الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012


                                  صور في معرض اللوحات

 

 

      ( كان كما لو أنه يرمى حاجة في الزمن )

 

 

       كان كما لو أنه يلقى شيئا في الزمن , فيذهب بعيدا , بعيدا مختفيا خلف الأجرام والكواكب والسماوات البعيدة التي تطل منها الملائكة الحسان وبنات الحور الخارجات من الجنة , ولم يمسسهن بشر .

 

       هكذا قال مدرس الموسيقى وهو يدير الأسطوانة , ويشعل الموسيقى في الحجرة .

 

" عندما تكون في حضرة الموسيقى , لابد أن تسير على أطراف أصابعك , ولا تحدث صوتا في القاعة , وتجلس على أقرب كرسي أمامك ."

ثم يخفض الصوت ويشرح معنى الجمل والألحان والمقاطع اللحنية والآلات , ودور كل آلة في اللحن .

 

     ( وكأن النغمات آتية من مكان بعيد )

     وكأن النغمات آتية من مكان بعيد , وصوت الموسيقى الهادئ الأتي من( لوحات في معرض الصور) للموسيقى ( موديست موسورسكى ) تدعوها للتجوال معها داخل هذا المعرض الذي تركه الرسام ( فيكتور ) كي يفتتحه أصدقاءه بعد موته .

 

اللوحات تتحرك أمامها في تراتب وشجن وصوت الساكس يذهب بها بعيدا , كما لو كان يرمى حاجة في الزمن .

الموسيقى تتلون وتعبر في تناغم هرموني . والفراشات تأتى, تأخذها من يدها وتذهب بها !لي ( حدائق التورين ) حيث الدادات يتركن الأطفال الصغار يلعبون ويمرحون داخل العربات الصغيرة في الهواء الطلق المنعش . الأطفال ينطون الحبل .

 الصور المتحركة تتوالى على رأسها , وهى تحاول جاهدة اللحاق بهم

والموسيقى تأخذها بعيدا , بعيدا , حيث ينبت لها أجنحة صغيرة , تنط بهم مزهوة وراء الفراشات المتطايرة فرحة , ومنتشية في أبهي جمالها

وعن بعد تلمح عربة خشبية عتيقة آتية يجرها أثنين من الثيران , يجران عربة ثقيلة .

الموسيقى تدور كأنها تحرث الأرض , والحمل الثقيل , يمثل عبئا على ظهر الثورين وهما يواصلان حركتهما داخل اللوحة .

وعيناها تتابع اللوحات المتخيلة .

والصوت يرن في أذنيها عاليا ثقيلا , دقات الطبول , الزحف البطئ , البطء الذي يمثل الثقل .

آلة ( التيو ) النحاسية تخترق اللحن .

والموسيقية تهدأ ليدخل الصغار تاركين عرباتهم خارج اللوحة ويتحركون مع     (بالية الكتاكيت ) .

 

قررت أنها لن تترك اللوحة قبل الامتلاء بها ولو ظلت أمامها لساعات واقفة , تتأملها في صمت وهدوء غريبا عن عاداتها , فهي كانت لا تطيق الوقوف ولو لبضع دقائق أمام عمل فني واحد .

  الموسيقى تتقافز خارجة من اللحن .

كأن كتاكيت صغيرة تصوصو في مرح وتناديها : هاتى يديك سيدتي .

وتمد يدها عبر الزمن والألوان والحركات الساكنة .

تمد يدها وتدخل , تقف على أطراف أصابعها تتمايل .

 

 ( اثنان من اليهود البولنديين, جر برت واشما يل ).

الأول ثمين وعريض وغنى , والآخر نحيف وضعيف وفقير , رجلان واقفان أمام كل منهما , إصبع الثمين مشهره في وجه الضعيف , يطرده من المحل .

وقفت الصورة .

ولكن اللحن استمر ممتدا !لي مالا نهاية .

طول ما هناك أشارة الإصبع مرفوعة ومشهره ,سيظل اللحن يعزف مصورا حالة البؤس والفقر في تكرار دائم .

(تر مبيت ) مكتوم الصوت للفقير يظهر الهمس والضعف .

( وتريات الباص والتشيلو ) للغنى تظهر الغلظة والقوة .

هكذا وقفا الاثنان وقفة أبدية !لي ما لا نهاية .

النحيف والثمين في مواجهة الحياة .

 

وتخرج هي من اللوحة مع الكتاكيت الراقصة .

وتدخل ( محل بيع في السوق )

التجوال , الحركة , البيع والشراء , صخب الناس المتصاعد والمتواصل , يظهر في أداء ( الوتريات ) ترتفع , ترتفع , تهبط , تهبط , تعلو , تعلو , تنهار نازلة على الإسفلت

 

     !نها الموسيقى بكل قدرتها الفائقة في تصوير الحالة الشعورية ,والحركية للناس .

زعيق , ضجيج , أنها ( النحاسيات ) تتجول في السوق , وتقف نافخة بنفير زاعق أمام ( بوابة كليف )قوس النصر الكبير مرتفعا أمام باب القلعة القديمة , والجنود يدخلون منتصرون من باب النصر .

 

      كان الموسيقي ( موسورسكي ) يتجول داخل اللوحات يلون بألحانه وآلته .

مثلما كان يفعل صديقه الرسام ( فيكتور ) يعزف بريشته وألوانه الألحان .

وأنا أعزف بالحروف والكلمات لكي تدوم اللوحات عبر التاريخ .

 

                                 ( وكأني أرمى حاجة في الزمن ) .

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون