بيت فنانة
من الوهلة الأولى عند دخولك البيت، تشعر أنك في بيت فنانة، صاحبة حس مرهف وعالي وجميل.
عندما ذهبت إلي زيارتها في المرة الأولي، وكان ذلك في صيف 1999، أي بعد وفاة زوجي بثلاثة شهور، وتحديدا يوم عيد زواجنا في 18 / 8 ركبت أتوبيس مدينة الشروق من ميدان العباسية، وعندما وصلت، صعدت درجات السلم إلي الدور المحدد، وقفت لبرهة أستعيد في ذاكرتي أين تسكن نعمات البحيري؟
وعندما تأملت الأبواب للحظة، وجدت بعض الصبارات الخضراء منتشرة داخل أصص من الفخار.
قلت في نفسي: هذه شقة نعمات ...
وضعت إصبعي على الجرس .
فتحت لي بوجهها البشوش، وضحكتها المشرقة....
ـ أزيك يا صافي.
برافوا عليك عرفتي الشقة لوحدك!
كنت لأول مرة أذهب فيها إلي هذه المدينة البعيدة والتي أسمع عنها كثيرا وأخاف من بعدها عن العاصمة.
جلست على كنبة الأنتريه، وأخذت أتأمل بعمق الصور واللوحات المعلقة على الحائط أمامي، والتي التقطت لها في أماكن مختلفة ومع شخصيات عديدة، جميع الحوائط مغطاة تقريبا بالصور، حتى المطبخ، عندما دخلته لصنع كوبين من الشاي لي ولها، كان ملئ بالصور والقصائد المعلقة فوق الثلاجة وفي كل مكان , أخذت أقرأ
مرثية رجل عظيم
كان يريد أن يري النظام في الفوضى،
وأن يري الجمال في النظام.
وكان نادر الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه
ناشرة الفودين، مرخاة الزمام.
................
صلاح عبد الصبور
نزلت عيناي على الكلمات تلتهما!
إن الذكريات تحوطها من كل جانب، وكأنها تريد أن تملأ وحدتها بهؤلاء..... المعارف والأدباء والفنانين، حتى قصاصات الجرائد كانت تضعها كلوحات تشكيلية في تنسيق مبهر (.قصيدة لصلاح عبد الصبور وأخرى لأمل دنقل وغيرها لحجازي)، وهذه لوحة لمحمود سعيد وغيره ... وغيره.
أخذت عيناي تتنقل بين القصائد واللوحات المرصوصة جوار بعضها في عناية ودقة وحب، وأنا ألهث وراء الكلمات، كأن هناك سباق للجري وعلىّ أن أصل إلي خط النهاية قبل الآخرين.
فوق التليفزيون على الحائط علقت (رقيا) لصلاح عبد الصبور:
في كل مساء
حين تدق الساعة نصف الليل
وتذوى الأصوات
أتداخل في جلدي، أتشرب أنفاسي
وأنادم ظلي فوق الحائط.
أتجول في تاريخي، أتنزه في تذكاراتي
أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم الميت
تستيقظ أيامي المدفونة في جسمي المتفتت
أتشابك طفلا وصبيًا وحكيمًا محزونًا
يتآلف ضحكي وبكائي مثل قرار وجواب.
أجدل حبلا من زهوي وضياعي
لأعلقة في سقف الليل الأزرق
أتسلق حتى أتمدد في وجه قباب المدن الصخرية
أتعانق والدنيا في منتصف الليل.
.............................
بكيتُ بحرقة الأيام الضائعة والوحدة والصمت، ضمتني إلي صدرها برفق وحنو وضحكت:
ـ إيه يا بت .... أنت عبيطة!
دى قصيدة زيها زى كل القصائد اللي في الكتب وعلي الحيطان..... وزى الموت والبرد والصداع والهجر والنسيان والوحدة، وفي آخر الرحلة , هتزرعي قصارى من الصبار وتسقيها كل يوم، عشان تفضل خضرة ومتموتش.
ضحكنا وأكملنا الطعام، بعد الغداء وضعت شريط فيديو لها مع المذيعة المتألقة (ميرفت سلامة) في حوار شيق وجذاب.
كانت هي داخل الكادر تجلس على كرسي متحرك، تحكي عن تجربتها الإبداعية ومشوارها الفني.
وطوال الحلقة تتحرك يمينًا وشمالا، وكأنها لا تستقر على وضع، لقد لفت نظري جيدا هذا الكادر، مثلما لفت نظري وجود مجموعة من القطط , ومسماة على أسماء كتاب مشهورين (ماركيزـ كونديرا ـ إيزابيل الليندي .... وغيرهم)، عائلة كبيرة من القطط تسكن مع امرأة بمفردها، تحدثهم، وتطعمهم، وتحكى لهم كأنهم أبنائها
في الليل جلسنا في الشرفة المليئة بالصبارات، وأخذت تحكي لي عن فأرها الأثير والمؤنس لها، والذي شاركها ليلة عيد ميلادها.
وكتبت عنه في مجموعة (ارتحالات اللؤلؤ).
ها أنا أريد النوم! وهي تريد الحكي!
كانت حكاءة بارعة، ولها أسلوب شيق ولذيذ مثل كتاباتها، وكانت عيناها تشع بهجة وحياة، بهما لمعة تشبه لمعة عيون القطط، تضئ الليل بالسعادة والفرح.
امرأة تقبل على الحياة بحب وبشراهة إقبال الموت على الأطفال الرضع، الموت يلتهم الأجساد النابضة بالحياة فيخرسها، كان بيتها يشع بهجة وحب وألفة ومقدرة علي فتح ذراعيها للجميع.
وأخذت تضحك وهى تعد لي مكانًا مريحا للنوم، وتسمعني شريط أم كلثوم (أنت عمرى).
ـ أنا ها عمل جمعية للأرامل والمطلقات.
ثم ضحكت بعد ذلك:
ـ ولا أقولك , أعمل جمعية للكاتبات خارج الدعم.
ثم صمتت برهة وقالت:
ـ ها عمل جمعية البطة السودة!
وضحكنا .... ضحكنا حتى طلوع الفجر.
عودة
بطريقة ما سوف أصل للحقيقة.
اليوم، غدًا، ربما يكون بعد أعوام طويلة، وربما بعد أجيال.
نعم ربما! لكن حتمًا سأصل.
صنعتُ فنجانًا من القهوة السادة على غير عادتي، فأنا دائمًا أحبها مضبوطة، ولكن لضرورة مُلحة كسرت القاعدة، فأنا الآن أحاول أن أتذكر تفاصيل كثيرة عن كل شيء.
ونفسي تُحدثني: ضعي هذا يا عزيزتي نصب عينيك!
ـ حتما سأصل!
آه أتذكر يوم قال موجه اللغة العربية وهو يضحك: قد تصل العرجاء! وفاز فصلنا بالجائزة الأولي، وفزت أنا بلقب الرائد المثالي.
كانت ( الإرادة ) هي المحرك لدي، أو كما قال نيتشه:
(إرادة القوة = إرادة الحياة)
سخرية الموجه , بعثت بداخلي (الإرادة والقوة!)
فصل الضعفاء يتفوق، لقد وصلت العرجاء!
ضحكت في سري وأنا أكتب هذا الكلام!
أيام .... أيام البال الرائق.
ـ ولم لا تعود!
ـ المسافات أصبحت بعيدة ... بعيدة جدًا!
ـ ضعي هذه الأهداف نصب عينييك، وحتمًا ستصل، وتقل المسافات بمساحة كل خطوة تخطوها نحو هدفك.
ـ أه .... المثاليات. كرهت كل هذا.
كان هذا الحوار يدور ( بداخلي ) وأنا عائدة في نفس الأتوبيس الذي ذهبت به؛ لأني تعرفت على السائق بمجرد صعودي.
جلست جوار الشباك أستعيد حوارًا لم يحدث ( بيننا )، ولكنني صنعته مع ( نفسي )، أصبح هذا يحدث كثيرًا هذه الأيام.
من الوهلة الأولى عند دخولك البيت، تشعر أنك في بيت فنانة، صاحبة حس مرهف وعالي وجميل.
عندما ذهبت إلي زيارتها في المرة الأولي، وكان ذلك في صيف 1999، أي بعد وفاة زوجي بثلاثة شهور، وتحديدا يوم عيد زواجنا في 18 / 8 ركبت أتوبيس مدينة الشروق من ميدان العباسية، وعندما وصلت، صعدت درجات السلم إلي الدور المحدد، وقفت لبرهة أستعيد في ذاكرتي أين تسكن نعمات البحيري؟
وعندما تأملت الأبواب للحظة، وجدت بعض الصبارات الخضراء منتشرة داخل أصص من الفخار.
قلت في نفسي: هذه شقة نعمات ...
وضعت إصبعي على الجرس .
فتحت لي بوجهها البشوش، وضحكتها المشرقة....
ـ أزيك يا صافي.
برافوا عليك عرفتي الشقة لوحدك!
كنت لأول مرة أذهب فيها إلي هذه المدينة البعيدة والتي أسمع عنها كثيرا وأخاف من بعدها عن العاصمة.
جلست على كنبة الأنتريه، وأخذت أتأمل بعمق الصور واللوحات المعلقة على الحائط أمامي، والتي التقطت لها في أماكن مختلفة ومع شخصيات عديدة، جميع الحوائط مغطاة تقريبا بالصور، حتى المطبخ، عندما دخلته لصنع كوبين من الشاي لي ولها، كان ملئ بالصور والقصائد المعلقة فوق الثلاجة وفي كل مكان , أخذت أقرأ
مرثية رجل عظيم
كان يريد أن يري النظام في الفوضى،
وأن يري الجمال في النظام.
وكان نادر الكلام
كأنه يبصر بين كل لفظتين
أكذوبة ميتة يخاف أن يبعثها كلامه
ناشرة الفودين، مرخاة الزمام.
................
صلاح عبد الصبور
نزلت عيناي على الكلمات تلتهما!
إن الذكريات تحوطها من كل جانب، وكأنها تريد أن تملأ وحدتها بهؤلاء..... المعارف والأدباء والفنانين، حتى قصاصات الجرائد كانت تضعها كلوحات تشكيلية في تنسيق مبهر (.قصيدة لصلاح عبد الصبور وأخرى لأمل دنقل وغيرها لحجازي)، وهذه لوحة لمحمود سعيد وغيره ... وغيره.
أخذت عيناي تتنقل بين القصائد واللوحات المرصوصة جوار بعضها في عناية ودقة وحب، وأنا ألهث وراء الكلمات، كأن هناك سباق للجري وعلىّ أن أصل إلي خط النهاية قبل الآخرين.
فوق التليفزيون على الحائط علقت (رقيا) لصلاح عبد الصبور:
في كل مساء
حين تدق الساعة نصف الليل
وتذوى الأصوات
أتداخل في جلدي، أتشرب أنفاسي
وأنادم ظلي فوق الحائط.
أتجول في تاريخي، أتنزه في تذكاراتي
أتحد بجسمي المتفتت في أجزاء اليوم الميت
تستيقظ أيامي المدفونة في جسمي المتفتت
أتشابك طفلا وصبيًا وحكيمًا محزونًا
يتآلف ضحكي وبكائي مثل قرار وجواب.
أجدل حبلا من زهوي وضياعي
لأعلقة في سقف الليل الأزرق
أتسلق حتى أتمدد في وجه قباب المدن الصخرية
أتعانق والدنيا في منتصف الليل.
.............................
بكيتُ بحرقة الأيام الضائعة والوحدة والصمت، ضمتني إلي صدرها برفق وحنو وضحكت:
ـ إيه يا بت .... أنت عبيطة!
دى قصيدة زيها زى كل القصائد اللي في الكتب وعلي الحيطان..... وزى الموت والبرد والصداع والهجر والنسيان والوحدة، وفي آخر الرحلة , هتزرعي قصارى من الصبار وتسقيها كل يوم، عشان تفضل خضرة ومتموتش.
ضحكنا وأكملنا الطعام، بعد الغداء وضعت شريط فيديو لها مع المذيعة المتألقة (ميرفت سلامة) في حوار شيق وجذاب.
كانت هي داخل الكادر تجلس على كرسي متحرك، تحكي عن تجربتها الإبداعية ومشوارها الفني.
وطوال الحلقة تتحرك يمينًا وشمالا، وكأنها لا تستقر على وضع، لقد لفت نظري جيدا هذا الكادر، مثلما لفت نظري وجود مجموعة من القطط , ومسماة على أسماء كتاب مشهورين (ماركيزـ كونديرا ـ إيزابيل الليندي .... وغيرهم)، عائلة كبيرة من القطط تسكن مع امرأة بمفردها، تحدثهم، وتطعمهم، وتحكى لهم كأنهم أبنائها
في الليل جلسنا في الشرفة المليئة بالصبارات، وأخذت تحكي لي عن فأرها الأثير والمؤنس لها، والذي شاركها ليلة عيد ميلادها.
وكتبت عنه في مجموعة (ارتحالات اللؤلؤ).
ها أنا أريد النوم! وهي تريد الحكي!
كانت حكاءة بارعة، ولها أسلوب شيق ولذيذ مثل كتاباتها، وكانت عيناها تشع بهجة وحياة، بهما لمعة تشبه لمعة عيون القطط، تضئ الليل بالسعادة والفرح.
امرأة تقبل على الحياة بحب وبشراهة إقبال الموت على الأطفال الرضع، الموت يلتهم الأجساد النابضة بالحياة فيخرسها، كان بيتها يشع بهجة وحب وألفة ومقدرة علي فتح ذراعيها للجميع.
وأخذت تضحك وهى تعد لي مكانًا مريحا للنوم، وتسمعني شريط أم كلثوم (أنت عمرى).
ـ أنا ها عمل جمعية للأرامل والمطلقات.
ثم ضحكت بعد ذلك:
ـ ولا أقولك , أعمل جمعية للكاتبات خارج الدعم.
ثم صمتت برهة وقالت:
ـ ها عمل جمعية البطة السودة!
وضحكنا .... ضحكنا حتى طلوع الفجر.
عودة
بطريقة ما سوف أصل للحقيقة.
اليوم، غدًا، ربما يكون بعد أعوام طويلة، وربما بعد أجيال.
نعم ربما! لكن حتمًا سأصل.
صنعتُ فنجانًا من القهوة السادة على غير عادتي، فأنا دائمًا أحبها مضبوطة، ولكن لضرورة مُلحة كسرت القاعدة، فأنا الآن أحاول أن أتذكر تفاصيل كثيرة عن كل شيء.
ونفسي تُحدثني: ضعي هذا يا عزيزتي نصب عينيك!
ـ حتما سأصل!
آه أتذكر يوم قال موجه اللغة العربية وهو يضحك: قد تصل العرجاء! وفاز فصلنا بالجائزة الأولي، وفزت أنا بلقب الرائد المثالي.
كانت ( الإرادة ) هي المحرك لدي، أو كما قال نيتشه:
(إرادة القوة = إرادة الحياة)
سخرية الموجه , بعثت بداخلي (الإرادة والقوة!)
فصل الضعفاء يتفوق، لقد وصلت العرجاء!
ضحكت في سري وأنا أكتب هذا الكلام!
أيام .... أيام البال الرائق.
ـ ولم لا تعود!
ـ المسافات أصبحت بعيدة ... بعيدة جدًا!
ـ ضعي هذه الأهداف نصب عينييك، وحتمًا ستصل، وتقل المسافات بمساحة كل خطوة تخطوها نحو هدفك.
ـ أه .... المثاليات. كرهت كل هذا.
كان هذا الحوار يدور ( بداخلي ) وأنا عائدة في نفس الأتوبيس الذي ذهبت به؛ لأني تعرفت على السائق بمجرد صعودي.
جلست جوار الشباك أستعيد حوارًا لم يحدث ( بيننا )، ولكنني صنعته مع ( نفسي )، أصبح هذا يحدث كثيرًا هذه الأيام.