السبت، 9 يونيو 2018

نقوش

نقوش


تشاغلت عيناّ بمتابعة النقش البارز في اللوحة المعلقة عالياً .  
وطنين الأغاني المتلاحقة يأتي إلىّ من الشارع ، وصوت الباعة الجائلين من آن لآخر يخرجني من غفوتي المتشاغلة بالنظر إلى السقف ، كانت اللوحة الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة فى زمن القاهرة القديمة .
وربما يكون تحديداً فى العصر الفاطمي أو المملوكي ، إني لم أحدد بعد هوية اللوحة . فقط تشاغلت بمتابعة الهدوء والسكينة و البضاعة المتراصة بشكل ساذج على قارعة الطريق ، وقليل من المارة يتوافدون . وحدي أشق طرفي الثوب إلى نصفين ، تنتابني حالة من اليأس لم أعتاد عليها ، ولكنني رأيت طرفي الثوب يتباعدان ، يتصاعدان إلى أعلى .. أعلى ، يرفان صوب اللوحة ، صوب الفارس ، صوب الشارع .
كل ما تخيلته هو أنني أجول في اللوحة مذهولة .. زوجان من الأحصنة المجنحة يرتديان شقي كثوب ويرفان .
 آه هل أنا متعبة إلى هذا الحد ؟ ! دون رغبة فى شئ . أخذت أصرخ ، أصرخ ، خارجة من اللوحة .. كانت الخلفية غير واضحة ، المسجد كبير ، ومشربيات جد جميلة ، مشغولة بحنكة الصانع الذي دقق كثيراً فى جمع التفاصيل .
الخشب يحمل رائحة الأيام ، فتطير سعادة من زمن سابق .. الأفاريز تخرج منها حكايات المارة والصانع ، يحكى تاريخاً كان يتحرك ، ويتلون ، ويصبغ الأيام بصبغته .
 مملوك فوق جواده يمر ، متنزهاً بين مقتنيات اللوحة ، وأمامه يجرى رجلان يفسحان له الطريق .. سقطت رأس المملوك . تدحرجت تحت قدمي الجميلة ، الخارجة تواً من حمام قديم . فبان وجهها جميلاً صافياً .. حياها الفارس وتملا مليا وهى تلتقط اليشمك والحبرة ، وتعيد وضعهما من جديد .
الأيام ،
والأزقة ،
والمارة ،
ورأس المملوك ،
وتحية الفارس ،
وبسمة الجميلة
لم تبعد صوت الباعة عنى.
والموسيقى الداخلية المنبعثة من المحل تمنع تأملي للوحة .. تبدلت الموسيقى بأغنية .
" بابا قول لماما بح..... بابا أوبح "
دارت عيناىّ متأملة اللوحة تجاه الفارس ، ومددت يدي ، أمسك المهماز .
تركنا ، وسار عبر الأزقة .
" هنا ..
   كانت ترتكز فتاة على حافة السور ، خارجة من زمنها ، من أيامها .
تأكل ساندويتش وتمر محملة بعطر رخيص ، وسنوات بعيدة .
إنها اللحظة .
وتمر ..
تاركة السور ، والشارع ، ونهديها عالقين على الحافة .
ومرت .
هي من المحل .. والأخرى من اللوحة .
هي من الشارع .. والأخرى من زمن بعيد .
هي من حافة السور .. والأخرى تمر من العصر الفاطمي أو المملوك .
إنها القاهرة القديمة .
مبانيها ، ضواحيها ، أسوارها ، أفاريز الجامع خشب المشربيات .
المملوك والفارس والجميلة .
رائحة بخور المر فى يد الدرويش ، يثير فى اللوحة دخانه ، طاقاته ، خرافاته ، خرقة البالية "
وتذوب اللحظات بطيئة فى ثلجية مفرطة ، بين عين الواقفة المتأملة ، وعين الجميلة فى اللوحة العالية من زمن بعيد .. بعيد وقديم إنها الآن ترتبك .
تريد أن تحدد ملامحها .
بعد أن زهقت من الفوضى والارتجال . . تريد أن توضح ماهية الأشياء .. تريد أن تقبض على اللذة الهاربة والمتعة الأبدية .
إنها الآن :
تقرأ مثل تلميذات المدارس . تضع خطوطا تحت الكلمات .والجمل الهامة المدهشة المثيرة بين قوسين .. ما يجرحها هو ( المرأة الجميلة ) الباسمة للفارس .
هل مازالت تتحرك ؟ ترفع اليشمك والحبرة تبتسم . تلملم طرف الثوب من قاذورات الطريق .. ماذا لو عادت هذه ( المرأة ) مرة أخرى ؟ هل لها نفس الملامح ؟
الجمال !
الابتسام !
أشياء أريد معرفتها ( يا سيدتي ) أكثر من ذلك أتمنى أن أرى ما خلف حجابك ، المشربيات ، أسمع صوت المغنيات منبعثاً من الحريم ، ورائحة بخور المر المتطاير عبر اللوحة . وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعيه .
 رغم أنى محملة ( بأنثى ) خارج اللوحة . وموسيقى خارج السياق ، وصوت الباعة الجائلين . إلا أنني أبحث عنها بشكل واسع ومفرط فى الدهشة نعم أنى أبحث . وسأظل محملة بعبء البحث والمعرفة ، وإلحاح الذاكرة ، وتاريخ اللوحة .
ولكن كيف أرى إنسانية البسمة ؟
والوقفة ، وارتباك اللحظة ؟
والتباس البوح ؟
وقفت مشدودة فى حوار مفعم بالقلق .
" يا صاحبة الطقوس "
والمفجر الأساسي للمشهد . أذكر لاطمة أمي على خدي لحظة قررنا أنا وزوجي أن نعيش الليلة الأولى ( عادى ) دون اشتعال .
" يا سيدة الطقوس "
افتحي ذاتك . اللوحة ملء عينيي . ما هي رغبات اللحظة ؟
" الفارس "
كان لطيفاً ، متفهماً ، حاول تدريب رغباته ترك لحظة العشق البدائي دون اشتعال ؟
" يا سيدة الزمن البعيد "
إني أصغى إليك . فتحدثي . وأذكرى لي مبعث  ألمك وسعادتك .
 أخذت أغلق سو ستة الجاكت ، واستعد للخروج . استرخيت على الكرسي ، وأرحت ظهري ، مددت يدى متنهدة .
-        الدنيا برد
على باب المقهى ، فردت أصابع يدي اليسرى في تحية حارة للجالسين .
-        هاى .
الصمت يحيط بالمارة ، باللوحة ، بالجالسين وهدوء المكان .
كم كان مريحاً بالنسبة لي الخروج من الماضي . والأتيان لأكل ساندويتش ، والمشي في شوارع القاهرة . إنها الدهشة الأولى .
أشير كطفلة لكل ما هو جديد ومثير ومثالي . ألتقط سريعاً الكلمات . الحوارات ، الضحكات ، النكات ، طريقة السير . ارتديت الجينز والتيشيرت وأتيت .
كم كان مريحاً بالنسبة لي الخروج ومشاهدة اللوحة القديمة والزمن القديم .
النيل .. والشمس الغاربة .
تثير في أحداث الماضي ، الحواديت . تحدثت فى همس .
يا سيدة الآن .
أريد صورة كبيرة أعلقها عالياً في حجرتي .
ضحكت وأضفت ، دون يشمك ، دون حبرة.
" يا ريت "
صورة كبيرة لقاهرة الآن .. دون فارس ، دون مملوك ، دون الجميلة ، دون الدرويش ، دون أن أكون بداخلها .
تنهدت بطفولة : كيف ؟
طرت أجرى .
أمرح .. واليشمك يتطاير عبر الصورة من الجميلة الباسمة للفارس .
أحب الشمس والفوضى .
أريد الدخول من باب ( النصر ) .. أخرج علبة سجائري وأشعل واحدة
أشعل العالم !
          

                                                         يونيه 2000
                                                  

قصة فأل سئ

  فأل سئ لا أعرف بالضبط ماذا حدث لي؟ منذ ليلة أمس وأنا تنتابني حالة من العراك والغضب الزائد، لقد ألغيت لقاءً كان مهما بالنسبة لي في العم...

المتابعون