صور في معرض
اللوحات
(
كان كما لو أنه يرمى حاجة في الزمن )
كان كما لو أنه يلقى شيئا في الزمن ,
فيذهب بعيدا , بعيدا مختفيا خلف الأجرام والكواكب والسماوات البعيدة التي تطل منها
الملائكة الحسان وبنات الحور الخارجات من الجنة , ولم يمسسهن بشر .
هكذا قال مدرس الموسيقى وهو يدير
الأسطوانة , ويشعل الموسيقى في الحجرة .
"
عندما تكون في حضرة الموسيقى , لابد أن تسير على أطراف أصابعك , ولا تحدث صوتا في
القاعة , وتجلس على أقرب كرسي أمامك ."
ثم يخفض
الصوت ويشرح معنى الجمل والألحان والمقاطع اللحنية والآلات , ودور كل آلة في اللحن
.
( وكأن النغمات آتية من مكان بعيد )
وكأن
النغمات آتية من مكان بعيد , وصوت الموسيقى الهادئ الأتي من( لوحات في معرض الصور)
للموسيقى ( موديست موسورسكى ) تدعوها للتجوال معها داخل هذا المعرض الذي تركه
الرسام ( فيكتور ) كي يفتتحه أصدقاءه بعد موته .
اللوحات
تتحرك أمامها في تراتب وشجن وصوت الساكس يذهب بها بعيدا , كما لو كان يرمى حاجة في
الزمن .
الموسيقى
تتلون وتعبر في تناغم هرموني . والفراشات تأتى, تأخذها من يدها وتذهب بها !لي (
حدائق التورين ) حيث الدادات يتركن الأطفال الصغار يلعبون ويمرحون داخل العربات
الصغيرة في الهواء الطلق المنعش . الأطفال ينطون الحبل .
الصور المتحركة تتوالى على رأسها , وهى تحاول
جاهدة اللحاق بهم
والموسيقى
تأخذها بعيدا , بعيدا , حيث ينبت لها أجنحة صغيرة , تنط بهم مزهوة وراء الفراشات
المتطايرة فرحة , ومنتشية في أبهي جمالها
وعن بعد
تلمح عربة خشبية عتيقة آتية يجرها أثنين من الثيران , يجران عربة ثقيلة .
الموسيقى
تدور كأنها تحرث الأرض , والحمل الثقيل , يمثل عبئا على ظهر الثورين وهما يواصلان
حركتهما داخل اللوحة .
وعيناها
تتابع اللوحات المتخيلة .
والصوت يرن
في أذنيها عاليا ثقيلا , دقات الطبول , الزحف البطئ , البطء الذي يمثل الثقل .
آلة (
التيو ) النحاسية تخترق اللحن .
والموسيقية
تهدأ ليدخل الصغار تاركين عرباتهم خارج اللوحة ويتحركون مع (بالية الكتاكيت ) .
قررت أنها
لن تترك اللوحة قبل الامتلاء بها ولو ظلت أمامها لساعات واقفة , تتأملها في صمت
وهدوء غريبا عن عاداتها , فهي كانت لا تطيق الوقوف ولو لبضع دقائق أمام عمل فني
واحد .
الموسيقى تتقافز خارجة من اللحن .
كأن كتاكيت
صغيرة تصوصو في مرح وتناديها : هاتى يديك سيدتي .
وتمد يدها
عبر الزمن والألوان والحركات الساكنة .
تمد يدها
وتدخل , تقف على أطراف أصابعها تتمايل .
( اثنان من اليهود البولنديين, جر برت واشما يل ).
الأول ثمين
وعريض وغنى , والآخر نحيف وضعيف وفقير , رجلان واقفان أمام كل منهما , إصبع الثمين
مشهره في وجه الضعيف , يطرده من المحل .
وقفت
الصورة .
ولكن اللحن
استمر ممتدا !لي مالا نهاية .
طول ما
هناك أشارة الإصبع مرفوعة ومشهره ,سيظل اللحن يعزف مصورا حالة البؤس والفقر في
تكرار دائم .
(تر مبيت )
مكتوم الصوت للفقير يظهر الهمس والضعف .
( وتريات
الباص والتشيلو ) للغنى تظهر الغلظة والقوة .
هكذا وقفا
الاثنان وقفة أبدية !لي ما لا نهاية .
النحيف
والثمين في مواجهة الحياة .
وتخرج هي
من اللوحة مع الكتاكيت الراقصة .
وتدخل (
محل بيع في السوق )
التجوال ,
الحركة , البيع والشراء , صخب الناس المتصاعد والمتواصل , يظهر في أداء ( الوتريات
) ترتفع , ترتفع , تهبط , تهبط , تعلو , تعلو , تنهار نازلة على الإسفلت
!نها الموسيقى بكل قدرتها الفائقة في تصوير
الحالة الشعورية ,والحركية للناس .
زعيق ,
ضجيج , أنها ( النحاسيات ) تتجول في السوق , وتقف نافخة بنفير زاعق أمام ( بوابة
كليف )قوس النصر الكبير مرتفعا أمام باب القلعة القديمة , والجنود يدخلون منتصرون
من باب النصر .
كان الموسيقي ( موسورسكي ) يتجول داخل
اللوحات يلون بألحانه وآلته .
مثلما كان
يفعل صديقه الرسام ( فيكتور ) يعزف بريشته وألوانه الألحان .
وأنا أعزف
بالحروف والكلمات لكي تدوم اللوحات عبر التاريخ .
( وكأني أرمى
حاجة في الزمن ) .