نقوش
تشاغلت عيناّ بمتابعة
النقش البارز في اللوحة المعلقة عالياً .
وطنين الأغاني المتلاحقة يأتي إلىّ من
الشارع ، وصوت الباعة الجائلين من آن لآخر يخرجني من غفوتي المتشاغلة بالنظر إلى
السقف ، كانت اللوحة الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة فى زمن القاهرة القديمة .
وربما يكون تحديداً فى العصر الفاطمي أو
المملوكي ، إني لم أحدد بعد هوية اللوحة . فقط تشاغلت بمتابعة الهدوء والسكينة و البضاعة المتراصة بشكل ساذج على
قارعة الطريق ، وقليل من المارة يتوافدون . وحدي أشق طرفي الثوب إلى نصفين ، تنتابني
حالة من اليأس لم أعتاد عليها ، ولكنني رأيت طرفي الثوب يتباعدان ، يتصاعدان إلى
أعلى .. أعلى ، يرفان صوب اللوحة ، صوب الفارس ، صوب الشارع .
كل ما تخيلته هو أنني أجول في اللوحة
مذهولة .. زوجان من الأحصنة المجنحة يرتديان شقي كثوب ويرفان
.
آه هل أنا متعبة إلى هذا الحد ؟ ! دون رغبة فى
شئ . أخذت أصرخ ، أصرخ ، خارجة من اللوحة .. كانت الخلفية غير واضحة ، المسجد كبير
، ومشربيات جد جميلة ، مشغولة بحنكة الصانع الذي دقق كثيراً فى جمع التفاصيل .
الخشب يحمل رائحة الأيام ، فتطير سعادة
من زمن سابق .. الأفاريز تخرج منها حكايات المارة والصانع ،
يحكى تاريخاً كان يتحرك ، ويتلون ، ويصبغ الأيام بصبغته .
مملوك فوق جواده يمر ، متنزهاً بين مقتنيات
اللوحة ، وأمامه يجرى رجلان يفسحان له الطريق .. سقطت رأس المملوك . تدحرجت تحت قدمي
الجميلة ، الخارجة تواً من حمام قديم . فبان وجهها جميلاً صافياً .. حياها الفارس
وتملا مليا وهى تلتقط اليشمك والحبرة ، وتعيد وضعهما
من جديد .
الأيام ،
والأزقة ،
والمارة ،
ورأس المملوك ،
وتحية الفارس ،
وبسمة الجميلة
لم تبعد صوت الباعة عنى.
والموسيقى الداخلية
المنبعثة من المحل تمنع تأملي للوحة .. تبدلت الموسيقى بأغنية .
" بابا قول لماما بح..... بابا أوبح "
دارت عيناىّ متأملة
اللوحة تجاه الفارس ، ومددت يدي ، أمسك المهماز .
تركنا ، وسار عبر
الأزقة .
" هنا ..
كانت ترتكز فتاة على حافة السور ، خارجة من
زمنها ، من أيامها .
تأكل ساندويتش وتمر
محملة بعطر رخيص ، وسنوات بعيدة .
إنها اللحظة .
وتمر ..
تاركة السور ،
والشارع ، ونهديها عالقين على الحافة .
ومرت .
هي من المحل .. والأخرى من اللوحة .
هي من الشارع ..
والأخرى من زمن بعيد .
هي من حافة السور ..
والأخرى تمر من العصر الفاطمي أو المملوك .
إنها القاهرة القديمة
.
مبانيها ، ضواحيها ،
أسوارها ، أفاريز الجامع خشب المشربيات .
المملوك والفارس
والجميلة .
رائحة بخور المر فى
يد الدرويش ، يثير فى اللوحة دخانه ، طاقاته ، خرافاته ، خرقة البالية
"
وتذوب اللحظات بطيئة فى ثلجية مفرطة ،
بين عين الواقفة المتأملة ، وعين الجميلة فى اللوحة العالية من زمن بعيد .. بعيد
وقديم إنها الآن ترتبك .
تريد أن تحدد ملامحها .
بعد أن زهقت من الفوضى والارتجال . .
تريد أن توضح ماهية الأشياء .. تريد أن تقبض على اللذة الهاربة والمتعة الأبدية .
إنها الآن :
تقرأ مثل تلميذات المدارس . تضع خطوطا
تحت الكلمات .والجمل الهامة المدهشة المثيرة بين قوسين .. ما يجرحها هو ( المرأة
الجميلة ) الباسمة للفارس .
هل مازالت تتحرك ؟ ترفع اليشمك والحبرة تبتسم . تلملم طرف الثوب من قاذورات
الطريق .. ماذا لو عادت
هذه ( المرأة ) مرة أخرى ؟ هل لها نفس الملامح ؟
الجمال !
الابتسام !
أشياء أريد معرفتها ( يا سيدتي ) أكثر
من ذلك أتمنى أن أرى ما خلف حجابك ، المشربيات ، أسمع صوت المغنيات منبعثاً من
الحريم ، ورائحة بخور المر المتطاير عبر اللوحة . وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعيه
.
رغم أنى محملة ( بأنثى ) خارج اللوحة . وموسيقى
خارج السياق ، وصوت الباعة الجائلين . إلا أنني أبحث عنها بشكل واسع ومفرط فى
الدهشة نعم أنى أبحث . وسأظل محملة بعبء البحث والمعرفة ، وإلحاح الذاكرة ، وتاريخ
اللوحة .
ولكن كيف أرى إنسانية البسمة ؟
والوقفة ، وارتباك اللحظة ؟
والتباس البوح ؟
وقفت مشدودة فى حوار مفعم بالقلق .
" يا صاحبة الطقوس "
والمفجر الأساسي للمشهد . أذكر لاطمة أمي
على خدي لحظة قررنا أنا وزوجي أن نعيش الليلة الأولى ( عادى ) دون اشتعال .
" يا سيدة الطقوس "
افتحي ذاتك . اللوحة ملء عينيي . ما هي
رغبات اللحظة ؟
" الفارس "
كان لطيفاً ، متفهماً ، حاول تدريب
رغباته ترك لحظة العشق البدائي دون اشتعال ؟
" يا سيدة الزمن البعيد "
إني أصغى إليك . فتحدثي . وأذكرى لي
مبعث ألمك وسعادتك .
أخذت أغلق سو ستة الجاكت ، واستعد للخروج .
استرخيت على الكرسي ، وأرحت ظهري ، مددت يدى
متنهدة .
-
الدنيا برد
على باب المقهى ، فردت أصابع يدي اليسرى
في تحية حارة للجالسين .
-
هاى .
الصمت يحيط بالمارة ، باللوحة ،
بالجالسين وهدوء المكان .
كم كان مريحاً بالنسبة لي الخروج من الماضي
. والأتيان لأكل ساندويتش ، والمشي في شوارع
القاهرة . إنها الدهشة الأولى .
أشير كطفلة لكل ما هو جديد ومثير ومثالي
. ألتقط سريعاً الكلمات . الحوارات ، الضحكات ، النكات ، طريقة السير . ارتديت
الجينز والتيشيرت وأتيت .
كم كان مريحاً بالنسبة لي الخروج
ومشاهدة اللوحة القديمة والزمن القديم .
النيل .. والشمس الغاربة .
تثير في أحداث الماضي ، الحواديت .
تحدثت فى همس .
يا سيدة الآن .
أريد صورة كبيرة أعلقها عالياً في حجرتي .
ضحكت وأضفت ، دون يشمك ، دون حبرة.
" يا ريت "
صورة كبيرة لقاهرة الآن .. دون فارس ،
دون مملوك ، دون الجميلة ، دون الدرويش ، دون أن أكون بداخلها .
تنهدت بطفولة : كيف ؟
طرت أجرى .
أمرح .. واليشمك يتطاير عبر الصورة من
الجميلة الباسمة للفارس .
أحب الشمس والفوضى .
أريد الدخول من باب ( النصر ) .. أخرج
علبة سجائري وأشعل واحدة
أشعل العالم … !
يونيه 2000