سؤال الهوية..سؤال الكتابة في مجموعة"سيدة المكان"
لصفاء عبد المنعم
سؤال
الهوية..سؤال الكتابة في مجموعة"سيدة المكان"
د.هويدا
صالح
الكتابة
قلق وجودي نابع من حيرة المبدع أمام الكون، هي انفجار لألغام الذات في وجه العالم،
تراوح بين الشك واليقين،تبحث لها عن مستقر يبدو مستعصيا أو مستحيلا . الكتابة
لملمة أشلاء الذات التي تناثرت في معركة وجودية،ويعمل على تسويتها هيكلا، لكن
الكاتب غالبا يجد نفسه مدفوعا إلى المساحات البيضاء لينثر قلقه،وانتفاضاته ضد
الرداءة المحيطة بالعالم.
ربما
هذا ما شعرت به وأنا أقرأ مجموعة صفاء عبد المنعم " سيدة المكان" التي
صدرت عن دار وعد مؤخرا، فقد طرحت قلقها الوجودي تجاه العالم ، تجاه الشعور بزعزعة
موضع الذات في مواجهة أسئلة الوجود، وأسئلة الهوية ، الهوية الثقافية للذوات التي
تحرص الكاتبة على كشف عوالمهم.تبدأ الكاتبة عوالمها بعتبة الإهداء، الذي يكون
بالضرورة لأمها، لأنها سيدة المكان، ثم تأتي عتبة التصدير بنص من الكتاب المقدس،
وتتركنا نتساءل عن الأهوج في الهيكل، فهل نجد له تجليات في النص؟:" الأهواج
في الهيكل،فهو كشجرة في العراء،تفقد أوراقها فجأة، وتبلغ نهايتها في أحواض بناء
السفن،أو تعوم بعيدا عن مكانها، وتدفن في كفن من اللهيب". هذه الاستعارة
النصية تشير إلى تمثلات الذات في النص، يأتي النص الأول "نقوش" ليجسد
رؤية الكاتبة للهوية الثقافية المصرية، ومحاولة الاحتماء بالماضي، لرداءة الحاضر
وقسوته،فالبطلة تذهب إلى مصر الفاطمية والمملوكية، لتواجه بلوحة من ذلك العصر،
فتفجر فيها اللوحة الحنين والنوستالجيا للعصور التي كانت فيها مصر قوية، وتعري من
خلالها الواقع الآني، وكيف تاهت الذات في هذا الحاضر، وحاولت الدخول إلى الماضي/ اللوحة:"تشاغلت
عيناي بمتابعة النقش البارز في اللوحة المعلقة عاليا، وطنين الأغاني المتلاحقة
يأتيني من الشارع، يخرجني من غفوتي المتشاغلة بالنظر إلى السقف، كانت اللوحة
الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة في مصر القديمة،وربما تحديدا في العصر الفاطمي
أو المملوكي".
نلحظ
انحياز الكاتبة للعالم الافتراضي والزمن الذي تمثله اللوحة، على حساب اللحظة الراهنة
التي تمثل بالنسبة لها قهرا:"رائحة البخور في يد الدرويش،يثير في اللوحة
دخانه،طاقاته، وتذوب اللحظات بطيئة بين عين الواقفة المتأملة، وعين الجميلة في
اللوحة العالية، بعد أن زهقت من الفوضى والارتجال،تريد أن توضح ماهية الأشياء،
تريد أن تقبض على اللذة الهاربة والمتعة الأبدية".
رداءة
الواقع والحنين لزمن فات لم يكن سمة النص الأول"نقش"فقط، بل النص
الثاني "أخيرا يوجد
مطر " تغرق فيه الساردة في الحنين، والرغبة في الرجوع إلى زمن فات، فثمة
امرأة وحيدة تجلس في شرفة حجرتها تحيك قمصانها، وتتذكر عمرها الفائت:"ستجلس
تحيك قميصا مبتلا وتنزل ستائر الدانتيلا دون أن تبتهج،دون أن تنظر إلى الشرفات،دون
أن تدمع عيناها، فقط تجلس تخيط قميصا،تغلق عينيها على المشهد،وتسبح مع الأحلام، مع
المطر، تنزلق من الشرفة إلى الشارع، تزيح المارين أمامها، ينزلق شعرها الأبيض
منسابا، ناعما، هادئا، مبتلا، تنزلق الأيام على تنورتها، فتسير عبر الطرقات بلا
تنورة، بلا حذاء،بلا أيام/بلا قميص تحيكه،فقط تسير مع المطر". في
قصة"سيدة المكان" تكشف جانبا آخر من الصورة، جانبا من حياة تلك
الساردة التي تقرر أن تعود لمرتع طفولتها، للحظاتها الحميمة في بيت الجدة الذي
عاشت فيه العائلة، وحين تعود للمكان، تنسلخ من أيامها وترجع طفلة صغيرة، نسمع
صوتها وهي تحادث أباها، ونرى عيونها وهي تقفز فرحة حينما تجلسها الجدة هي وبقية
أطفال البيت لتحكي لهم حكاياها، ونشم رائحة طعام أمها:"ورأيتني وجها لوجه
أمام بيت قديم، عشت طويلا أبتعد عنه كلما مررت به، وكلما طرأت مهمة تستدعي أن أهبط
إلى مكان طفولتي..أهرب..وهكذا دفعني، وقفت أنظر إليه، لقد شاخت ملامحه، وتهدلت،صدأ
بمرور السنين، صار رماديا وهشا،لونه غريبا عليّ،كأنني أراه لأول مرة.سرت في الشارع،حاولت
المراوغة،حاولت الهروب،لكنه دفعني ووجدتني مندفعة بقوة لا إرادية، أصعد السلم،
أتأمله".
وهكذا
تواصل صفاء عبد المنعم كشف تلك اللحظات الإنسانية التي تمر بها الذوات في أكثر من
ثلاثين نصا قصصيا بلغة مشهدية بصرية تقدم لنا رؤية شعرية للعالم، كاشفة عن رداءة
الواقع التي تجعل من حياة الذات الساردة كحياة الأهوج في الهيكل.