رسالة إلى أبنتى
حبيبى ميسو .
اليوم يمر ثلاثة أيام على فراقك لى ، لقد
رحلتى فى رحلة إلى الهند ، ولا أعرف لماذا ياحبيبتى تركتى الوطن والأم والحب من
أجل شىء مبهم بداخلك ،تحاولين عبثاً البحث عنه ، وربما يكون هو قريبا منك هنا ،
ولأنك تجهالينه تماما ، لقد حاولت مرارا أن أجعلك قوية صاخبة ، ولكن دائما كان ضعف
ما بداخلك ينتصر .
عندما كنت أربت على باطن يدك بضعف وحنو أم ،
وأنا أنقر تلك النقرات الخفيفة المحبة ثلاث نقرات تعنى (أنا) ثم أربع نقرات سريعات
تعنى (أحبك) كنت أريد أن أجعل الرسالة سرية بيننا ، وأن الطيبة تصل أليك مثلما كان
يفعل هو طوال رحلتنا سويا من مقهى البستان بوسط البلد إلى مقهى السكرية بخان خليلى
بالحسين ، كنا نسير فى جموع كبيرة أو قليلة ، كان يمسك كفى الصغير ، وينقر نقرات
متتاليات ، فى البداية كنت لا أفهم ، ولكن عندما أنصت إلى صوت الموسيقى والأيقاع
الصادر من النقرات ، عرفت (المعنى الحقيقى) .
كان يريد أن يقول لى (أنا بحبك) كان يريد أن
يجعل موسيقى الكون تسمعه ، ذالك العاشق الكبير ، كيف ألتقى البارد بالساخن ؟ أنا
القوية العنيفة الغضوب ، وهو الوديع المحب المسالم .
كيف ألتقى البحران ؟ القوة والضعف ، الصمت
والصخب ، الستقرار والفوضى .
كيف لطفلة فى السادسة من عمرها آن ذاك ، أن
تعرف معنى الموسيقى المندفعة بعنفوان من القلب ؟
كنت عندما أمسك كفك الصغير بين كفى الكبير
ونحن نعبر الشارع كى نقف أمام كافيتريا نعمة بالعجوزة ، وأشترى لك ساندوتش
(الشاورما) ثم نعبر الطريق مرة أخرى ، ونجلس على شاطىء النيل أما مستشفى العجوزة
مثل المحبين ، كنت أنقر تلك النقرات على كفك الصغير.
ثلاث نقرات متتاليات تعنى (أنا) ثم أتبعها
بأربع نقرات سريعات تعنى (أحبك) فتصبح الكلمة كاملة (أنا أحبك) مثلما كان يفعل
تماما .
وكنت أنظر أليك صامتة ، وأنتِ تقضمين ساندوتش
الشاورما بشهية وأستطعام طفلة صغيرة جائعة ، وأنا أضحك من داخلى على سعادتك (
سعادة أم أستطاعت أن تدبر بحنكة ثمن ساندوتش شاورمة لأبنتها بعيداً عن مصروف البيت
، ومصاريف المدرسة الخاصة ) هناك أشياء كثيرة لا يبوح بها القلب إلا فى لحظة العطش
، خاصة من أم أرملة تحاول جاهدةً ببعض القروش القليلة أن تصنع عالماً مبهجاً
لصغيرتين لا ذنب لهما فيما حدث .
كنت أمعن النظر فى وجهك الجميل المشرق ،
وعينيك العسليتين بلونهما الفاتح ، والذى يشبه لون العسل الصافى ، وشعرك الكستنائى
الطويل ، وأظل أقارن بين بشرتك وبين بشرته ، ترى ماذا أخذت منك أبنتك ؟ أخذت
الحساسية المفرطة ، والحب ، ولون البشرة ، والشعر ، ولون العينين .
آه كم أنا وحيدة وحزينة ، ولا يستطيع نهر
النيل بكل تاريخه أن يعيد إلىِ جسد أوزير الضائع .
28 فبراير 2017
********************