الجمعة، 23 فبراير 2018

قصة نقوش من مجموعة سيدة المكان

نقوش


تشاغلت عيناّ بمتابعة النقش البارز في اللوحة المعلقة عالياً .
    
وطنين الأغاني المتلاحقة يأتي إلىّ من الشارع ، وصوت الباعة الجائلين من آن لآخر يخرجني من غفوتي المتشاغلة بالنظر إلى السقف ، كانت اللوحة الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة فى زمن القاهرة القديمة .

وربما يكون تحديداً فى العصر الفاطمي أو المملوكي ، إني لم أحدد بعد هوية اللوحة . فقط تشاغلت بمتابعة الهدوء والسكينة و البضاعة المتراصة بشكل ساذج على قارعة الطريق ، وقليل من المارة يتوافدون . وحدي أشق طرفي الثوب إلى نصفين ، تنتابني حالة من اليأس لم أعتاد عليها ، ولكنني رأيت طرفي الثوب يتباعدان ، يتصاعدان إلى أعلى .. أعلى ، يرفان صوب اللوحة ، صوب الفارس ، صوب الشارع .
كل ما تخيلته هو أنني أجول في اللوحة مذهولة .. زوجان من الأحصنة المجنحة يرتديان شقي كثوب ويرفان .

 آه هل أنا متعبة إلى هذا الحد ؟ ! دون رغبة فى شئ . أخذت أصرخ ، أصرخ ، خارجة من اللوحة .. كانت الخلفية غير واضحة ، المسجد كبير ، ومشربيات جد جميلة ، مشغولة بحنكة الصانع الذي دقق كثيراً فى جمع التفاصيل .
 
الخشب يحمل رائحة الأيام ، فتطير سعادة من زمن سابق .. الأفاريز تخرج منها حكايات المارة والصانع ، يحكى تاريخاً كان يتحرك ، ويتلون ، ويصبغ الأيام بصبغته .

 مملوك فوق جواده يمر ، متنزهاً بين مقتنيات اللوحة ، وأمامه يجرى رجلان يفسحان له الطريق .. سقطت رأس المملوك . تدحرجت تحت قدمي الجميلة ، الخارجة تواً من حمام قديم . فبان وجهها جميلاً صافياً .. حياها الفارس وتملا مليا وهى تلتقط اليشمك والحبرة ، وتعيد وضعهما من جديد .
الأيام ،
والأزقة ،
والمارة ،
ورأس المملوك ،
وتحية الفارس ،
وبسمة الجميلة
لم تبعد صوت الباعة عنى.
والموسيقى الداخلية المنبعثة من المحل تمنع تأملي للوحة .. تبدلت الموسيقى بأغنية .
" بابا قول لماما بح..... بابا أوبح "
دارت عيناىّ متأملة اللوحة تجاه الفارس ، ومددت يدي ، أمسك المهماز .
تركنا ، وسار عبر الأزقة .
" هنا ..
   كانت ترتكز فتاة على حافة السور ، خارجة من زمنها ، من أيامها .
تأكل ساندويتش وتمر محملة بعطر رخيص ، وسنوات بعيدة .
إنها اللحظة .
وتمر ..
تاركة السور ، والشارع ، ونهديها عالقين على الحافة .
ومرت .
هي من المحل .. والأخرى من اللوحة .
هي من الشارع .. والأخرى من زمن بعيد .
هي من حافة السور .. والأخرى تمر من العصر الفاطمي أو المملوك .
إنها القاهرة القديمة .
مبانيها ، ضواحيها ، أسوارها ، أفاريز الجامع خشب المشربيات .
المملوك والفارس والجميلة .
رائحة بخور المر فى يد الدرويش ، يثير فى اللوحة دخانه ، طاقاته ، خرافاته ، خرقة البالية "
وتذوب اللحظات بطيئة فى ثلجية مفرطة ، بين عين الواقفة المتأملة ، وعين الجميلة فى اللوحة العالية من زمن بعيد .. بعيد وقديم إنها الآن ترتبك .
تريد أن تحدد ملامحها .
بعد أن زهقت من الفوضى والارتجال . . تريد أن توضح ماهية الأشياء .. تريد أن تقبض على اللذة الهاربة والمتعة الأبدية .
إنها الآن :
تقرأ مثل تلميذات المدارس . تضع خطوطا تحت الكلمات .والجمل الهامة المدهشة المثيرة بين قوسين .. ما يجرحها هو ( المرأة الجميلة ) الباسمة للفارس .
هل مازالت تتحرك ؟ ترفع اليشمك والحبرة تبتسم . تلملم طرف الثوب من قاذورات الطريق .. ماذا لو عادت هذه ( المرأة ) مرة أخرى ؟ هل لها نفس الملامح ؟
الجمال !
الابتسام !
أشياء أريد معرفتها ( يا سيدتي ) أكثر من ذلك أتمنى أن أرى ما خلف حجابك ، المشربيات ، أسمع صوت المغنيات منبعثاً من الحريم ، ورائحة بخور المر المتطاير عبر اللوحة . وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعيه .

 رغم أنى محملة ( بأنثى ) خارج اللوحة . وموسيقى خارج السياق ، وصوت الباعة الجائلين . إلا أنني أبحث عنها بشكل واسع ومفرط فى الدهشة نعم أنى أبحث . وسأظل محملة بعبء البحث والمعرفة ، وإلحاح الذاكرة ، وتاريخ اللوحة .
ولكن كيف أرى إنسانية البسمة ؟
والوقفة ، وارتباك اللحظة ؟
والتباس البوح ؟
وقفت مشدودة فى حوار مفعم بالقلق .
" يا صاحبة الطقوس "
والمفجر الأساسي للمشهد . أذكر لاطمة أمي على خدي لحظة قررنا أنا وزوجي أن نعيش الليلة الأولى ( عادى ) دون اشتعال .
" يا سيدة الطقوس "
افتحي ذاتك . اللوحة ملء عينيي . ما هي رغبات اللحظة ؟
" الفارس "
كان لطيفاً ، متفهماً ، حاول تدريب رغباته ترك لحظة العشق البدائي دون اشتعال ؟
" يا سيدة الزمن البعيد "
إني أصغى إليك . فتحدثي . وأذكرى لي مبعث  ألمك وسعادتك .

 أخذت أغلق سو ستة الجاكت ، واستعد للخروج . استرخيت على الكرسي ، وأرحت ظهري ، مددت يدى متنهدة .
-        الدنيا برد
على باب المقهى ، فردت أصابع يدي اليسرى في تحية حارة للجالسين .
-        هاى .
الصمت يحيط بالمارة ، باللوحة ، بالجالسين وهدوء المكان .
كم كان مريحاً بالنسبة لي الخروج من الماضي . والأتيان لأكل ساندويتش ، والمشي في شوارع القاهرة . إنها الدهشة الأولى .
أشير كطفلة لكل ما هو جديد ومثير ومثالي . ألتقط سريعاً الكلمات . الحوارات ، الضحكات ، النكات ، طريقة السير . ارتديت الجينز والتيشيرت وأتيت .
كم كان مريحاً بالنسبة لي الخروج ومشاهدة اللوحة القديمة والزمن القديم .
النيل .. والشمس الغاربة .
تثير في أحداث الماضي ، الحواديت . تحدثت فى همس .
يا سيدة الآن .
أريد صورة كبيرة أعلقها عالياً في حجرتي .
ضحكت وأضفت ، دون يشمك ، دون حبرة.
" يا ريت "
صورة كبيرة لقاهرة الآن .. دون فارس ، دون مملوك ، دون الجميلة ، دون الدرويش ، دون أن أكون بداخلها .
تنهدت بطفولة : كيف ؟
طرت أجرى .
أمرح .. واليشمك يتطاير عبر الصورة من الجميلة الباسمة للفارس .
أحب الشمس والفوضى .
أريد الدخول من باب ( النصر ) .. أخرج علبة سجائري وأشعل واحدة
أشعل العالم !
          

                                                         يونيه 2000
                                                  

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون