دراسة
بنات في بنات!
بقلم: بهيج إسماعيل
*"كل مرة يمحون فيها شخصي كنت أختفي من الوجود. وحيدة ومن عيني تسيل دموع. كنت أمشي وراء تابوتي. كنت أربط عقدة في منديلي ولكنني كنت أنسى أن هذه لم تكن موتتي الأولى فأبدأ الغناء من جديد".
هكذا تبدأ "صفاء عبد المنعم" مجموعتها القصصية بتلك الأغنية من الأرجنتين.. ولابد أن بتلك الأغنية قد وافقت هوى في نفس الكاتبة.. أو أنها رأت فيها شيئا منها.. والحقيقة أن تلك الكلمات تكاد تعبر عن إنسان العصر بوجه عام.. ذلك المحيط اليومي المحكوم عليه بالحياة..
"ماذا أفعل بكل هذه اللهفة والخوف ماذا أفعل وأنا أقترب من الأربعين برجل يلعب معي في أوقاتي الضائعة؟
ماذا أفعل وأنا لا أستطيع أن أخبر أمي بأنني صرت قديمة؟
قديمة مثل البيت، والباب، وضلفة الدولاب، مثل كنوزي التي أجمعها من الأسواق، مثل الحروب التي انتهت.
ماذا أفعل وأنا بكامل ثيابي أنام منفردة، ويأتي الصباح، ويأتي المساء، وورائي أم وحيدة تبكي؟ ماذا أفعل بكل هذا الشتاء في ديسمبر؟
بالأمس ـ ولأول مرة في حياتي ـ صبغت شعري أخذت الصبغة ودهنت بها رأسي، فضحكت بحرارة وداعبتني
ـ والله وشعرك أبيَّض يا وزة!
أكملت مداعبتها:
يالله بقى حسن الختام
ـ ماذا يكون نصيب امرأتين في الحياة تقتسمان زجاجة الصبغة؟ الأولى تكبر وتشيخ وترفض الموت.. والثانية تضع زجاجة الصبغة على شعرها، وتزجج حاجبيها، ولا تزيل شعر الساقين؟!
ماذا يكون نصيب امرأتين في الحياة التي أغلقت عليهما الباب وتركتهما؟"
بقدر ما تلوح لنا "صفاء عبد المنعم" في تلك المجموعة جريئة في اقتحامها للغة وللأبواب السرية بقدر ما تتبدى لنا لمساتها لتلك الدموع الحبيسة في القلوب وحيدة تئن في العميق، لكنها قليلا ما تبين "ستفسد روحها حتما، طالما هواء الحجرة لا يتجدد، وطالما تعبئ صدرها بالإعلانات".
" في الصباح أحسست أني أريد أن أندس وسط الناس والزحمة.. ذهبت إلى وكالة البلح وظللت أسير وسط المحلات، وطوابير الناس، أستدفئ بصمتهم، أخرج من شارع إلى شارع، إلى أن ذهبت إلى ميدان العتبة، دخلت من عبد الخالق ثروت إلى طلعت حرب إلى ميدان التحرير إلى كوبري قصر النيل، ظللت سائرة إلى أن تعبت، رأيت البرج أمامى، صعدت لأشرب شايا، طلبت قهوة، وجلست أنتظر أحدا".
*الشتاءات كثيرة في عناوين القصص.. شتاء.. وشتاء آخر ثم شتاءات عدة حتى قصتها الأخيرة امرأة من ديسمبر يقبع داخلها الشتاء أيضا.. إنه الإحساس العميق ببرد الحكاية النابع من برد الوحدة.. أو على الأدق الإحساس بالوحدة.. والحقيقة أن هذه الإحساس نابع بالتراكم من إحساسها المرهف بأحزان كل من حولها.. كأنما هى مسئولة عن كل ما يحدث.. لأهلها ولمجتمعها ولكل المستضعفين حولها:
"الحياة الآن هي أولى أن تعاش أم هي محاولات أخرى للحكي، ونريد أن نحياها، أو نقبض عليها كاملة؟ أعرفك أن "عمر نجم" مات نتيجة أزمة قلبية مع أنى رأيته يوم الثلاثاء في الأتيليه وكان يضحك.. كما مات "أنور كامل".. مات في صمت المحبين الهادئ دون إزعاج كما مات "خالد عبد المنعم" في وداعة وحب..
رأيته قبل موته بثلاثة أيام كان يحمل "هاميس" ابنه "مجدى الجابرى" يقبلها.."
إنه الموت المفاجئ، المتلاحق، الذي يداهم فى غفلة غير عابئ بالعمر أو التوقيت أو المنطق "خلاص.. هسلم لقوة منطق الحياة.. ومش هاروح الشغل!"
إنه الموت المفاجئ، المتلاحق، الذي يداهم فى غفلة غير عابئ بالعمر أو التوقيت أو المنطق "خلاص.. هسلم لقوة منطق الحياة.. ومش هاروح الشغل!"
إنها تكتب عن صديقتها "أروى صالح" التي أخذت الحياة وقفزت بها من حالق إلى أسفلت الشارع لتكتب بنفسها كلمة النهاية.
*قد تكون مجموعة "بنات في بنات" حاملة لجرعة كبيرة من الشجن والأسى.. رغم العنوان.. إلا إنها تحمل أيضا قوة الإرادة التي تحاول التشبث بالحياة ـ فذلك هو بالتحديد قدر الإنسان وهو أيضا سر عظمته ونبالته فإن كان الوعي كفيلا بأن يورثنا الحزن والإحباط فإن "الوعي الحاد" كفيل بدوره أن يجعلنها ندير "الدولاب" إلى الناحية الأخرى حيث يختبئ الانتصار.. أو كما تقول الأغنية.. "فهذه لم تكن موتتي الأولى لذلك.. سأبدأ الغناء من جديد"
الأهرام المسائي