البيت الأبيض
كان كل شىء هادىء ومرتب ونظيف، البياضات البيضاء مفروشة
بعناية بالغة فوق المقاعد على الأنترية الأسيوطى بالصالة الكبيرة الواسعة،
المفتوحة على المدخل الخارجى للبيت، والسلم الرخامى الأبيض، يقبع صامتا فى الركن الأيمن
أمام المدخل، كل شىء مرتب وساكن فى مكانه، ومبالغ فى نظافته، المكان مظلم، وهادىء،
كأن هجره سكانه، ولكن فى الدور العلوى حيث تكون حجرة البنات الواسعة بها أضاءة
شديدة، وكل بنت منهن تجلس على سريرها، ثلاث بنات قمرات.
الأولى(الكبرى) أبلة فيفى، تمسك فى يدها
زجاجة(أكلادور)وتدهن أظافرها البضة
الطويلة، والمعتنى بها بشكل جميل، لقد أعطاها الله الجمال فى كل شىء(الجسم
الممشوق، الوجة الأبيض المشرب بالحمرة، المدور مثل طبق الدقيق الفاخر، الأسنان
البيضاء اللامعة.. كل شىء، كل شىء فيها جميل حتى صوتها)عدا شىء واحد فقط، كان
يضايقها ويكدر صفوها، شعرها الأسود المهوش، والتى كان يتندر عليه أخواتها الصغار
بأنه يشبه(سلك المواعين)لولا هذا الشعر، لكانت فريال أجمل بنات البيت، أو (أبلة
فيفى) كما يناديها الجميع.
البنت الثانية(الوسطى)، كان فى يدها مفرشا كبيراً، تنقش
فوقه بعض الوردات، فهى كانت تحب عمل المنزل، ولا تحب الدلع أو الأعتناء بمظهرها
الخارجى كما كانت تفعل أختها الكبرى، وهى الوحيدة التى كانت تساعد أمها فى البيت،
وكانت عكس الأخت الكبيرة فى كل شىء تماما، لا تهتم بمظهرها الخارجى، ولا تعتنى
بجسدها ولا أظافرها، ولا تفكر مطلقا أن تمسك فى يوم ما زجاجة الأكلادور وتضع منها
على أظافرها، أو أحمر الشفاة، وكانت متوسطة الطول، وشعرها الأحمر النارى الجميل
الذى يقبع خلف ظهرها فى رونق وجمال ويتوهج مثل أشعة الشمس فى وقت الظهيرة، يجعلها
تشبه جنيات البحر فى الحكايات القديمة، مع أبتسامتها الطازجة، وبعض البقع الحمراء
التى تقبع أسفل العينين الواسعتين، وتشبه حبات العدس الأسود تضيف بهجة وجمالا
وتوهجاً، ولكنها كانت تترك كل ذلك، وفى أوقات فراغها والأنتهاء من أعمال المنزل
الكثيرة، كانت تجلس فوق سريرها الذى يقع أسف النافذة تماما، وتبدأ فى نقش المفرش
المطرز الكبير، وكانوا ينادونها فى البيت (فراولة)وفى المدرسة فريدة.
الثالثة(الصغرى) بثينة (بثبث أو بسبوسة)كانت تجلس على
السرير الصغير المواجهة للشباك، وتضع أمامها كتابا مفتوحا تقرأ فيه، وكانت تحب قصص
المغامرات، وتشترى بمصروفها كاملا مجلة (تان تان وميكى)، وغيرهما من المجلات
المفضلة لديها، وكانت تعشق شخصية(شارلوك هولمز) وتعرف مواعيد المسلسلات، والأفلام،
وتنتظر برنامج(نادى السينما كل يوم سبت والذى تقدمه، درية شرف الدين، وبرنامج
أوسكار كل يوم خميس والذى تقدمه سناء منصور)لكى تشاهد الأفلام الجميلة والمختارة
بدقة، قبل عرض الفيلم، تأتى بشلة كبيرة وتجلس قريبة من شاشة التليفزيون(تليمصر، 20
بوصة،الأبيض والأسود)الموضوع على المنضدة الكبيرة بجوار الحائط فى حجرة الأم.
أبنة العمة الصغرى(تفيدة) أو (توتو) كما كانوا يسمونها
وهى من عمر الأخت الصغرى بثينة، ولم تذهب إلى المدرسة عكس بنات خلها، كانت تجلس
على سريرها تلعب بعروستها القماش الجميلة، والتى صنعتها لها زوجة خالها(أبلة همت)
من بواقى القماش الذى تقوم بقصة وخياطته لهن فى أيام العطلات الرسمية، كانت تأتى
لهم من البلد القريب على تخوم القاهرة، وتجلس معهم يومى(الخميس والجمعة) ثم تسافر
إلى بلدها فى(مشتول السوق) التابعة لمحافظة الشرقية، يوم السبت صباحا.
البيت هادىء وصامت، والأم فى حجرتها تشاهد برنامج(نورعلى
نور) الذى يعرض الآن هى وجارتها أم سعيد.
الكل يجلس فى ترقب وصمت، ربما يأتى الأب هذه الليلة أو
غداً، لذا كان البيت مرتبا ونظيفا، ورائحة الطعام اللذيذ والذى يحبه الأب
تحديدا(محشى ورق العنب، والبط،وشربة لسان العصفور، والبذنجان المخلل)الرائحة كانت
تنبعث من المطبخ، ولكن ميعاد الغداء لم يأت بعد، فهم جميعا فى أنتظار حضور الأخ
الكبير من الجامعة، أو حضور الأب حيث يهبط أمام الباب من داخل عربة(جيب) صغيرة
ويحمل فى يده حقيبة كبيرة سوداء.
الساعة الآن تقترب من الواحدة ظهراً.
وأبنة عمهم الكبير، والتى حضرت من البلد منذ يومين،
للأقامة معهما فى البيت لمدة أسبوعٍ كاملٍ، كهدية مقدمة لها لنجاحها فى الشهادة
الأعدادية بتفوق.
لقد أشترطت على أبيها، إذا نجحت بمجموع مرتفع، سوف تذهب
إلى بيت العم المسافر، والذى يسكن هناك بعيداً عن بيتهم، فى منطقة تسمى(ميدان
الحجاز)بمصر الجديدة، حيث يقطن فى فيلا صغيرة وجميلة، ولونها أبيض.
ولتغيب العم لأيام طويلة حيث يعمل فى منطقة بعيدة جدا
اسمها(الواحات) فى شركة بترول، تعيش الأسرة فى هدوء تام، وترقب دائم، لوصول الأب
بعد غياب أسبوعين على أقل تقدير.
الحياة الهادئة.
أحيانا يكون الجميل فى هذه الحياة، أن تسير فى الشوارع
النظيفة مساءً، وأنت ترتدى الملابس الأنيقة، تسير بلا هدف، فقط لمجرد أن تسير ،
تشاهد المعروضات الجميلة داخل فتارين العرض فى منطقة(روكسى)أو منطقة(هارون) كنا
نسير مساء بعد الساعة الخامسة، أنا وبنات عمى الجميلات وأبنة عمهم الصغرى، نأكل
الذرة المشوى، والبطاطا الساخنة، ونختم بعد ذلك بأيس كريم من محل(جروبى) الشهير فى
روكسى، نجلس فى الحديقة على الكراسى الخيزران الأنيقة، والجرسون بزيه المميز كما
كنا نشاهده فى أفلام محمد عبد الوهاب وراقية إبراهية، فى فيلم رصاصة فى القلب،
وأكدت لنا أبلة فيفى أن محل جروبى الذى فى الفيلم هو فرع طلعت حرب وليس فرع روكسى
كما كنا نعتقد، كنا نسير لمدة ساعاتين كل يوم بعد تناول وجبة الغداء، الزمن المسموع به للخروج ، الخامسة مساءً صيفا،
الأربع بنات وأبنة العم الصغيرة وأنا، كنا نسير بلا هدف، أو مكان محدد نذهب إليه،
أكون فى هذه اللحظة فى كامل نشوتى وسعادتى البالغة، نشوة روحية وحسية تسرى فى
قلبى، ويمتلىء غبطة لرؤية أشياء جلية لم أأخذ باللى منها فى يوم من الأيام، رغم
مرورى فى بعض المرات القليلة عليها بصحبة أمى وأبى وأخوتى الصغار، عند زيارة أحد
الأقارب البعيدين أو الذهاب إلى محل(عمر أفندى) كى نصرف الأستمارة التى أخذها أبى
من الشغل.
لقد ألفت عيناى الأشياء لدرجة الأعتياد، فأصبحت لا ألتفت
إليها، ولا تجذب نظرى، لدرجة أصبحت لا بهجة فيها، ولكن اليوم، كان الوضع مختلف
تماما، فى حضرة البنات الجميلات المختلفات عنى تماما(أنا القروية) عن بنات الحى
الذى أعيش فيه، إنها الحياة التى أنشدها من داخلى ولكن معظم الرغبات لا تتحقق
دائما، وكنت فى أحيان كثيرة أسأل نفسى سؤالا كبيرا، لماذا لا يكون هذا أبى، وهذه
أمى، وهؤلاء أخوتى وهذا بيتنا؟
عندى الآن حالة
روحية عالية، ونفس جلية طيبة، ونشوة عارمة يمتلىء بها قلبى للمغفرة(لسبب بسيط هو
أحساسى بالحرية الكاملة) فى هذا اليوم المصرى البهيج.
هنا لا أحد يتربص بى.
لا أحد يهيننى.
لا أحد يأمر وينهى. وأنا علىَ أن أجب، بكلمة واحدة لا
يمكن تغيرها ابداً(حاضر).
الطاعة هنا فى هذا البيت واجبة، وليست مفروضة عليهم.
الحب هنا والحنان والبهجة الصامتة تشع من حولى.
كانت شمس هادئة تمرق من أمامنا فى تمام السادسة مساء،
وعلينا أن ننهى فسحتنا المسائية كى نعود إلى البيت فى الميعاد الذى حددته الأم
لنا(السابعة مساء يا بنات)وأنا كنت أريد أن أرى كل شىء، وأعرف كل شىء، وأظل طوال
الطريق أقارن بين الحياة هنا، والحياة هناك فى بيتنا البعيد جدا على حدود القاهرة،
بيت ريفى وواسع وكبير، ولكن مختلف تماما، كانت المقارنة قاسية من حيث المستوى،
والوعى، وأسلوب الحياة، ونمط التفكير المغاير.
هنا الحرية.
هناك القمع.
هنا الصمت.
هناك الحوارات مستمرة.
هنا أنا ضيفة ولأجل خاطرى تنفذ الرغبات الملحة لى .
هناك جميع الرغبات مقموعة، والصمت هو السيد.
الساعة الآن تقترب من السابعة إلا ربع تقريباً، وعلينا
العودة سيرا على الأقدام من ميدان روكسى إلى ميدان الحجاز.
الشوارع خالية بعض الشىء، وقليل من المارة يتحركون هنا
وهناك، بثبات مفتعل، يسيرون ببعض خطوات منتظمة، متجهين نحو محطة مترو مصر الجديدة،
المحطة مازالت فارغة بعض الشىء.
تقدمت بخطوات واسعة مرحة، وسرت أحلق مثل طائر الزرزور
الصغير، واتلفت من آن لآخر نحو المحلات المفتوحة، والبيوت التى تتنفس دفىء وثقة،
وبعض الأصوات المتناثرة هنا وهناك، وسألت نفسى بشكل واضح وصريح، ما سبب هذه النشوة
العارمة؟
لا توجد إجابات محددة، ربما يكون المساء الصيفى الجميل،
هو الذى فعل بى هذا الفعل، وربما يكون هناك خبرا ما حلوا قد سمعته، وربما يكون لا
شىء محدد، ولكنها هى حالة مؤقتة وربما تمضى بعد دقائق.
كان هذا منذ سنوات طويلة مضت .
مذ كنت طفلة صغيرة بضفيرتين كبيرتين، ترمى بهما خلف
ظهرها.
والآن نحن فى القرن 21 ، وماحدث كان فى القرن 20 .
ترى ماذا حدث لها بدقة شديدة- تلك البنت- التى كنتها فى
يوم ما؟
إنها الذات المنقسمة.
أخذت تفتش داخلها عن سبب حقيقى يكون وراء ما تشعر به
الآن(لا شىء)واضح وحقيقى، ولكنها فجأة شعرت برغبة عارمة فى تناول كوب من القهوة،
إنها الآن تشم رائحتها تملأ أنفها الواسع الكبير، بحثت بعينيها طويلا عن مقهى قريب
يصلح أن تجلس عليه امرأة عجوز بمفردها فى
السابعة صباحا وترغب بشدة فى فنجان من القهوة.
رنت بعينيها بعيداً إلى حارة ضيقة، رأت بعض الكراسى
الخيزران القديمة تتراص أمام باب صغير، أخذت تقارن بين تلك الكراسى، وبين الكراسى
التى كانت توضع فى حديقة جروبى منذ خمسين عاماً على الأقل. رأت رجلا عجوزا يمسك فى يده جردل صفيح ويأخذ بيديه الماء من
داخل الجردل ويرش الأرض المتربة.
أقتربت منه فى هدوء وثقة، وقالت له بصوت واضح ومسموع :
ممكن أقعد هنا.
رفع الرجل وجهه نحوها، وقال بغبطة مفاجأة : أتفضلى يا
ستنا، أتفضلى هانم.
وأخذ بيدها المرتعشة المعروقة، وأنزلها من فوق الرصيف، ثم
مسح كرسى خيزران قديم بطرف جلبابه. فجلست عليه بحبور وصفو. ووضع أمامها منضدة من
الصفيح اللآمع، ثم قال لها وهو يحنى رأسه بخشوع شديد ووقار : تحت أمرك يا فندم.
قالت فى هدوء الواثق المطمئن : فنجان قهوة مضبوط من
فضلك.
رحل الرجل وتركها. وهى جالسة فى حبور المنتشى، تشعر بمتعة
طفلة خرجت مع أبويها فى مشوار بديع ومحبب لديها، كأنها ذاهبة مثلا إلى حديقة
الحيوان التى كانت تفضلها فى طفولتها، أو كأنها ذاهبة إلى بيت عمها وهى فى عمر
الرابعة عشر تقريبا، تقضى مهم أسبوعا كاملا، ولم تعرف إلى الآن ماذا حدث بالضبط
جعل جدتها لأبيها تمنعها من الذهاب إلى هناك مرة أخرى، ومرت السنون، وفى مرة سألت
أمها بعد وفاة الجدة. قالت لها : إن ابن عمها فى اليوم الذى حضر فيه عندهم، بعد
أنتهاء الأسبوع المتفق عليه، قال لجدتك : يا جدة، (وديعة) صعدت إلى شجرة الجوفة،
وماما لم تستطع منعها، خوفا من غضب عمى .
وفى هذه اللحظة نزلت دمعة قوية من عينيها، لأنها كانت
تحب بنات عمها حباً جماً، وقد تزوجن جميعا ولم تحضر زفاف أى واحدة منهن، ورغم مرور
كل هذه السنوات مازالت تحن إليهن. أخذت تمسح بظهر يديها دموع عينيها المنهمرة فى
تدفق، لقد سمعت اليوم من عمتها أن الأبنة الكبرى فريال(أبلة فيفى)كما كانت تحب أن
تناديها، قد توفيت هى وزوجها وأبنة عمتها (تفيدة)
فى حادث أليم على الطريق الصحراوى، حيث كانت قادمة لزيارة أختها الوسطى فريدة. تمنت
من داخل قلبها أن يظل المكان هادئا على هذا الشكل حيث السكون، حيث لا أحد، بعض
المارة يمرون مسرعين دون الألتفات نحوها.
إنها السابعة
صباحا الآن.
جاء الرجل، ووضع أمامها صينية بها كوب صغير من القهوة،
وكوب كبير به ماء بارد، وكأن الرجل قرأ أفكارها فهى تحب القهوة فى كوب صغير، وتنمت
داخلها أن تكون القهوة مضبوطة كما تحبهأ، رفعت كوب القهوة نحو أنفها الكبير، وأخذت
تشم بعناية فائقة، ودقة باللغة، فهى تحب رائحة القهوة، أكثر مما تستمتع بشربها،
قالت داخلها بفرحة شديدة(واو،القهوة لذيذة جدا)مع أول رشفة من الكوب قالت (إنها
مصنوعة بعناية وعلى نار هادئة وبن جيد، يالا الروعة) رشفت رشفة أخرى بأستمتاع أكبر
وهى تتلذذ بمذاق القهوة الممتع والمصنوعة بجودة عالية، ثم أستغربت كثيرا، ولكنها
لم تعلق على ذلك، كيف فى مكان بسيط وفقير مثل هذا المكان، وعلى ناصية حارة ضيقة من
شارع 26 يوليو ببولاق ابو العلا حيث مقر عملها، يكون كوب القهوة بهذة الجودة، وهذا
الطعم اللذيذ، والذى أسعدها أكثر وهى تحبه بأستمتاع شديد أن القهوة كانت فى كوب
صغير، وليست فى فنجان، وهذا ما جعلها تشعر بسعادة بالغة، وكأن الرجل قد قرأ ما
بداخلها (فنجان قهوة بن جيد فى كوب) يالا السعادة الغامرة.
بعد رشفتين متتاليتين، أخذت تتأمل المكان الفقير القديم
المهمل، المقرنصات القديمة، والجص الأبيض الباهت، والمبانى المرتفة، كانت تعشق
العمارة القديمة بشكل كبير، أخذت تتأمل فى صمت. .
.مكان به من الجمال والزخارف ما يفوق المناطق الحديثة
بأبراجها العالية الشاهقة دون(فن أو جمال) إن ما تبحث عنه عيناها هو(الفن الممزوج
بالتاريخ) بعد عدة قراءات للمكان بعينيها، خمنت أن هذا الجمال ينتمى إلى بداية
القرن 19 تقريبا حيث العمارة كانت على هذا الطراز من الجمال والروعة.
بدأ يفد إلى المقهى بعض الرجال الذى يعملون فى محطة مترو
الأنفاق الجديدة، ويطلبون شيشة وشايا، شربت أخر رشفة من الكوب، وقامت واقفة، لأنها
شعرت أنه يتم أقتحام خصوصيتها التى صنعتها لنفسها، دفعت الحساب للرجل، وخرجت متجهة
نحو الشارع الرئيسى، وهى تدندن ببعض النغمات التى هبطت على رأسها فجأة، نغمات
قديمة ومحببة إلى قلبها(يا حلو صبح، يا حلو طل..)وسارت مثل طفلة مبتهجة، تدفع
الحصو الصغير أمامها، وتجرى وراءه فى رشاقة امرأة عمرها تجاوز الخامسة والستين تقريباً، إنها
الآن مبتهجة وسعيدة.
فى اليوم التالى.
أنتقلت السيدة العجوز، من موقع الخيال المثالى الذى
عاشته بالأمس بمفردها وبكل تفاصيل حياتها.
عادت إلى أرض الواقع حيث حجرتها البعيدة هناك فى أخر
الطرقة، والتى بها سرير صغير خاص بها، وبجواره مكتب مكتظ بالكتب التى فوقه، فتحت
عينيها قليلا، رأت شعاعا من الشمس ضعيفا يخترق زجاج البلكونة، والتى نسيت أن تغلق
الشيش جيداً، وأكتفت بغلق الزجاج فقط، كان ضوءًا باهتاً مرتعشاً، أخذت ترنو إليه
بعينيها الضيقتين، وهى مازالت مستلقية على فراشها الدافىء الثقيل، وابتسمت له
وقالت(صباح الخير يا صديقى) أرتعش الضوء رعشات متتاليات كأنه يحيها، أبتسمت أبتسامة
واسعة، وفتحت الزجاج، وخرجت بكامل جسدها للضوء المنتشر فوق أحبال الغسيل الخالية،
مدت يديها ورأسها للخارج حتى تستحوذ على كل الدفء لنفسها، قالت داخل نفسها أن
الساعة تقترب الآن من الثامنة صباحا، رنت نحو القطة الصغيرة والتى جاءت مسرعة ونطت
فوق السور برشاقة، وأخذت تتمسح بها، نظرت نحوها، وضحكت ثم قالت لها(أنتِ جائعة يا
جميلة، هيا كى أضع لك الطعام)خرجت من الحجرة، وتوجهت نحو المطبخ، وضعت للقطة
طعامها، ووضعت براد الشاى على البوتجاز، ومدت يدها نحو الثلاجة، وأخرجت منها قطعة
كيك صغيرة، كانت متبقية من عشاء الأمس، صبت لنفسها كوباً من الشاى، وأخذت قطعة الكيك،
وتوجهت نحو البلكونة مرة أخرى، كى تستمتع بدفء الشمس، ثم قالت داخل نفسها(يا الله،
ما أجمل الحياة، بل ما أجمنا) وأخذت ترشف من الكوب بهدوء، وهى مستمتعة بالدفء والوحدة،
والصباح المشرق الهادىء فى يوم شتوى جميل، وتستعيد الذكريات الماضية، وبنات عمها
الجميلات فى بيتهن الأبيض النظيف.
الرشفة المحببة لديها.
كانت فى هذه اللحظة، ترنو السيدة الوحيدة العجوز إلى آخر
رشفة فى كوب الشاى(الرشفة المحببة لديها) تظل تنظر لها نحو ثانية أوأثنين أو أكثر،
قبل أن تمد فمها الكبير داخل الكوب وترشف منه بسرعة، أخر قطرة شاى فى الكوب وهى
تصفيها جيدا من التفل قبل أبتلاعها، فى هذه اللحظة تشعر بنشوة المص، لحظة تعطيها أحساسا
متجاوزا للحياة، أحساسا بأن النهايات دائما جميلة وممتعة، لأننا عشنا اللحظة منذ
بدايتها، ثم أخذت تستطعم بقايا الشاى فى فمها وهى تمصمص من الكوب وتصنع صوتا ضعيفا
يشبه صوصوة العصفور الصغير، لا يسمعه أحدا سواها، كأنها جنية طيبة، خرجت من كتاب
الحكايات، ثم بعد ذلك وضعت الكوب على السور، ومدت بصرها بعيدا وهى تتحدث داخلها أو
ربما فى هذه اللحظة شعرت بقيمة الحياة الخاصة بها، وأنها حياة جميلة وممتعة بقدر
الأرهاق الذى يبدو عليها أحايانا كثيرة، ثم قالت بصوت مسموع كأنها تحدث أحدا
بجوارها(آه، إن الحياة يتم إعادة تشكيلها وفقا لما نحب ونرضاه) وفى الحقيقة أن هذا
اليقين المثالى بالنسبة لها ربما يزول بعد دقيقة، حيث أنها شخصية متقلبة المزاج،
وسريعة الغضب، ولكن كان بداخلها الآن يقين قاطع بأنها توصلت إلى حقيقة ما ويقينيه
ومدهشة، إنها لحظات الحرية التى تفعل فيها ما تشاء وما تحب، ولكن بمفردها، فهى
نادراً ما تنسجم مع الآخرين، منذ يوم أن وقفت أمام بيت الكلب شمشون(الكلب
البوليسى) الذى أشتراه عمها من البوليس ليحرس البيت فى غيابه، وكانت تسمع عنه
حكايات ونوادر من والدها، وزوجته الكلبة فلة والكلاب الصغيرة ترضع منها فى متعة
وأستمتاع.
---------------------------------------------------------------------------------------------------