مفكرة السيدة ص
----------------
بعد سنوات طويلة، ستجد
حفيدتى(دانة)هذه الأوراق، وهى تقلب مصادفة فى درج مكتب والدها عن مفكرة صغيرة
فارغة تستخدمها كمفكرة لها، عندما سألت والدها ليلة أمس : بابا، هل لديك مفكرة
فارغة أكتب فيها جدول الحصص وموعد الأمتحان؟
ضحك الأب وهو يجلس على
منضدة الطعام : تمام حبيبتى، حاضر يوجد واحدة، أعتقد انها داخل الدرج الأسفل من
المكتب، أو ربما تكون داخل الخزينة السفلية، عندما أنتهى من تناول الطعام، سوف
أحضرها لك.
ولأن دانة الصغيرة لا
تنتظر طويلا، قامت من مكانها، ودخلت حجرة المكتب وهى سعيدة، متفألة بوجود مفكرة
صغيرة فى درج مكتب والدها.
وعندما قامت بفتح الدرج
كما قال لها والدها، وجدت حقيقى مفكرة صغيرة فارغة، وعندما همت بأغلاق الدرج
ثانية، سمعت صوتا ضعيفا يناديها : يا صغيرتى العزيزة، أنتظرى، لا تغلقى الدرج ثانية.
أخذت دانة فى حظر تنظر
حولها من أين يأتى هذا الصوت الضعيف؟ وعندما فشلت تماما فى معرفة مصدر الصوت.
- وأنا أرقبها من
البرواز المذهب على الحائط-
همت بغلق الدرج ثانية.
سكت الصوت قليلا.
ولكن عندما جلست على
المكتب الكبير الضخم الخاص بوالدها، سمعت الصوت ثانية أكثر ضعفا، ولكنه أكثر وضوحا
: صغيرتى أرجوك، أفتحى الدرج ثانية.
- رغم أن صوتى كان همسا
ضعيفا، وكأنه ينبع من داخلها هى، كأن شيطانا رجيما يريدها أن تعبث بأوراق والدها
الخاصة، ولكن الصغيرة سمعته هذه المرة بشكل جيد، وكان واضحا، وأنا مازلت أرقبها
بدقة من البرواز الكبير الموضوع فوق الحائط -.
قامت دانة بفتح الدرج
ثانية، ولكن فى هذه المرة فتحته بحذر شديد وعلى عجل كى لا يراها أحد.
وعندما فتحت الدرج، سمعت
الصوت فى هذه المرة بوضوح تام(حيث أننى أخذت نفسا قويا وعميقا) : شكرا لك صغيرتى،
حاولى أن تأخذينى من هنا.
فتحت الدرج أكثر على
أتساعة.
– كنتُ أنا فى هذه اللحظة قد هبطت من على الحائط
فى عجل ودخلت داخل الدرج المفتوح قبل أن ترانى –
أخذت تنصت لمصدر الصوت، ثم
رأت مفكرة كبيرة وقديمة ترقد فى هدوء تام داخل درج المكتب، وعلى الغلاف الخارجى،
رأت كارتا صغيرا، أمسكت الكارت وأخذت تمعن النظر فيه، كان الكارت عبارة عن صورة
قديمة لى وأنا أتسلم أحدى الجوائز، وعلى ظهره كتبت هذه الكلمات بخط جميل(إلى
صغيرتى دانة، فى زمن قادم، أفضل كثيرا من زمننا هذا).
أخذت الصغيرة تمعن وتقرأ
الكلمات مرة وأثنين بشكل مدهش وهى فى غاية الأستغراب والأندهاش.
وضعت دانة الكارت ثانية
فوق المفكرة بعد أن قرأت اسمها أكثر من مرة.
وعندما همت بغلق الدرج
ثانية، سمعت نفس الصوت يعاود الظهور بشكل أكثر دقة : دانة، من فضلك يا صغيرتى، خذى
هذه المفكرة.
نظرت دانة حولها فى حالة
من الخوف والأرتباك، من صاحب هذا الصوت؟
من أين يخرج؟
ولماذا يحدثها هى
تحديدا؟
- كل هذا وأنا جالسة فى
مكانى فوق الحائط داخل البرواز فى شموخ وعظمة –
مدت دانة يدها المرتعشة،
وأمسكت المفكرة بقوة، ورفعتها عاليا خارج الدرج.
كانت المفكرة بغلاف بنى
قديم، باهت اللون كثيرا، كأن المفكرة رقدت هنا زمنا طويلا، ربما عشرات السنين.
فتحت دانة المفكرة على
الصفحة الأولى، وأخذت تقرأ.
القاهرة فى أخر ديسمبر
عام 1960 .
إلى صغيرتى دانة...لقد
ولدتُ فى هذا الشتاء القارص.
هنا دخل الأب الحجرة،
وهو يمسك فى يده البايب ويدخن.
دانة فى يدها المفكرة
تقرأ، والأب واقفا أمام الباب، بصوته المرتفع ناداها : دانة، ماذا تفعلين؟
أرتبكت دانة قليلا
وحاولت غلق المفكرة بسرعة، ولكن الأب نظر نحوها : ماذا فى يدك يا صغيرتى؟ هل وجدتى
المفكرة الصغيرة؟
ضحكت دانة فى خوف
وأرتباك : نعم، نعم وجدتها.
أقترب الأب قليلا، ووقف
أمامها : ما هذا الذى فى يدك؟
نظرت دانة نحوه فى خوف :
هذه مفكرة وجدتها داخل درج المكتب.
جلس الأب على الكرسى
أمام المكتب، وأخذ المفكرة من يد أبنته، وبدأ يقرأ الصفحة الثانية.
(أبنى هاشم، أحب أن
أعرفك أننا جميعا فى القاهرة بخير، ولا ينقصنا إلا وجودك بيننا).
رفع الأب المفكرة من على
المكتب وهو يضحك : ياه، يا صغيرتى، هذه المفكرة ربما تكون صديقتى الوحيدة، عندما
سافرت إلى فرنسا لتحضير رسالة الدكتوراة فى جامعة السربون.
كانت جدتك(رحمة الله
عليها)تكتب فيها كل ما يحدث حولها من قصص وحكايات، وأقوال مأثورة أحيانا.. لقد
كتبت كثيرا، ولكن الحظ يا صغيرتى.
أحيانا الحظ يلعب دورا
مهما فى حياة الإنسان.
ضحكت دانة وهى مطمئنة
قليلا أن والدها لن يغضب لأنها فتحت المفكرة الخاصة به.
وأنه الآن سعيدا وهو
يقرأ تلك الذكريات البعيدة.
ثم نظرت نحو أبيها، ورأت
يده وهى تمتد نحو عينيه كى يمسح دمعة حزينة ظهرت فجأة من أسفل زجاج النظارة، ثم
أغلق المفكرة، ووضعها على المكتب ثانية أمام صغيرته وهو يتنهد بحزن وآسى : كانت
أيام جميلة يا صغيرتى، ونحن نعيش حياة ملئها الحب والمودة، لقد ظلت أمى تكتب لى
ذكرياتها، وتحدثنى كأننى أجلس أمامها، ولم أفارقها.
وبعد سنوات طويلة، فى
مرة عندما قمت بزيارة خاطفة إلى القاهرة كى أزور جدتك، أهدتنى هذه المفكرة، ومعها
صورة جميلة لها وهى تتسلم الجائزة.
وقالت : هذه هدية منى
لأبنتك دانة.
نظرت دانة نحو والدها،
وجدته حزينا، فقالت له بحنو : الله يرحمها، أنا أسفة يا أبى، لأننى مددت يدى على
شئ خاص بكَ.
مد الأب يده، وأخذ يربت
على يدها، ثم قام واقفا، وهو يمسك المفكرة فى يده، وجلس خلف المكتب، وأخذ يقرأ لدانة
بصوت مرتفع ما كتبته الجدة.