ونحن نتحلق حول جدتى الكبيرة بجوار المدفأة التى صفيت بها نار الحطب
الشديدة ، وجدى الكبير يقلب بعض كيزان الذرة الشهية على النار ويشويها لنا ،
والنار تطقطق صانعة دوائر حمراء صغيرة متطايرة ، فنلم اقدامنا الصغيرة خوفا منها ،
ثم نلقى داخل النار الكبيرة ببعض جذور البطاطا
ونحن خائفين نلقى بداخلها بايد مرتعشة ببعض البصل ، والبيض المبلل بالماء
كى ناكله بشهية ورضا ، وجدى يضحك ويحذرنا : حاسب أنت وهو النار تلسعك .
تضحك جدتى وهى تمد يدها وتوزع علينا أكواب
الشاى الساخن ، نأخذها بين ايدينا ونتدفىء بها من لسعات البرد المتتالية فى الشتاء
، ثم نقول فى صوت واحد ضعيف مرتعش : أحكى لنا ياجدة حكاية جنية البحر ، تضحك جدتى
وهى تصب الشاى فى الكواب الصغيرة وتقول من بين اسنانها القوية : قصدكم أم الشعور ،
نضحك فى نفس واحد ونحن نرتعب : نعم ياجدة أم الشعور ، أم الشعور ، ونرسم فى مخيلتنا
الصغيرة أشكالا متعددة لأم الشعور هذه وكيف تكون .
تقول جدتى بصوت متهدج وهى تجلس بيننا على
المصطبة داخل الدار والنار تطقطق ، وجدى مازال يغذيها بأعواد الحطب حتى لا تنطفىء
.
كان ياما كان ، فى سالف العصر والأوان ، ولا
يحلى الكلام إلا بذكر النبى عليه الصلاة والسلام .
نردد مرتعشين ، منصتين فى هدوء وخشوع وادب :
عليه
الصلاة والسلام .
تقول فى هدوء : كان فيه رجل فلاح جميل ، جميل
قوى ، وكان كل يوم يقعد آخر النهار على الترعة بعد الأنتهاء من عمله فى الغيط ينفخ
على الناى وهو ينادى ويغنى :
ياليل ياعين .
كان صوته جميلا وعذبا ، يسرى مع اوراق الشجر
ونسمات الربيع الهادئة ، فتجتمع الطيور ، وتزقزق العصافير فى أعشاشها طربا لصوته ،
ويظل طوال الليل على هذا الحال ، إلى أن يغيب القمر ويختفى خلف السحابات الكبيرة
العالية .
وفى يوم من اليام وهو يغنى إذ بحورية جميلة ،
جميلة تشبه البدر فى تمامه ، تخرج له من البحر وهى فاردة شعرها الطويل الطويل
وتجلس غلى جواره على الشاطىء تسمعه وهو يغنى على ناية المصنوع من البوص ، ويغنى :
ياليل ياعين .
فتطرب له الجنية وتسعد بصوته العذب .
وكل يوم على هذا الحال هو يصفر ويغنى ، وهى
تخرج من الماء وتجلس على الشاطىء إلى جواره .
وفى يوم من اليام طلبت منه أن يأتى معها إلى
قاع البحر ، حيث القصر الجميل المصنوع من الؤلؤء والمرجان والقواقع الجميلة الذى
أعيش فيه أنا وأخواتى حوريات البحر .
قال لها : تعالى أنت معى وعيشى فى بيتى
الصغير الجميل ، وانا أغنى لك كل يوم .
وبالفعل ذهبت معه إلى بيته الصغير وعاشا
سعداء فرحين ، وفى يوم من اليام طلبت منه أن ترى أخواتها الحوريات الصغيرات فى قاع
البحر وهى تشتاق إليهن كثيرا ، وحذرته قائلة : إذا رأيت البحر تحول إلى بحيرة من
الدم الحمر ، أجرى بسرعة ولا تنظر خلفك ، سوف يقتلك ابناء عمى ، أهرب سريعا ،
واجرى بكل قوتك ، وأتركنى ، ولا تجلس على شاطىء البحر ثانية وتغنى .
وإذا رأيت البحر صافى ورائقا وجميلا ،
أنتظرنى سوف اعود .
كان الرجل حزينا وهو يودع زوجته الجميييلة
ذات الشعور الطويلة ااالطويلة ، وتركها
تغطس فى الماء ، ووقف بعيدا على الشاطىء ينتظر خروجها ، وبعد لحظة رأى البحر أنقلب
إلى بركة كبيرة من الدماء الحمراء ، وسمع صوت صرخات عالية ، واستغاثة ، وآهات ،
ونداء طويل : ياليل ، ياليل .
أخذ الرجل يجرى سريعا وهو يشعر بأن البحر
يجرى وراءه ويطارده ، والدماء الحمراء تجرى وراءه ، ثم وقع على وجهه وهو حزين ،
ومن يومها وإلى اليوم فقد السمع ، وظل فقط طوال الليل ينادى عليها : ياعين ، ياعين
.
ويسمع صوتها يأتيه من البعيد البعيد : ياليل
ياليل .
وإلى اليوم كل رجل يمر من جوار البحر ليلا
يسمع صوت نداء ساحر وجميل ينادى : ياليل ، ياليل ، ويرى امرأة جميلة ساحرة شعرها
طويل طويل ، تخرج من الماء وتنادى عليه : والنبى ياعم خد أيدى .
فإذا مد الرجل لها يده ، أخذته معها إلى عمق
البحر حيث القاع والقصر الكبير المرصع بالؤلؤ والمرجان وقواع البحر .
وإذا رأها وتركها وجرى ، يشعر أن البحر
يطارده ويجرى وراءه حتى ينكفىء على وجهه ، فيجلس على الشاطىء حزينا يغنى : ياليل ،
ياعين .
نرتعد جميعا من الخوف ونحن نسمع حكاية جنية
البحر من جدتى ، وصوت متهدج يندفع من داخلها وهى تقلد صوت الجنية وتغنى : ياليل
ياعين .
ثم نشعر بلسعات البرد القوية تغذونا فنجرى
خائفين داخل الدار ونضع الغطية الثقيلة فوقنا ، كأن ماء البحر جاء إلينا فنرتعد رعدات صغيرة مرتعشة
، ونرى ضحكة جدى الصافية العافية ويديه الحانيتين وهى توزع علينا أكواز الذزة
الساخنة ، وجذور البطاطا الشهية برائحة الشى وطعمها اللذيذ ، نفيق من غفوتنا على
صوت جدى يغنى بصوته الرجولى القوى :
ياليل ، ياعين .
نضحك ، ونحن نرى جدتى قد ذهبت فى نوم عميق ،
وشعرها الطويل الطويل حولها .
------------------------------------------------------------