الاثنين، 5 أغسطس 2019

فصل من رواية (المكان الثانى)

أمومة مفرطة الدهشة


أرتعشت.
أرتعش جسدها الصغير البض. عندما أقترب منها، أرتعش أرتعاشة فجائية، ثم أرتعاشت متتالية وشديدة، خاصة عندما مد يده كبيرة الخشنة، وأخذ يدها الصغيرة، ودفسها بين فخذية، عنوة، أرتعشت، أرتعاشات فوجائية، وهبت واقفة، نافرة منه، ولكنه بحنان أكثر وخبث يجيده، وحركات عفوية، ومقصودة أحياناً، فهو يدرك تماماً ماذا يريد؟ وماذا يفعل؟ بحكم الخبرة، والسن، والتفاوت الزمنى بينهما، والأحتياجات المختلفة.أخذ يدها مرة أخرى وقبلها، قبلة طويلة وبلل شفتيه، ولثمها بتحنان واضح وزائد عن الحد، وأخذ يربط عليها فوق ظهرها بيدين كبيرتين حانيتين. حتى سكنت قليلاً، وأطمأنت، وجلست إلى جواره. كان العصفوران الصغيران النافران تحت ملابسها، بدأَ فى الأستعداد للطيران والتحليق فى سقف الحجرة المرتفع عالياً، عالياً جداً أكثر من ستة أمتار تقريباً.
عندما وضع يدها الصغيرة المرتعشة مرة أخرى وبأكثر هدوءً وثقة فى قلة الفرفرة منها، بين فخذية.
فى هذه المرة، أرتعشت أرتعاشة صغيرة، فرفرة ضعيفة ففقط، وصمتت صمتاً طويلاً، ظل يلازمها إلى أن رأت المكان الجميل بزجاجة الأزرق الغامق، وهو يقف شامخاً أمامها بعد أن تجاوزت هذه المرحلة الأولى من عمرها بسنوات كثيرة، وظل هذا الحلم(المكانى) يلازمها طويلاً.

سقط المطر فجأة.
فجأة سقط المطر فوق رأسها، سيلاً مدراراً، لا ينقطع، وهى لم تكن تحمل مظلة، ولا بلطوا واقياً للمطر، ولم ترتد الملابس الثقيلة بعد.
إنه الشتاء.
إنه الشتاء الذى جاء على غفلة منها، وقرصها قرصة قوية فى جسدها، فأرتعشت، أرتعشت رعشات متتالية قوية، ووضعت يديها الصغيرتين بين فخذيها بحثاً عن الدفء. مثلما فعل هو بعد ذلك كان يبحث عن الدفء الجسدى الذى لا يلفظه، ولا يذكره بضعفه، ولا يتهكم ولا يفهم ولا يقدر خطورة ماذا يريد بالضبط؟ يكون جسد فقير، ضعيف محتاج.
ومفاجأة الرعشة الأولى كانت قوية.
قوية بقوة المرض والموت والضعف، وقرصة البرد والنوم على الرصيف ليلاً.
عندما عبرت الطريق تجاه الرصيف الآخر.
هى بضعة مترات آمنة، وهى تعبرها كثيراً.
كانت العربات فى هذه اللحظة، تسرع فى جنون، وتلتهم الأرض ألتهاماً بعجلاتها الضخمة القاسية، فسقطت بين عجلاتها، مثل عصفور صغير سقط فى فخ صياد ماهر، فلم يستطيع الهروب، أو العودة، أو الأستكانة، عجلات سيارة ضخمة هرستها، هرساً شديداص، كأن هناك ثأر بين بينهما، بين جسدها الضعيف، وبين تلك العجلات الشرسة.
هى فقط كان تريد عبور الشارع إلى الجانب الآخر.
فقط.
ولكنها لم تاخذ حذرها بشكل جيد، كانت تتبع فكرة أنها تمر من هنا كل يوم، وعادى، العربات سوف تهدأ قليلاً.
عادى.
إنها لن تستمتع برؤية المكان الثانى جيداً، والذى وعدها به، بعدما أصبحا عجوزاً مقهوراً ضعيفاً، يطيع فى صمت ماتريده.

الأيام، تفر، تفر بسرعة، بسرعة تفر، تفر – تفر – تفر...
وهو واقفاً هناك بعيداً على الرصيف الاخر ينظر إليها نظرات طويلة، بعينيه الكبيرتين الدامعتين.
كانت عينيه تشبه كثيراً طبق فنجان قهوة واسعاً وقذراً، تغير لونه مع مرور الزمن، وتحولتا من اللون الأسود، إلى اللون البنى الفاتح.
وورق الجرائد الأصفر موضوعاً فوق جسدها الراقد هناك على الرصيف الآخر فى المواجهة.
لم يكن أحد يعرف أنه معها، أنه يعرفها، أنه كان يعبر الطريق وراءها، أنه وقف متسمراً مكانه، لأنه كان عجوزاً جداً، وهزيلاً جداً، وقدماه ثقيلتان جداً، ولا يستطيع العبور سريعاً مثلما فعلت، كى لا يراها وهى نائمة ممدة أسفل ورق الجرائد الصفر الذى اصبح يغطى جسدها بالكامل، المهروس، المهروس بوحشية غير متعمدة، أو يلحقها فيجذبها من جلبابها من الخلف.
الهرس.
أصبحت القاهرة/ القاهرة بصعارها وحميتها، تهرس من لم يهرسها، لذا سائقى العربات يحاولون هرسها بوحشية أسف عجلاتهم القديمة والجديدة والحديثة والأخر موديل، والمستورد والمحلى، والبرفنات المركزة، والمركات، والملابس الأنيقة والرثة لا تستطيع أن تمحى قبح المدينة الغول المتوحشة.
جسد المرأة المجهولة إلى الآن.
هرس.
هرس بعناية فائقة، مثلما كانت تهرس له البطاطس المسلوقة وتضعها فى الطبق الكبير أمامه كل صباح وهى تضحك ضحكة مهروسة بين أسنانها(بألف هنا وشفا) ضحكة طفلة عرفت كيف تصنع طعاماً فقيراً بشكل جيد حتى لو كانت بعض القطع من البطاطس المهروسة مازالت عصية على الهرس.
طعم طيب، يذوب فى فمه، وأسفل دراديره.
فرت دمعة وحيدة.
وحيدة.
من عينيه الكليلتين، وهو يسحب خطواته ببطء تجاه البيت الذى أشتراه أخيراً لها، كى تستريح من عناء الدوار العليا، لا أحد كان يعرف هذا المكان الآن، رغم أنه يبعد عن المكان الذى هما فيه الآن بخطوات.
هى خطوات ولكنها مجهولة.

حتى الآن هى لم تراه جيداً كما يجب، هى كانت ذاهبة إلى هناك، ولكنها لم تتمكن من رؤيته، لقد جاءت المتعة متأخرة كثيراً، بعد عناء طويل.
هو فقط وقف أمام المبنى الأزرق الضخم، واشار لها بأصبعه تجاه البيت(إنه هناك) إشارة عابرة فرحة، لم تمهلها فكرة العبور والرؤية الجيدة.
عندما أشار لها بعصاه نحو الرصيف الآخر، وقال لها بضحكة بسيطة(المكان الثانى) سوف يكون ها هنا، ورفع عصاه ليبهرها بالرؤية.
الرؤية العفوية الت ومضت للحظة واختفت إلى الأبد.
هل كان يدرك أنه سوف يكون هذا مصيرها؟
هل أحضرها إلى هنا حيث تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت الرصيف، مثلما وجدها ذات يوم بعيد ترقد أسفل الرصيف، وترتعش أرتعاشات خفيفة من البرد والمطر، وتدفس يديها بين فخذيها وهى نائمة تنتفض.
ينتفض جسدها.
هى أنتفاضة صغيرة، ورقدت بعدها ثابتة قوية، فى هدوء وسلام ووداعة مفرطة.
هو فقط رفع عصاه.
وهى أسرعت.
أسرعت بقوة.
كى تسبقه إلى العبور، وتخرج لها لسانها مثلما كانت تفعل منذ زمن طويل، وتقول له بلثغة طفلة(يارجل ياعجوز) فيضحك، ويضمها إلى صدره فى تحنان، تحنان زائد ومفرط فى المحبة والدهشة.
وتخرج لسانها الأحمر القانى، وتظل تضحك عليه وتصفق بيديها، لدقائق معدودات وهو يلهث خلفها، ولا يلحقها.
حتى فى هذه المرة الخيرة لها معه، لم يلحقها!
ولم تخرج له لسانها.
لأنها كانت قد أختفت تماماً من أمام عينيه، وحجبتها العربات المسرعة، فرجع إلى الخلف قليلا، بضع خطوات، فصلت بين حياتين.
عند سقوط المطر.
عند سقوط المطر، هى أسرعت مثل طفلة تجرى وتلهو وشعرت بنهديها هذان الهصفوران الكبيران هذه المرة والنافران كانا يفردان جناحيهما ويرفرفان أمامها عالياً فوق رؤوس الناس، العابرين، فابتسمت أبتسامة عريضة، وارادت أن تلحق بهما كى تأخذهما بين أحضانها، وتعيدهما إلى خزانتهما الداخلية، السرية، ولكنهما كانا قد فرا سريعاً من امامها وقفزا فوق الرصيف، وجسدها لم يلحق القفزة فهرس.
هرس.
وسمعت صوت(صو صو صو) فنظرت عليا نحو السماء الملبدة بالغيوم، والمطر الذى يسقط فوق رأسها، فنسيت تماماً أنها وسط الطريق، وأن العربات تسرع، وأن هناكَ جنوناً، جنوناً  صاخباً لا ينتهى، داخل حلبة السباق القاسية فى الشارع العريض القاسى أيضاً،  المبتل.
 السائق.
لم يراها السائق.
كما ظل يحلف بأغلظ اليمان بعد ذلك(والله هى اللى طلعت لى زى القضى المستعجل) لم اراها، لم ارها بأى شكل من الأشكال، إنها كانت مندفعة بقوة، وتنظر عالياً لا أعرف تحدياً لمن ولا إلى أين، فقط كانت تنظر وغير منتبهة بالمرة.
هلى لم يراها فعلا بسبب أنشغاله بالأحديث الجانبية مع الزبونة التى كانت تجلس غلى جواره، وتلعب فى الموبايل؟
وكان السائق الآخر الذى يدوس على الكلاكس بكل قوة وغضب، ويجمع الأجرة من الزبائن وينظر خلفه ولا ينظر أمامه، من فيهم الجانى الحقيقى.
هى أم هو أم سائق الميكروباص الذى هرسها بعجلاته الخلفية أشرس هرسه فى التاريخ، بططها سواها بالأرض أصبح لحمها البض جزءً من اسفلت الشارع.
لم يراها فعلا بسبب أنشغاله بالحاديث مع الزبائن بصوت مرتفع، والصراخ فيهم(الأجرة) يابنى أدمين.

كان هناك طفلا.
كان هناك طفلاً جالسً فوق حجر أمه على الكرسى المامى بجوار السائق، ورأى كل شىء.
رأى كل شىء بالفعل.
رأى المرأة، وهى تنظر عاليا تجاه السماء، والعصافير تطير مرتفعة فوق رأسها، ورجلا عجوزا يسير وراءها يبتعد عنها خطوة واحدة.
هى خطوة كانت فارقه.
ولكنه لا يستطيع أن ينطق بما رأى لآنه صغير لم يؤمر بعد بالنطق، فهو ليس طفل(زليخة) يشهد عليها عندما قضت قميص(يوسف) وشهد عليها.
ولكن ستظل هذه الذكرى محفورة فى رأسه، ولن يتذكرها كاملة إلا بعد سنوات طويلة، عندما تتجمع الظلال فى رأسه، وتنقشع الضبابية والغشاوة من على عينيه ويرى صورة ممثالة لها تماما بعد ذلك، سيتذكر الحادث كاملا، والذى ظل يؤرقه لسنوات طويلة ويأتى له فى الحلم على هيئة شفرات غير واضحه، سيارة، أمرأة، ورق جرائد، صراخ، هرس، عصافير ترفرف عاليا، صور متفرقه، وغير مترابطة، إلا بعد سنوات طويلة يعاد المشهد.
ستظل هذه الذكرى محفورة فى رأسه ولن يتذكرها إلا بعد سنوات طويلة عندما يصبح رجلاً عجوزاً، ويقف على الرصيف، ويحدث نفس الحدث، امرأة ما تقف إلى جواره، أو تسبقه بخطوة، تعبر الطريق، وهو يقول لها بفرح شديد، ويشير بعكازه، أن المكان الثانى(ها هنا).

ها هنا.
كان الرجل العجوز جسده يرتعش، يرتعش بالكامل من الخوف والجوع والبرد.
من اليوم القادم.
منْ الذى سوف يصنع له طبق البطاطس المهروسة بعناية، ويضعه له فى طبق كبير على المنضدة، حتى ياكله بتلذذ شديد، وصفاء نفس.
والطفل.
الطفل الصغير الذى كان قابضاً على يد امه عندما رأى المشهد كاملاً، ولم ينطق، رفض تناول الطعام لمدة يومين، لمدة يومين كاملين، رفض الطفل تناول الطعام، أو تناول ثدى أمه، أو أى طعام خارجى.
 مثلما حدث للرجل العجوز إنه لم ياكل منذ يومين، لم يجد من يقدم له البطاطس المهروسة.

فزعت الأم.
فزعت فزعاً شديداً، ورأته يذبل يوماً بعد يوم، ويذهب ضياء وجهه، وروحه كأنها ذهبت بعيداً عنه، وفترت شقاوته، ولم يعد يمسك يد أمه الكبيرة، بيده الصغيرة البضة الطرية، ويدفسها بشقاوة بين فخذيه بحبور وهو يضحك(غ غ غ) فتقرصه أمه بين فخذيه قرصة محببة لديه، فيضحك ويكركر( غ غ غ غ غ) هو الان لا يستطيع تفسير ما حدث أمامه، ولا لماذا هو رافضاً تناول الطعام من ثدى أمه، ولا الأم تعرف ماذا تفعل تجاهه.
طاسة الخضة.
نصحتها أمها بأحضار (طاسة الخضة) مقابل رهن حلقها الذهب، ووضع سبع بلحات فى الماء، ووضع الطاسة فوق السطح، لسماع ثلاث اذانات من المغرب حتى الفجر، ثم يشرب الماء البارد الموجود فى الطاسة.
لمدة ثلاثة ايام صنعت الأم ما قالته لها أمها.
ولكن لا فائدة.
مر ثلاثة أيام كاملة والطفل يذبل.
وضعته أمامها عل السرير، وغطته بجسدها العارى، غطته بجسدها كاملاً، كأنه تريد أن تأخذ منه المرض، تأخذ ما حل به من ألم، وأخذت تبكى، والدموع تنهمر من عينيها الحزينتين ، واللبن المخزون منذ ثلاثة أيام ينزل غلسا جسده ووجهه، شعر بدفء جسدها الحزين، الدافىء الحنون فوقه، يغمره فى سعادة وتلذذ والم وحزن وخوف وقلة حيلة.
فصحا، وألتهم ثديها بقوة وعنف، فأنفجر اللبن نازلاً فوقه وملأ جسده وفمه وعينيه.
نزل مدراراً مثل سماء حنونة تمطر للفقراء التعساء فى أرض جافة، حتى غطى جسده الصغير كاملاً غسله، فأصبح يشبه دائرة لبنية بيضاء كبيرة، ترقد فوق سرير كبير دافىء من جسد الأم وحليبها.
وعندما أنتهى (الطقس) طقس النجاة، مص اللبن النازل كاملاً، والذى كان مخزنا فى صدر الم من ثلاثة أيام كاملة.
وقام واقفاً، فارداً طوله.
وأصبح رجلآ، رجلآ عجوزاً، ينتظر من يصنع له طبق البطاطس المهروسة، ويضعه فى طبق كبير أمامه على المنضدة بجوار السرير.

طفل.
شحتته أمه من الله.
وزلت نفسها.
وشحت عليه من سبع محمدات، وسبع فطنات، وصنعت له خلخلا يضعه فى قدمه اليسرى، ونذرت نذراً كبيراً للسيد البدوى، وطهارته على بابه، واسمته سراً(محمداً) وتناديه جهراً مشحوت.


هذا الطفل قد عفا.
هنا عرفت الأم الخبيرة أن ابنها، الذى نجا من مذبحة موت الأطفال الذكور وقبله عاشت البنات، قد عفا وشفى، وصار جسده قوياً، بعد أن مص ورضع وشبع حتى تخمة من لبن ثديها الدافىء، وشرب جميع اللبن المخزون.
فقامت من فوقه فرحة، منهكة، فرحة لدرجة أنها حكت له كل ماحدث، للصديقات والجارات التى مر على ثديهن ورفض.
وبعد ذلك حكت لأمها، ولجاراتها، ولصديقاتها، ولم يصدقن حديثها، إلا واحدة فقط هى التى قالت(باسم الصليب) أخذت الكلام، وأضافت عليه الكثير، وزوقت الأفعال والكلام، وضخمت الأصوات، لدرجة أنها قالت لأخريات لم يحضرن(لقد نطق الطفل فى المهد) وهو الذى كان يقول منذ فترة قصيرة(أغ أغ أغ).أ

الأسطورة وتطورها.
هكذا أصبحت السطورة المصدقة والمحبوكة، تتطور، وتتمدد، وتستمر، وتنتشر، وتتوغل، وتلف وتدور بين الجارات والأحاديث وعلى موائد الطعام، والسهرات الليلة.
والنسوة الكبيرات، أخذن الحكاية من أفواه العجائز وتلف وتدور المدينة فى حكايات المساء.
وخرجت من هذه المدينة، غلى مدينة أخرى، وأخرى، وأخرى، لدرجة أن البعض تجمهر أمام باب البيت، وكن يردن أن يعرفن ماذا حدث بالضبط من هذه الأسطورة المصدقة من الجميع.

ولكن!
ولكن الطفل كان قد كبر وعرف أبواب الكبار، وذهب إلى العمل، ووجد فى ليلة باردة، طفلة صغيرة ترقد بجوار الحائط باردة، جسدها يرتعش أرتعاشات سريعة، فأخذها بين يديه الكبيرتين، واسرع بها داخل البيت، ووضعها أسفل الغطاء الدافىء، وذهب إلى المطبخ، فلم يجد إلا بعض من حبات البطاطس، فصنع لها طبقاً كبيرا من البطاطس المهروسة، ووضعه امامه وهو يردد بلطف(كليها سخنة) تدفيكى، ولكنها كانت لا تسطيع تحريك أطرافها من البرد والجوع.
 فأطعمها بيديه حتى شبعت، وشعرت بالدفء يسرى من فمها حتى باقى أطرافها.
فسكن جسدها البض البارد، ولم يوقف ارتعشاته السريعة التوترة.
ففعل مثلما فعلت أمه منذ أعوام طويلة.
خلع ملابسه كاملة، ووضعها فوقها، وأخذ يدفئها بلحمه الساخن الشهى، الشاب، فوقفت رعشاتها، ونامت ساكنة، وظل فوقها حتى الصباح.
فى اليوم التالى.
وفى اليوم التالى، همت واقفة لكى تخرج من تحت الغطاء، وتترك المكان، فشعرت بثقله فوقها، فامسك بيدها الصغيرة بين يديه، فى قوة، ووضعها بين فخذيه الباردين.
فأرتعشت.
أرتعشت بقوة، أرتعشت أرتعاشة كبيرة مفاجأة، ومن ليلتها وصار يفعل هذا الفعل كل ليلة، ولا تستطيع الفكاك.
لقد وجد الدفء الأمومى الذى ظل يبحث عنه لسنوات طويلة، منذ أن رقدت أمه فوقه وشعر بدفئ جسدها، وهى يبحث عن مثل هذه اللحظة، خصوصاً وأن أمه توفيت بعد ذلك بثلاثة أيام، قطعت الطعام، ونحل جسدها حتى ماتت صامتة باردة وحيدة.
                                                                        
أعتادت على السكون والصمت، ولم تترك البيت أبداً.
حتى كبرت، وصارت شابة جميلة، ووعدها بمكان ثانى، جديد ومختلف، حتى يسعدها سعادة كبيرة مبهجة.
وحتى تنسى كل ماحدث فى المكان الأول، ولكنه كان قد كبر كثيراً، عندما أراد أن ينفذ وعده معها.
فى العشرين عاماً التى عاشتها معه( الطفلة/ الشابة/ المرأة) أنجبت ثلاث بنات جميلات، واسمتهن(برق ورعد وسما) وعندما كان يحتج على تلك السماء، كانت تقول له ضاحكة : ألم تران فى ليلة باردة، كنتُ فيها طفلة صغيرة ضائعة، عمرها ثمانى سنوات،سرت عشر خطوات بجوار السور، هى عشر خطوات فقط، ووقعت على الأرض باردة، كدتُ أتجمد من البرد، بل لقد تجمدتُ لولا(قبلة الحياة) التى منحتها لى، برقدك عارياً فوق جسدى البارد، ضحيت بنفسك مقابل طفلة لا تعرفها، وعندما يتجمد الإنسان لا يكون أمامه سوى الأستسلام، الستسلام التام للدفء.
مهما كانت اليد التى أمتدت له.
ورأيتكَ آتيا من بعيد، طلبتُ من الله فى سرى أن تنقذنى، ووعدته بخدمتك حتى الموت، وسمع الله دعائى، كان صوتى لا يخرج، كنتَ رجلاً فى حوالى الأربعين من عمره، يرفع طفلة صغيرة نائمة فوق الرصيف ترتعد برداً، فيأخذها بين يديه الحانيتين، فتشعر بدفء يسرى من يديه إلى جسدها البارد، كدت أموت خوفاً ورعباً، عندما برقت السماء، ورعدت بقوة، وسقط المطر غزيراً فوقنا، رفعتنى مثل أب، مثل عناية إله طيب، ولكنك لم تستسلم، وأسرعت تجرى فى الطريق الخالى من المارة، إلا قلة، ظنوا أنك رجلآ مجنوناً ينقذ طفلة ماتت.
وصعدت بى درجات السلم المرتفع، وأنتَ تلهث لهثاً موجعاً، ولكنك مصر على أنقاذى.

كنتُ أراكَ أمام عينيى الباردتين تلهث، وتضعنى بحنو أب فوق السرير، وسط الأغطية القديمة الدافئة، وأخذت تنفخ بفمك فى يدى الباردتين، حتى فتحت عينى كاملة، وعادت فىِ الروح، وسمعتك تتمتم بصوت هادىء(الحمد لله).

الحمد لله.
ثم أغلقت عينى ثانية، ولمحت طيفك يمر أمامى سريعاً ويختفى.

***************************************************************************

 

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون