الجمعة، 29 سبتمبر 2017

قصة قصيرة

الفانوس

بأنفاس متقطعة يدخل مناديا
- أمى .. أمى
ينظر، يجدها تخفى شيئا بجوار الحائط ملفوفا برداء أبيض، ثم تضع عليه حجرا صغيرا .
تناديه
- ماذا بك ؟
يجرى بعيدا
- جدى .. جدى
يراه ساجدا على الأرض .
ينحنى عليه، ثم يثب على ظهره وهو مطأطىء .
تأتى أمه، تراه، تنهره، تنهال عليه ضربا .
- جدك شيخ عجوز، أنزل .
تمسك يده، يحدثها
- ماذا يفعل ياأمى ؟
- أنه يصلى .
يشيح بوجهه بعيدا .
- بالأمس ضربنى، لأنه وجد جاسم يلوى عنقى، وراسى مطأطئة، قال لى : لا تنكس رأسك هكذا، يجب أن تظل مرفوعة، لم ياأمى هو يطأطىء ؟
تمد ذراعها، تضمه إلى صدرها، وقد أغرورقت عيناها.
- لأنه يخشاه .
يعتدل الجد فى جلسته، يأخذه بين أحضانه، يمسح بيده على رأسه، يسأله
- ماذا بك ياولدى ؟
بشىء من الحزن يجيب
- لماذا تطأطىء ؟
- لله !
- هل الله قوى ؟
- نعم .
- هل يقدر على مستر هارد ويقتله ؟
- من مستر هارد ؟
- صاحب المستعمرة الجديدة التى تقام هناك .
ينظر الجد شاردا إلى أعلى، لم تريد قتله ؟
- لأنه ضربنى، رأنى أضرب كلبه الأحمر .
تصور ياجدى، كلبه اسمه فوكس على اسم أبنه !
له أبن سىء، اسمه فوكس .
يضحك الجد مبتسما وقد رسمت على جبهته بعض الخطوط الحزينة .
ينظر الولد عاليا، ثم يستدير ببصره تجاه أمه، يسألها بأمتعاض، عن ذاك الفانوس المعلق يخيط رفيع فى سقف الخيمة .
بتنهد عميق، تجيب
- دائما تسألنى عن ذاك الفانوس، ولم تسألنى عن أبيك .
يجيبها ببلاده
- أبى، أين هو ؟
تجلس فى استرخاء قائلة
- مع كل غروب شمس أذكره .
كان ضوءها الخافت ينير الحى بخيوط رفيعة صفراء، والليل قد بدأ يغذو الحى بسواده الفاحم، سمع أبوك طلقات رصاص، خرج ..، كان ضوءها الباهت قد مات وسط سواد الليل، لكنها عادت، بينما هو .. أه ، عشرون عاما مضت على زواجنا .
 تتنهد أكثر .
-  كان فتى فارع الطول، غزير الشعر، لابد أن أروى لك، هناك أحداث كثيرة .
ينزل على الأرض، يجلس جوارها، تمد يدها على راسه .
- هذا الفانوس، ورثه جدك الكبير، فورثه أبوك من بعده، ثم تركه لك .
تنظر عاليا، ترى الصدأ تراكم عليه، غير منه الكثير، أعطاه لونا داكنا .
- سمع أبوك ذات يوم طلقات رصاص، خرج، وبعدها لم يعد، ربما يكونوا أخذوه بعيدا، يحمل أحجارا ثقيلة، يبنى بها بيوتا جديدة، ويزرع أشجارا حولها، وربما يكون قد زرع شجرة زيتون كبيرة، ياتى بثمارها، وربما يكون قد مات هناك !
يصدر عن الجد صوتا مبحوحا
- لا ياأبنتى (صحيح لا يعرف الفلسطينى أين يولد، أو أين يموت، لكنه يعرف مايستطيع أن يفعل بين الميلاد والموت) انه هناك.. لابد أن يكون .
يمد يده على رأس الصغير.
-  هكذا نحن الفلسطينين لايحق لنا نختار المهد .
سنون طويلة مضت، بعد انتظار طويل،وأخيرا اتيت يوم 2 نوفمبر ذلك اليوم الذى يذكرنا بيوم الشباب العائد .
ثم ينظر شاردا من خلال فتحة الخيمة، ينظر للأفق صامتا .
يجلس الولد فى تراخ، ثم يرتمى على صدر أمه، مشخصا بصره لأعلى وهو يردد : ومتى ولدت أنت ياجدى ؟
- أنا ولدت يوم، يوم شؤم كما يقولون، كنا فى سنة 1917 فى ذات العام، صدر وعد بلفور اللعين .
ثم أخذ يستطرد قائلا
-  وجاء التقسيم فى نوفمبر 1947  .
 وأحتوى المكان غليان رهيب .
ثم قال
- وهانحن كما ترى لاجئين .
ينظر الولد ثانية تجاه أمه بثبات
- أمى الصدأ يأكل كل شىء ؟
أجابت فى حالة ساهمة
- حتى الدود يأكل .
يجيبها فى ضعف
- الدود حشرة .
تجيبه بصوت أضعف ..
- لكنها تأكل .
حتى هذا تأكله .
تكشف عن جسدها.
يقترب منها بوجه شاحب، يميل عليها
- أنظر انها تأكل .
- تأكل اللحم
- نعم
- ولم لا نأكلها ؟
- لأنها حشرة .
يقترب منها أكثر، يلتصق بها
- ومتى تأكلنا ياأمى ؟
- عندما نصبح ضعفاء .
تتثأب، يغلبها النعاس، تتحدث بكلمات متقطعة .
- عندما نصبح ضعفاء.. ثم نموت .
آه أننى متعبة، غدا أكمل لك .
ترقد.. تتململ.. تغمض عينيها .
تردد
- كان ضياؤه يغطى أرجاء الخيمة، كنت عروسا، أرتدى ثوب أبيض، الأن ألبس السواد، كل شىء أسود، حتى هذا .
 تشير تجاه صدرها .
يأتى إلى جوارها . تحتضنه، تحدثه
- عندما كان يضيئه أبوك، كان ضوءه يغطى أرجاء الخيمة، كنت أنظر فى المرآه، أرى وجهى بدرا، اليوم صرت .. لاأراه، لأنها تفتت، فتتوها بطلقة .
تنام .
بينما هو يظل يقظان، عيناه مثبتة لأعلى، ناظرا لذاك الفانوس، يقول فى نفسه
- آه، لو أمد يدى .. ألتقطه، كنت نظفته، أزيح ذاك الصدأ عنه، أضيئه، أشترى لأمى مرآة لترى وجهها .
- هل بداخله فتيل أم شمعة .. ياأمى ؟
تجيبه
- الصدأ يأكل كل شىء، ربما يكون قد أكلها .
يقلب عينيه فى العتمة، يجد عصا طويلة، بهدوء، ينهض من جوارها، يتناولها، يحركها لأعلى، الفانوس يقع، يأخذه بين يديه، يتسلل عبر الظلام، خلف الخيمة، يجلس، يسمع عواء ذئب، طلقات رصاص، لكنه لم يخف، ألف هذه الأصوات منذ ولادته، بطرف جلبابه ينظفه، الصدأ يضيع، يبلله بريقه، بطرف جلبابه يمسحه، يظهر على حقيقته، لونه جميل، الصدأ كان يعطيه لونا داكنا، ينظر، يرى بداخله شمعة من القدم، كما هى، الخيط يبدو عليه أثر حريق، طرفه أسود .
-  لايهم الشمعة سليمة.
فى الظلام يرى شبح أمه تتسلل، تحمل ماكانت تخفيه، عندما برق شعاع خاطف، رأى بندقية فى يدها، أراد أن ينير لها الطريق، يتناول عود ثقاب، يضيئه، الشمعة تنطفىء، الهواء يعاكسه، يدخل الخيمة، يشعلها، يضعها داخل الفانوس، يضىء ضوء خافتا، سمع طلقات رصاص، تأتى من خلفه، الرصاص ينزل كالمطر، قلبه يخفق .. بصوت هادىء، أخذ ينادى
- جدى .. جدى .
يجرى تجاه يناديه
- أمى بالخارج، الرصاص يتطاير من كل جانب .. هيا .
 ينهض من فراشه وهو يردد
- كيف استطيع وأنا لا أرى فى الظلام، لا تخف ياولدى، أمك مثل أبيك .
- جدى أنى خائفا عليها .
- لا تخف هيا بنا .
يسيران فى الظلام، والصحراء المترامية الأطراف، حولهم مخيمات خرج نساؤها وأطفالها، يصيح الطفل ..
- جدى، لقد نسيت الفانوس، انتظر أأتى به .
- لا ياولدى، خذنى معك .
يد متشبثة بحفيده، باليد الأخرى عصا يتوكأ عليها .
يراهما، يوقفهما برصاصة مصوبة إلى صدره، قتل الجد .
العباءة على كتفيه .. تنهدل، يقع، تسقط على الأرض، تتجمع فوقها طرات الدم .
ينحنى عليها، يرفعها بين يديه.. ثقيلة، يحملها على ظهره بكتفيه، يسير بها منحيا، هى على ظهره، تنهدل، ينحنى أكثر، يسندها بيده، ثم يسير، الفانوس فى يده، وباليد الأخرى يسند العباءه .
 برصاص كثير يسقط كثيرون .
ينظر إليهم فى حزن.
الجثث ملقاه على الطريق، أجساد بدون رؤس، وأطراف، وأزرع مبتورة الأصابع .
الدماء تنزف، الدموع تتساقط، تتجمع على الأرض .
يدخل الخيمة، من الخلف، تأتى طلقة فى ظهره، على الأرض يقع، يده تمتد، تجذب الفانوس يتشبث به، الدماء تنزف، على جدار الفانوس تتراكم على الأرض تسيل، ضوء الشمعة يضيع، الدم المتجد يخفى ضوءها، النور داخله مكتوم، بلونه القاتم لون الدم يضىء، ظل يعانى فترة من أثر الجرع، ثم أخذ يزحف على بطنه شبرا، شبرا إلى أن وصل خلف الخيمة، أمسك الفانوس بيده .
بيده الصغيرة .. يمسح الدم المتجمد .
الذئاب تعوى .. الفانوس ضوءه شاحب .
يأتى جرو صغير على أطلال الخيمة يقف، يقلب عينيه، يرى .. جثث موتى متناثرة، ينظر هنا وهناك ، خيام ملقاه على الأرض، قدماه ملوثتان بالدم، أعجبته لعبة .. على جسد الصغير يصعد، ينزل، على جسد الجد يصعد، وعلى أخرين، فى خفة تتشبع قدماه بقطع الدم الرقيقة، بفمه يشد جلباب الصغير، يظهر جسده، يجمع قوته بصعوبة، يكور يده، يستعيد بها قوته، يضرب الكلب .
ينزل .
ضوء الشمعة الشحيح يتارجح، ينتهى ضوءها.
الفجر يرسل خيوطه البيضاء تمتزج مع ضوء الفانوس الشاحب، تعلن عن مولد يوم جديد .

                                                                      نوفمبر 1983

  



قصة فأل سئ

  فأل سئ لا أعرف بالضبط ماذا حدث لي؟ منذ ليلة أمس وأنا تنتابني حالة من العراك والغضب الزائد، لقد ألغيت لقاءً كان مهما بالنسبة لي في العم...

المتابعون