنه آخر ما تبقى لنا ، فالبرودة والتجاهل والعجز الجنسى وصور القهر المختلفة ، تضع الجسد على حافة الموت حتى ليصبح فريسة لشياطين خفية ، ترقد بجوارنا على الأسرة وتمارس علينا قهراً وشذوذاً .
" امرأتى شهية
وما أنا بقادر
أفعل
ما أنا بقادر "
ونتيجة لهذا العجز يصبح الملاذ الجسدى مجرد خدعة أخرى ، الجسد يعجز عن ملء فراغ الذات " كل يلوذ بما لا يلاذ به "
" والجو ملىء بالخرافة والمطر ودخان السجائر "
وتصبح الترنيمة التى تصاحب الموتى فى قبورهم والمقتطعة من كتاب الموتى الفرعونى مجرد خدعة " إن عظامك لن تفنى ولحمك لن يمرض ، وأعضاءك ليست بعيدة عنك " فليس ثمة إلا العجز والخديعة والموت ، إن الاحتفاظ بسلامة الجسد لا يعنى على الإطلاق أنك تحيا لأن الخدع الصغيرة تحاك جيداً حتى لا يمكنك الانتباه إليها ، مما يثير مزيداً من الرعب ، " أشعر بهذا الرعب دائماً ، كأن شيئاً يحدث خلفى ، ورائى ، جوارى "
كان الرعب دائماً له مصدره الميتافيزيقى ، رعب من الأشياء التى تحدث بعيداً عن الإنسان لكن الرعب فى قصة ( بيتزا) (5) يكون أكثر اقتراباً وبساطة ووضوحاً، تجده فى أنبوبة بوتجاز ست شعل ـ ثلاجة كريازى – تليفزيون NEC شبح – مطبخ قبنورى ، الرعب إذن يحكم ممارستنا اليومية ويشاركنا منازل إقامتنا عندما تتجاوز الأشياء والمقتنيات وجودها الاستكمالى لتؤثر وتفعل فى حركة حياتنا بل تحكمها حتى يستلب وجودنا لصالحها ، ونتضاءل تحت وطأة نمط استهلاكى حتى نتحول نحن ـ أيضاً ـ الى أشياء ، فالزوجة التى غاب زوجها بحثا ًعن مقتنيات كمالية ، ضاعت ملامحه تماماً من ذاكرتها واختزل وجوده فى كومة من الملابس " اتلهف إلى رؤياك ، افتح الدولاب ، انظر إلى ملابسك أحدثها"
وفى المقابل ، تكاد تتحول الزوجة إلى كائن شبحى لا وجود له ولا يلتفت إلى وجوده ، إن الغياب الجسدى للزوجة يأتى فى مقابل الغياب الجسدى للزوج ، هكذا يكون للأجساد لغتها الخاصة وتواصلها الخاص ، حتى ليؤثر غياب أحدهما فى الآخر " تصور لم يلتفت إلى أحد ولم يقترب منى أحد ".
وإذا كانت حياة الرجل اختزلت إلى كومة من الملابس، فإن المرأة تحاول أن تؤكد وجودها وتلفت الانتباه بملابسها ، لتصبح هذه الأشياء هى العلامة الدالة على وجودها الحى ، هكذا تندهش حين لا يلتفت أحد إليها ، وكأن غياب الذات يفقد الجسد وجوده الحقيقى ، ليصبح مجرد رمز ، حتى أن كومة من الملابس ، يمكنها أن تمثله .
" الناس فى الشارع لا يلتفتون نحوى ولا ينظرون إلى الروب الأ ورانج المحلى بالفرو الذى أرسلته إلى " .
" تصور لم يلتفت أحد إلىّ ولم يقترب منى " .
" ارتدى ملابس أنيقة لكن بمفردى ، جلست مايقرب من ساعتين ولم يقترب منى أحد ، ولم يتطفل ، كأنى لم أوجد ، شعرت بالجوع ..." .
الدلالة هنا تتجاوز معنى جوع البطن إلى جوع الجسد كله ، جسد الزوجة إلى جسد زوجها ، وحيث تفشل أجساد الآخرين فى تعويضها أو فى مجرد الانتباه إلى جسدها ،وهكذا فجسد الزوج ليس مجرد قيمة فيزيقية ، إذ يبدو غياب الزوج غياب للذات ، ومن ثم ، فإن جوع الجسد هو فى حقيقته نزوع إلى الاكتمال ، ويعنى أيضاً إن الذات والجسد ، كل منهما تمثيل للآخر.
يتم التعبير بجوع الجسد للجسد – بصورة أكثر درامية ليكتمل فيها الوعى بلغة القص باعتبارها لغة قادرة على إثارة تداعيات الفعل لا الرمز ، ويتجلى هذا فى قصة ( مانيكان ) (6) التى تصور مواجهة شائكة بين جسد حى حقيقى وجسد من جص ، هو عبارة عن مانيكان متقن الصنع و " وعارياً عرياً فاحشاً " والمانيكان المتقن الصنع على هذه الدرجة، يعود بنا إلى فكرة الخدع الصغيرة / الخدع المتقنة فتبدو أليفة ومخاتلة بصورة لا يمكن مقاومتها ، ومن ناحية أخرى يمكن النظر إلى المانيكان باعتباره صورة الجسد فى وجوده المجرد كمعنى ، هذا الوجود الفيزيقى الذى بلا روح غير أنه قادر على خداعنا والتأثير فى الجسد الحى بكل ما يحتشد به من خبرات وثقافات وتراث هائل من القيم والمعارف والمحرمات لنجد أن الجسد حتى فى صورته المجردة ، له تلك السطوة والوحشية التى تقهر الروح فى سموها وتألهها فبمجرد أن وقعت عين الراوية على جسد المانيكان العارى " تحرك شىء غريب بداخلى ، إنها الرغبة ، التمعن ، الصدق ، الدقة أوضح الأشياء " .
والسؤال هو لماذا وصفت هذه المشاعر الإنسانية بأنها ( شئ غريب ) هل يعنى هذا أن المشاعر الإنسانية قتلت بداخلنا حتى أنها أصبحت تفاجئنا فى الطريق مصادفة فنشعر كم هى غريبة عنا فى مواجهة الألفة المخادعة، هل يشير هذا إلى غياب الذات وتعمق شعور الاغتراب فى مواجهة واقع مزيف كمانيكان لجسد؟
وهل يعادل هذا الجسد المفرغ من الروح بسطوته المادية البحتة فراغ العالم وهيمنة الاشياء ؟ ربما...
أسئلة واحتمالات وتأويلات عديدة يفتح آفاقها هذا النص الثرى، مما يؤكد مرة أخرى أن لغة الفعل الدرامى حتى مع خلوها من التعبيرات البلاغية ذات الإيقاع الصوتى العالى يمكن أن تصنع نصا له العديد من الدلالات والتأويلات .
والإشارات صريحة إلى وضوح الجسد بالمقارنة إلى غياب الذات، فالجسد المتعين هو أوضح الأشياء، وهذا الوضوح هو ما يمنحه قوته وصدقه وربما سطوته الرهيبة فى الثقافات الحديثة ، والذى طالما نظر إليه باعتباره ذلك المادى الحقير، ومكمن الغرائز، وربما فشل البشرية فى تحقيق يقين غيبى هو ما يجعلها تلتفت إلى الواضح / المادى، لنكتشف، إن ما كنا نظنه متاحاً، اكثر غموضاً، وما كنا نظنه أليفا ومبتذلا، أكثر سطوة وقسوة وتأثيراً فى حياتنا .
لقد عاش الإنسان قروناً طويلة فى خدعة اليقين، والواضح كأحد الوجوه فى ثنائية تحكم وعيناعن إمكانية فصل الروح عن الجسد ،
ويبدو لى، أن هذا الوعى الحاد بخدعة اليقين هو ما يشكل الملمح التثاقفى فى قصص صفاء عبد المنعم ، فقصصها تتميز بعمق ثقافى لافت ، ويبدو هذا مناقضا لمقولات ما بعد الحداثة فى سعيها إلى تفكيك القيم المعرفية والثوابت اليقينية، والالتفات إلى جمايات السطح، أى الاعتداد بما هو مباشر وسطحى .
نحن بازاء إشكالية معرفية، تحتاج لبحث وتقص حول الكيفية التى تعمل بها آلية الوعى فى هذا النوع من القصص ، التى تستبدل العام بالخاص، والمشاريع الكبرى بالممارسات الصغيرة، حتى يمكن القول إن المبدع المنغمس فى ثقافة ما بعد الحداثة، لا يسعى إلى خلق أسطورة كلية تحاول تفسير العالم بقدر ما يسعى إلى خلق أسطورته الذاتية، والتى تمكنه من قراءة العلامات الخاصة واللصيقة ، وفى سبيل هذا يعيد النظر فى كثير من الثوابت المعرفية، ويبدأ باقرب نقطة من جسده .
لكن هذا الوعى الضجر، المتمسك بالأهداب الايدولوجية، الذى نلمحه شاحباً فى مجموعتها الأولى، يكاد يختفى تماماً فى مجموعتها الثانية(بنات فى بنات) حيث تختفى السردات الكبرى، لتحل بدلاً عنها سردات صغيرة وغير مكتملة، تعكس قلق الذات تجاه بعض معطيات الواقع كالزمن، الموت، اللذة، الجسد .
قراءة فى قصص صفاء عبد المنعم
(1)
إذا كان ثمة جيل من المبدعين الجدد يعانى إحساساً بالبدد والتوزع ، فإن هذا الإحساس يعكس ذاتاً تحتشد بمعانى التهميش والفقد واضمحلال الفاعلية ، وربما يزيد هذا الإحساس قسوة عندما يقع المبدع بين وعيين ، وعيه بأهمية دورة وقدراته وتفرده ، ووعيه بعجزه عن المشاركة الحقيقية الفاعلة فى واقع يحكمه إما المقدس وإما الأقوياء ، هذه المواجهة غير العادلة تبدد يقينه بذاته ، بمعنى أنها لم تعد ذاتاً مؤهلة لحمل الرسالات العظمى ، وتغيير الواقع .
إن هذه المفارقة بين وعيين ( التمايز والعجز ) تصنع – في المقابل – موفقين مفارقين – أيضا – موقف المتمرد الرافض لواقع مفكك ومتهالك ، وموقف المستسلم لخديعة كبرى اسمها الواقع ، وهو ما يضع الذات في حالة من الاضطراب ، والقلق المستمر الذي يعرضها للتقويض والتفكك ، إنها ذات تنسحب من فضاء القيمة والمعنى ، لتتحول إلى كم مهمل من الأشياء الزائدة عن الحاجة " الأشياء الأليفة تخدعك للغاية ، في بساطتها ، تواجدها ، إذا بتها داخلك" (1)
ففى قصة " أشياء صغيرة أليفة " (2)، تواجهنا الكاتبة صفاء عبد المنعم ، بحشد لمفردات الواقع اليومى المستهلك لقدراتنا وطاقتنا " مروراً بالوقت ، الأولاد ، الدروس الخصوصية، وانتهاء بالبيت ، والصابون ، وصوت الموسيقى "
وليس من قبيل المصادفة أن تبدأ القصة بهذا الحشد للأشياء الاستهلاكية ، أو أن تبدأ الجملة الأولى بإشارة إلى الزمن ( مرورا بالوقت ) ، فحركة الزمن فى عمر الإنسان تتجه بالضرورة لمزيد من العجز ، هذا هو قانون الحياة المخادع " الحياة تتحرك باتجاه الموت" ، وسوف نرى أن هذه الفكرة تتعمق كثيراً فى مجموعتها التالية ، بنات فى بنات (3)، حيث يصبح الموت هو الهاجس المسيطر على كل قصصها ، وتتعمق إشكالية الزمن على نحو يعكس رغبة عارمة فى تثبيته ، ووقف زحفه .
الحياة تتحرك باتجاه الموت ، هذا القانون الملوح بحرية مزعومة هى فى الحقيقة مزيد من الاعتداء والقهر " أنت الآن حرة فى شرب الشاى ، مد ساقيك ، غسل الكوب أو تركه ، صحتك ، حديثك ، حرة إلى مدى خرق عينيك فى صورة زواجك أو تقطيعها، إنه الشتاء " .
سيرتبط الشتاء دلالياً بالزمن وسنرى كيف تسيطر هذه اللفظة ( الشتاء ) على مقدرات السرد فى مجموعتها التالية بنات فى بنات .
والراوية تمارس نفس اللعبة ، لعبة المخادعات الصغيرة ، تمارسها بكل قوانينها ، لا لتستمتع بها ، أو لتحرز مكاسبها ، بل لتكتشف بنفسها قوانين اللعبة وما تنطوى عليها من ضلال وخديعة.
يبدو الجسد غطاء للذات وملاذاً أخيراً وليس مجرد موضوع لها، فبعد تفكك الذات واهتزاز صورتها الجمعية ، فان الجسد يسعى للقيام منفرداً بدور الذات ليس بنفيها بل بتقليص المسافة بينهما حد التوحد، ومن ثم يمكن تعويض عجز الذات ،بالتفاعل والتأثير فى أجساد الآخرين إنه نوع من الخطاب الحسى الذى ينشأ بيننا وبين الآخرين حتى يكون لوجودنا ذلك الثقل المؤثر
ترسل الراوية إلى زوجها الغائب ، تعبيراً عن حالة من التشارك الحسى المأزوم " أريد إخبارك ، الجميع هنا فى الجو والوقت والأعباء سواء " .
والمساواة هنا ليست تلك القيمة الأيدلوجية ذات البعد الاجتماعى السياسى ولكنها واحدة من مسلسل الخدع الصغيرة ، كما لو كانت سجناً يحد الذات لا يسمح لها بالتواصل مع الآخرين .
" الجيران خيمة لابد من تمزيقها ، البرد قارص هذا الشتاء "
قراءة الشاهدين السابقين تكشفان عن موقع الذات بين الداخل والخارج / بين الجسد والعالم ، بين برودة الجسد ودفء الجيران .
" خنقت رغباتى المتداخلة فيك ، وقفزت بكل مدخراتك عن معرفتى وحبستك داخل أسئلتى ".
الحبس والخنق من محيط دلالى واحد ، والرغبة والمعرفة والأسئلة من محيط دلالى واحد ، وهما معاً يشكلان الإيقاع العام المعبر عن قلق الذات وضيقها وتمردها .
ويبدو العنوان فى قصة ( إن عظامك لن تفنى ) (4 ) على المستوى البلاغى مؤكداً بإن والنفى ، غير أن قراءة النص تطلعنا على مزيد من الخدع الصغيرة فحتى الجسد يستطيع ممارسة هذه الخدع على نفسه ، فالبول المحتبس فى المثانة يهيئ الرجل إلى حالة جنسية وهمية ، تماماً كحمل كاذب .
والمسافة الفاصلة بين الأجساد شاسعة حتى لتسع شيطاناً يرقد ، إن الاحتماء بالجسد وهم آخر وخدعة أخرى ، لكنه آخر ما تبقى لنا ، فالبرودة والتجاهل والعجز الجنسى وصور القهر المختلفة ، تضع الجسد على حافة الموت حتى ليصبح فريسة لشياطين خفية ، ترقد بجوارنا على الأسرة وتمارس علينا قهراً وشذوذاً .
" امرأتى شهية
وما أنا بقادر
أفعل
ما أنا بقادر "
ونتيجة لهذا العجز يصبح الملاذ الجسدى مجرد خدعة أخرى ، الجسد يعجز عن ملء فراغ الذات " كل يلوذ بما لا يلاذ به "
" والجو ملىء بالخرافة والمطر ودخان السجائر "
وتصبح الترنيمة التى تصاحب الموتى فى قبورهم والمقتطعة من كتاب الموتى الفرعونى مجرد خدعة " إن عظامك لن تفنى ولحمك لن يمرض ، وأعضاءك ليست بعيدة عنك " فليس ثمة إلا العجز والخديعة والموت ، إن الاحتفاظ بسلامة الجسد لا يعنى على الإطلاق أنك تحيا لأن الخدع الصغيرة تحاك جيداً حتى لا يمكنك الانتباه إليها ، مما يثير مزيداً من الرعب ، " أشعر بهذا الرعب دائماً ، كأن شيئاً يحدث خلفى ، ورائى ، جوارى "
كان الرعب دائماً له مصدره الميتافيزيقى ، رعب من الأشياء التى تحدث بعيداً عن الإنسان لكن الرعب فى قصة ( بيتزا) (5) يكون أكثر اقتراباً وبساطة ووضوحاً، تجده فى أنبوبة بوتجاز ست شعل ـ ثلاجة كريازى – تليفزيون NEC شبح – مطبخ قبنورى ، الرعب إذن يحكم ممارستنا اليومية ويشاركنا منازل إقامتنا عندما تتجاوز الأشياء والمقتنيات وجودها الاستكمالى لتؤثر وتفعل فى حركة حياتنا بل تحكمها حتى يستلب وجودنا لصالحها ، ونتضاءل تحت وطأة نمط استهلاكى حتى نتحول نحن ـ أيضاً ـ الى أشياء ، فالزوجة التى غاب زوجها بحثا ًعن مقتنيات كمالية ، ضاعت ملامحه تماماً من ذاكرتها واختزل وجوده فى كومة من الملابس " اتلهف إلى رؤياك ، افتح الدولاب ، انظر إلى ملابسك أحدثها"
وفى المقابل ، تكاد تتحول الزوجة إلى كائن شبحى لا وجود له ولا يلتفت إلى وجوده ، إن الغياب الجسدى للزوجة يأتى فى مقابل الغياب الجسدى للزوج ، هكذا يكون للأجساد لغتها الخاصة وتواصلها الخاص ، حتى ليؤثر غياب أحدهما فى الآخر " تصور لم يلتفت إلى أحد ولم يقترب منى أحد ".
وإذا كانت حياة الرجل اختزلت إلى كومة من الملابس، فإن المرأة تحاول أن تؤكد وجودها وتلفت الانتباه بملابسها ، لتصبح هذه الأشياء هى العلامة الدالة على وجودها الحى ، هكذا تندهش حين لا يلتفت أحد إليها ، وكأن غياب الذات يفقد الجسد وجوده الحقيقى ، ليصبح مجرد رمز ، حتى أن كومة من الملابس ، يمكنها أن تمثله .
" الناس فى الشارع لا يلتفتون نحوى ولا ينظرون إلى الروب الأ ورانج المحلى بالفرو الذى أرسلته إلى " .
" تصور لم يلتفت أحد إلىّ ولم يقترب منى " .
" ارتدى ملابس أنيقة لكن بمفردى ، جلست مايقرب من ساعتين ولم يقترب منى أحد ، ولم يتطفل ، كأنى لم أوجد ، شعرت بالجوع ..." .
الدلالة هنا تتجاوز معنى جوع البطن إلى جوع الجسد كله ، جسد الزوجة إلى جسد زوجها ، وحيث تفشل أجساد الآخرين فى تعويضها أو فى مجرد الانتباه إلى جسدها ،وهكذا فجسد الزوج ليس مجرد قيمة فيزيقية ، إذ يبدو غياب الزوج غياب للذات ، ومن ثم ، فإن جوع الجسد هو فى حقيقته نزوع إلى الاكتمال ، ويعنى أيضاً إن الذات والجسد ، كل منهما تمثيل للآخر.
يتم التعبير بجوع الجسد للجسد – بصورة أكثر درامية ليكتمل فيها الوعى بلغة القص باعتبارها لغة قادرة على إثارة تداعيات الفعل لا الرمز ، ويتجلى هذا فى قصة ( مانيكان ) (6) التى تصور مواجهة شائكة بين جسد حى حقيقى وجسد من جص ، هو عبارة عن مانيكان متقن الصنع و " وعارياً عرياً فاحشاً " والمانيكان المتقن الصنع على هذه الدرجة، يعود بنا إلى فكرة الخدع الصغيرة / الخدع المتقنة فتبدو أليفة ومخاتلة بصورة لا يمكن مقاومتها ، ومن ناحية أخرى يمكن النظر إلى المانيكان باعتباره صورة الجسد فى وجوده المجرد كمعنى ، هذا الوجود الفيزيقى الذى بلا روح غير أنه قادر على خداعنا والتأثير فى الجسد الحى بكل ما يحتشد به من خبرات وثقافات وتراث هائل من القيم والمعارف والمحرمات لنجد أن الجسد حتى فى صورته المجردة ، له تلك السطوة والوحشية التى تقهر الروح فى سموها وتألهها فبمجرد أن وقعت عين الراوية على جسد المانيكان العارى " تحرك شىء غريب بداخلى ، إنها الرغبة ، التمعن ، الصدق ، الدقة أوضح الأشياء " .
والسؤال هو لماذا وصفت هذه المشاعر الإنسانية بأنها ( شئ غريب ) هل يعنى هذا أن المشاعر الإنسانية قتلت بداخلنا حتى أنها أصبحت تفاجئنا فى الطريق مصادفة فنشعر كم هى غريبة عنا فى مواجهة الألفة المخادعة، هل يشير هذا إلى غياب الذات وتعمق شعور الاغتراب فى مواجهة واقع مزيف كمانيكان لجسد؟
وهل يعادل هذا الجسد المفرغ من الروح بسطوته المادية البحتة فراغ العالم وهيمنة الاشياء ؟ ربما...
أسئلة واحتمالات وتأويلات عديدة يفتح آفاقها هذا النص الثرى، مما يؤكد مرة أخرى أن لغة الفعل الدرامى حتى مع خلوها من التعبيرات البلاغية ذات الإيقاع الصوتى العالى يمكن أن تصنع نصا له العديد من الدلالات والتأويلات .
والإشارات صريحة إلى وضوح الجسد بالمقارنة إلى غياب الذات، فالجسد المتعين هو أوضح الأشياء، وهذا الوضوح هو ما يمنحه قوته وصدقه وربما سطوته الرهيبة فى الثقافات الحديثة ، والذى طالما نظر إليه باعتباره ذلك المادى الحقير، ومكمن الغرائز، وربما فشل البشرية فى تحقيق يقين غيبى هو ما يجعلها تلتفت إلى الواضح / المادى، لنكتشف، إن ما كنا نظنه متاحاً، اكثر غموضاً، وما كنا نظنه أليفا ومبتذلا، أكثر سطوة وقسوة وتأثيراً فى حياتنا .
لقد عاش الإنسان قروناً طويلة فى خدعة اليقين، والواضح كأحد الوجوه فى ثنائية تحكم وعيناعن إمكانية فصل الروح عن الجسد ،
ويبدو لى، أن هذا الوعى الحاد بخدعة اليقين هو ما يشكل الملمح التثاقفى فى قصص صفاء عبد المنعم ، فقصصها تتميز بعمق ثقافى لافت ، ويبدو هذا مناقضا لمقولات ما بعد الحداثة فى سعيها إلى تفكيك القيم المعرفية والثوابت اليقينية، والالتفات إلى جمايات السطح، أى الاعتداد بما هو مباشر وسطحى .
نحن بازاء إشكالية معرفية، تحتاج لبحث وتقص حول الكيفية التى تعمل بها آلية الوعى فى هذا النوع من القصص ، التى تستبدل العام بالخاص، والمشاريع الكبرى بالممارسات الصغيرة، حتى يمكن القول إن المبدع المنغمس فى ثقافة ما بعد الحداثة، لا يسعى إلى خلق أسطورة كلية تحاول تفسير العالم بقدر ما يسعى إلى خلق أسطورته الذاتية، والتى تمكنه من قراءة العلامات الخاصة واللصيقة ، وفى سبيل هذا يعيد النظر فى كثير من الثوابت المعرفية، ويبدأ باقرب نقطة من جسده .
لكن هذا الوعى الضجر، المتمسك بالأهداب الايدولوجية، الذى نلمحه شاحباً فى مجموعتها الأولى، يكاد يختفى تماماً فى مجموعتها الثانية(بنات فى بنات) حيث تختفى السردات الكبرى، لتحل بدلاً عنها سردات صغيرة وغير مكتملة، تعكس قلق الذات تجاه بعض معطيات الواقع كالزمن، الموت، اللذة، الجسد .
أن تنصت للموسيقى داخلك ..