الجمعة، 13 فبراير 2015

صفاء عبد المنعم تكتب نصًا موازيًا لـ “لمح البصر” 

صفاء عبد المنعم سيد الوكيل

(العودة من نفس الطريق، لم تعد ممكنة)

حين أعطانى صديقي الشاعر عبده الزراع كتاب صديقي المبدع سيد الوكيل كي أقرأه.

قال لي: كتابة مدهشة.

فازداد شغفي وأخذت منه الكتاب ووضعته في “شنطتي”، ولهفتي لقراءته.

كنا في يوم الأربعاء الساعة الخامسة عصرًا، عندما ذهبت إلى البيت كنت مرهقة جدًا، فقررت تأجيل قراءة الكتاب إلى يوم الجمعة، يوم راحتي.

ولكن من أين يأتي النوم ويرقد في “شنطتي” كتاب جميل لصديقي سيد الوكيل المبدع الرائع.

في ليلة الخميس، وأنا نائمة طوال الليل أحلم بالكتاب في حضني مثل طفل صغير ولديه امتحان في الغد فنام يحلم بكل ماهو مخبوء وسوف يأتي، شغفت بقراءته، ووضعته داخل “شنطتي”، فهو الآن ما زال راقدًا في أمان وسلام، إنه في مأمن، وبعيدٌ عن المخاوف والأحلام المفزعة، ولكن السؤال المدهش والذي ظل يؤرقني طوال الليل: كيف خرج الكتاب من “الشنطة” وجاء إلى حجرتي يحتضنني بقوة عاشق!

بين كل حلم وحلم، أستيقظ، أنظر إلى ساعة الحائط المعلقة أمامي، وتكتكات العقارب تشير إلى منتصف الليل، الساعة أصبحت مزعجة بالنسبة لي، فأجدها الواحدة بعد منتصف الليل، أعاود النوم ثانية، ثم أحلم، وأستيقظ، وهكذا طوال الليل وأنا بين الحلم واليقظة، والتمني بمرور الوقت سريعًا حتى يطلع الفجر وأستيقظ كي أقرأ الكتاب، ولكن ليل الشتاء طويل. ماذا تفعل صغيرة مثلي مع عاشق لحوح، يريد لها أن تصحو وتنتبه له؟ فيوقظها بين لحظة وأخرى ملهوفةً مشتاقةً، منزعجةً، إنها الآن الثالثة صباحًا، لم يعد النوم يجدي، تركت السرير، وتغلبت على البرد (خصوصًا ونحن في شهر طوبة البارد، وبعد موجة صقيع، اجتاحت البلاد في الأيام الماضية، استيقظت من النوم، وغلبت البرد، وتكتكة الساعة، وخرجت محتضنة الكتاب بقوة، وسحبت الملاءة، وصنعت كوبًا كبيرًا من الشاي الساخن، وجلست أستمتع منبهرة بهذا العالم الداخلي، الجواني قوي، والذي طغى على ذاكرة الكاتب فكتب رائعته الجميلة “لمح البصر” ـ الصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع، قطع متوسط، عدد الصفحات 94 صفحة، تاريخ الإصدار 2014.

فتحت الكتاب، وشرعت في القراءة، وجلست أنصت للكلمات وهي خارجة من بين الصفحات وتغزوني ببطء وخفة.

ويا لدهشتي وحبوري وامتناني بهذه الكتابة التي فتحت مغاليق الروح، لكي تدخل، وسربت الأحلام والإحباطات والأماني خارجة من داخل مغاليق القلب.

الفجر الآن يؤذن وأنا عند صفحة 30 ونص (حافة الموت) أمامي في صفحة 31 توقفت بينهما استراحة قصيرة كي ألملم أشتاتي التي بُعثرت، ورأسي التي خرجت منها الأفكار المحبوسة، مندفعة بقوة وشجاعة وبهاء، معلنة عن خروجها السافر وتحديها لكل قوانين الذوق العام والضروري والممكن، ولابد وحيث إلى الفضاء الواسع في سكون الليل، والحجرة المضاءة بالنيون، والمدفأة الكهربائية بشمعاتها الثلاث المضيئة بقوة.

لماذا استيقظت؟

لماذا وقفت عند هذه الجملة تحديدًا.. (العودة من نفس الطريق، لم تعد ممكنة) صــ30.

صديقي العزيز سيد الوكيل:

لماذا العودة أصبحت غير ممكنة، هل لأنني قرأت كل هذا الكم؟

أم حاولت أن تنبهني إلى شىء غائب وهام؟

وهو ترك الممكن للوصول إلى المستحيل!

للمرة الثانية في حياتى أقف هذا الموقف.

موقف التلميذ الذي يعتقد أنه ذاكر وحفظ وفهم وهضم الدرس جيدًا!

فيكتشف في لحظة فشله وغروره، بتلميذ قادم يجيب عن سؤال مقلق وبسيط ما هي الكاتبة؟

وماذا نريد منها؟

في المرة الأولى كان التلميذ الأول هو (مجدي الجابري) عندما أصدر ديوانه (عيل بيصطاد الحواديت).. والآن التلميذ الثاني هو سيد الوكيل بكتابه (لمح البصر).

كتابة تجعلك تقشر عن جسد وروحك كل ماهو عالق بها من ذكريات ومحبة وإحباطات وهزائم، وتزيح حجر الروح الراكز على صدرك، فتفتح لك مغاليق الكلمات والحكايات، وتأتي رسولة الكتابة الساحرة الطيبة بنجمتها اللامعة تشير بها إلى رأسك فتتفجر الكتابة.

أو كما قال شاعر (معرفش ليه الغنا اتفجر امبارح).

إنها الكتابة يا صديقي سيد الوكيل، إنها سيدة الحكايات والمواقف، كلٌ يلوذ بما لا يلاذ به.

إننا الكتاب الحمقى والمغرورين، كلما اجتهدنا ووصلنا، وكلما فتحنا بابًا، سبقنا تلميذ نجيب بخطوة، وفتح بابًا جديدًا.

في نص حبر على ورق

سوف نتابع الولد الذي يطلب حبرًا كي يكتب.

  • أريد حبرًا لأكتب.

  • كم مرة قلك إنك صغير على الكتابة بالحبر، صـ 9

إنه نفس الولد الذي سوف نراه في نص مكان ضيق صــ11

كل شىء حاضر كما رأيته من قبل.

هل رأيته من قبل؟

أين رأيته من قبل؟

الرحلة من الرغبة في الكتابة إلى الرؤية والتشكك فيها (رأيت هذا من قبل، لذلك.. لا جدوى من التفكير في الهرب) إذن لا مفر من الكتابة / الرؤية / التفكير / الهروب.

يجب أن أكتشف بنفسي.

إذن إنها المغامرة للاكتشاف، ماذا يكتشف؟

في نص اللعبة صـ13

(كأني في متاهة، أدور بينها بلا نهاية)

في صـ14 يقول الكاتب الذي استدعى الطفل الذي بداخله، والذي سوف يكتشف ذاته من خلاله (رأيت بضع درجات تنزل لأسفل، وثَمّ هواء بارد يغمرني حتى اقشعر له بدني، غير أن الولد والبنت راحا يحثاني على النزول، ويتقدماني، فتبعتهما وجلا، وهما يمضيان إلى دهليز مظلم، كلما تقدما بديا أصغر من سنهما، حتى صارا طفلين يتقافزان أمامي في مرح، ويتبادلان ضحكات مكتومة)… المسألة إذن هي لابد من دخول الدهليز واتباع الطفولة الزاخرة بالحركة والمرح والاكتشاف، يقال إن الطفل لا يعرف الخوف بقدر ما هو عشق المغامرة نص برزخ صــ15.

سوف ننزل الدهليز ونتبع الطفل لنكتشف (لم أكن قادرًا على الرجوع للوراء خطوة واحدة، كأن أحدًا يدفع بي إلى نهاية الممر حيث يمكنني رؤيتهم يقفون في استقبالي مدججين بالهراوات).

من الطبيعي والمنطقي عند اكتشاف ومعرفة جديدة يقف حراس القديم مدججين بالهراوات.

(استبدت بي رعدة قوية، فأطلقت آهة وانتشيت).

بعد المشهد الوصفي الرائع للفتيات في صـ15 (ثمة فتيات يدخلن في طابور طويل، كن صبايا عاريات، بنهود شهية، تثير في حواسنا شيئا من الألم) الألم واللذة صنوان لا يفترقان دائمًا، الألم تتبعه لذة، واللذة يتبعها ألم، وكأنه قدر الإنسان منذ أن قبض برمثيوس على النار ووهبها للإنسان وعُذّب من الآلهة مقابل حبه للبشر.

نحن ما زلنا نتبع الولد الذي كان يريد الكتابة، ثم ذهب إلى المغارة، فالاكتشاف.

في نص أسماء صـ17

(سبحت وقتًا غير هين في نفق طويل، وأنا أشعر بخوفي وعجزي يثقلاني، أسمع أصداء أنين العجوز، وأحس رجفتي، حتى انتهيت إلى كوة).

في أثناء المغامرة والانتشاء والبحث وفرحة الاكتشاف لابد أن يتم الاصطدام بحراس الحكمة الجاهزة، ودائما هم العجائز حاملوها وحراسها.

(لماذا تفعلين بي هذا يا أسماء؟).

في مقطع صـ18

(فجلست مكاني بلا حيلة. فيما هي تضحك من يأسي، وتمد لي يدًا بكوب حليب، وكسرة خبز أخذتهما في لهفة، وأنا حانق عليها قلت: أنت وراء كل هذا. قالت: بل أنا كل هذا).

عندما يمر المبدع برحلة كشف، أو معراج داخل ذاته يتعب وييأس من الرحلة المليئة بالدهاليز والأقبية، فيحاول أن يبحث عن منقذ أو معين، إنه يبحث عن حواء الهاربة منه، أو الهارب هو منها في رحلة ضياع قد تطول أو ربما يكون حوار الهاربة هذه هي ذاته، طفولته، براءته، بكارته، وأثناء رحلة البحث يصطدم بها وهو منهك خائر القوى، عيي، فتأتي له إما بالماء، أو الحليب كي يقتات ليواصل رحلة البحث إلى آخرها، وربما تكون أسماء هذه هي كناية عن المعرفة!

السماء التي ضاعت من آدم بعد أن أخبره بها الرب (معلم آدم السماء كلها).

شجرة الألعاب صـ21

(من الأفضل ألا أذهب بعيدا عن البيت. الكلاب التي تنبح من بعيد تعرفني.. الشجرة التي راحت تهتز، وتساقط أشيائي كلها..).

سوف تكشف لنا هذه المقاطع، المجتزأة من النص، خوف الطفل من الذهاب بعيدا من الكلاب، الهروب من المستقرات والخوف، البيت بالنسبة له استقرار معرفي وعائلي، ولكن الشجرة بما أنها محبة للإنسان ومكشفة الأسرار ترسل له أشياءه.. (وتساقط أشيائي كلها، طائرتي الورقية، وكراتي المطاطية، وأوراقًا ملونة لحلوى أكلتها، ودمية تقول ماما، كنت اشتريتها لابنتى في عيد ميلادها الثالث).

هنا نكتشف الخبيئة المعرفية، أن الطفل رجل كبير ولديه طفلة، لذا شجرة المعرفة أسقطت له طفولته ورجولته مرة واحدة.

نص شغف الطريق صـ23

هذا النص أعتقد أنه نفق حقيقي، نفق نص كطقس من طقوس العبور في الحياة، هو نص صغير ولكنه نص دلالي، نفق عبور حقيقي واقعي (قبيل بداية نفق الأزهر..) النفق هنا اكتشاف (في نهاية النفق رأيتهم من جديد، فتعجبت، كيف تركناهم هناك، وكيف نجدهم هنا؟).

هذه الحيرة التي ألمت بالطفل / الرجل، سوف تصحبنا في رحلة خروجه من نفق الطفولة بشرب الحليب الذي أعطته له أسماء إلى خروج جديد بعد أن أسقطت له الشجرة طفولته المتمثلة في اللعب، ورجولته المتمثلة في وجود طفلة حقيقية لديه.

(كان الدراويش يحيطون بها ويلصقون وجهوهم بالزجاج حتى شممت أنفاسهم فوجفت قلوبنا بالخوف والرهبة) السائق يسأله عن فرصة أخرى للخروج، وهو يبحث عن السكينة المتمثلة في مسجد السيدة سكينة، ولكنه اكتشف أو أدرك (أنه كان علينا أن نتخذ طريقا آخر لبيت الله).

هذا السطر يكشف لنا أن هناك طرقًا كثيرة لاكتشاف بيت الله، خلاف الطريق الواحد المألوف للجميع (نفق الأزهر).

غرفة العناية الإلهية صـ25

(هكذا أبلغني سكرتير مكتبه.. ثم طلب مني أن أخلع نظارتي، فليس لأحد أن يدخل عليه بنظارة.. سمعت صوت سكرتيره يهتف بي ـ ها أنت تعرف الطريق بدون نظارة).

في هذا النص نتبع صوفيةً وشغفًا مختلفين عن النص السابق.

(شغف الطريق) في الأول المحاولة للوصول جهد مهدر، ثم اكتشاف أن هناك طرقًا عديدة للذهاب نجهلها وعلينا اكتشافها.

في نص غرفة العناية الإلهية، وهو النص التالي لأول، نكتشف مع المحب المريد أو البصير، لأننا سوف نكتشف الطريق بدونها، وهذا ما جاء في السطر الأخير على لسان السكرتير ـ (ها أنت تعرف الطريق بدون نظارة).

عطر محرم صـ27

(دعاني المرحوم عمي على الغداء في بيت جدنا القديم، لاحظت أن تعديلا كبيرا غير من معالم البيت..).

الرجل الذي خرج من مرحلة الطفولة وعبر النفق، واكتشف أن هناك طرقًا أخرى للوصول، يقف أمام القديم ويراه حديثًا (حتى ظننت أنني في أحد الفنادق الحديثة..) ثم نفاجأ بالزنجية عشيقة الأب في بيت العم، ويراها وهي تقدم له سمكًا مملحًا، وتترك عطرًا محرمًا.

والعم يقول له: الحياة قصيرة على كل حال.

بين الدهشة والرؤية والتعجب تمر الحياة بسرعة كما وصفها العم.

في نص قلق الأربعين صـ 29

نرى الرجل / الطفل يقف بين عالمين، عالم الطفولة، البنات التي تمر على الأحجار لعبور المياه الآسنة وبين أخذه هو يد الأرملة وعبوره بها.

(كنت أتقدمها بتوازن دقيق، على أحجار قلقة، وسط بركة ماء آسن، غير أننا عبرنا بسلام) عبور جديد، طقس من طقوس الحياة في الأربعين.

في هذا المقطع نرى الرجل الذي خبر الحياة وعبرها، يأخذ المرأة ويعبر بها ثانية وكأنه طقس عبور جديد مشترك.

(عندما التفت ورائي، رأيت الشارع كله مغمورًا بالماء الآسن، وثمة أحجار قلقة في كل مكان على امتداد البصر فأدركت أن العودة من نفس الطريق، لم تعد ممكنة) صـ 30

وهنا في هذا المقطع الحاسم بأنه لا عودة بعد طقس العبور السابق، وأنه يجب أن نبحث من جديد عن طريق آخر بعد قلق الأربعين.

العناوين ليست بريئة على الإطلاق، واختيارها وترتيبها جاء موفقًا وبدقة وكأن هناك رجلاً مسنًا (الكاتب) خبر الحياة وبدأ يلضم عقد حياته، ويضع الحبات متجاورات بدقة وعناية، ليس بترتيب حدوثها في الواقع، ولكن بترتيب الطقوس والعبور في مراحل الحياة، وكأنه يخبرنا بأن الحياة “مش بروفة”، كما قال الشاعر مجدي الجابري، ولكن الحياة هي رحلة بحث ممتعة واكتشاف مرير ورغبة جامحة، وإثارة في المعرفة وفك طلّسم الحياة المعاشة هنا والآن.

تحية وتقدير للكاتب الكبير سيد الوكيل، والذي أمتعنا بهذه الكتابة الواعية المدركة لشخصها ووجودها، وقابضة على طفولتها لكشف كل ما هو مستتر وخبىء داخل الروح والنفس.. تحية إعزاز وتقدير.

قصة قصيرة (عزيزي أصلان)

  عزيزى أصلان     الآن وللمرة الثانية انتهى من وردية ليل . لم يكن يشغل بالى سوى العم بيومى وهو يرفع وجهه ( أول دور مش تانى دور ) جملة ...

المتابعون