مدونة 55
كانت كأمى
كل مساء ، كنت اذهب إلى هناك ، أحمل كتبى تحت أبطى ، وأدخل إلى محراب العلم والهدوء .
كانت تفتح لى الباب وتضحك : أدخلى يابنت الكلب ، وأوعى تعملى صوت ، الأستاذ لسه نايم .
أدخل ، وأجلس إلى جوارها مثل قط أليف .
وهى تطبق الغسيل وتضحك : أتعلمى يابنت الكلب كويس ، أوعى تطلعى خايبة ، سيبك من الهم اللى فيه أنا وأمك .
أضحك بشفتين قرمزيتين صغيرتين ، وأمد يدى أطبق الغسيل معها . تجذب من يدى الملابس وتنهرنى : أفتحى الكتاب وذاكرى ، راجعى اللى خدتيه إمبارح ، سيبك من الغسيل ده ، خلى الهم لأصحابه .
كانت كلما تها تبهرنى رغم الشتائم المتواصلة والمصحوبة بنصائحها ، ومع ذلك كانت هى بوابتى المخلصة التى تفتح لى باب الحياة الحلوة ، وتضحك : تعالى يابنت الكلب ،الأستاذ نايم .
أضع كتبى فى أدب ، وأسير على أطراف أصابعى ، وأجلس إلى جوارها ، وهى تصنع كل شىء بهدوء وصمت .
أمد يدى كى أساعدها ، تنهرنى بعنف رقيق ، وأعشق كلماتها الجميلة والخبيثة ، والمدللة لى أحيانا عندما أحصل على درجة عالية .
ثم تصنع كوبا كبيرا من الشاى ، وتطلب منى أن أناولها قرص أسبرين من الأجزخانة المعلقة فى الصالة .
كانت معلقة عاليا ، وأنا قصيرة جدا ، أشب على أطراف أصابعى بهدوء ، واسمع صوتها ينادى : أوعى تقعى ، أو توقعى حاجة .
أعود بخفة وسعادة لأننى نجحت ، وأحضرت قرص الأسبرين ، دون خوف وبهدوء شديد .
وبعد أن تشرب الشاى ، وتأخذ قرص الأسبرين ، تصنع كوبا آخر من الشاى ، وتبدأ فى النداء على الأستاذ كى يصحو .
تكون الساعة السادسة تماما .
ثم تدير وجهها نحوى : صاحى ياضناى طول الليل يذاكر ، ياعين أمه لحد الفجر ، وراح الجامعة ، ورجع على ريق النوم من غير فطار ، وجه الساعة أربعة ، أتغدى ونام ، وأنت يابنت الكلب ديمن تيجى عشان تصحيه ، آه منك آه .
أدارى خجلى الطفولى ، وأصمت ، ثم أسير نحو المكتب ، وأنا أحتضن كتبى على صدرى ، وأسير على أطراف أصابعى .النبؤة
النبؤة
كل يوم يراها ، والكتب تحت إبطها وهى خارجة من الدرس .
ينظر إليها بعينه اليمنى الزجاجية ، ويناديها : ياست الناظرة .. أتفضلى .
تسير بخطوات بطيئة حذرة وهى تضحك : بخير الحمد لله .
تقترب المسافة بينهما ، تنظر إلى عينه المصنوعة من الزجاج ، وتتعجب ، كيف يرى بها ؟
ينظر إليها بشكل واضح : والله نظرة ، ناظرة بإذن الله .
ثم تبتعد عنه ، بعد أن نالت بركاته ودعواته ، وتتركه جالسا على ناصية الشارع أمام المحل ، يطرق بقدومه على حذاء قديم ، يرتقه
( الحذاء بين المطرقة والسنديان) يضحك ، ويضع مسمارا صغيرا ، ويواصل الدق : طب والعدار ناظرة ، نظرة ياست .
تضحك فى سرها ، وتسير مبتعدة ، يصبح هو نقطة بعيدة ، هى لا تصدق نبؤته ، ولا خرفاته ، ولا صيحاته العالية ، مناديا عليها : ياست الناظرة ، نظرة ياست ، ويواصل عمله بهمة ونشاط .
طفلة صغيرة فى الثامنة من عمرها ، كيف يعلم هو ما فى الغيب ، والمصير ، والمقدروالمكتوب ؟
تدخل البيت ، وهى مازالت تتعجب ، وتضحك فى سرها ، وصوته يتبعها فى كل مكان ، ونداءه يلاحقها : نظرة ياست ، ياست الناظرة .
تجلس على المكتب ، تذاكر دروسها بجد وإجتهاد ، وطنين الجملة واضحا .
لقد أدركت بحس طفولى صادق أن الأيام تعدها بشىء عظيم ، سرى وغامض ، ومحببا لديها ، ربما يكون هو رأى هذا المستقبل داخل
( العين السحرية ) التى لديه ، وهى عين مصنوعة من زجاج ، ويرى بها من خلال جحوظها عن أختها العادية ، ربما !
يكون هو يرى بها بشكل صادق ، خصوصا أنه ينادى عليها وهى تمر من أمامه ، لا ترى إلا عينه الزجاجية فقط ، والأخرى الحقيقية تختفى ، يغمضها كى يراها .
تجتهد بكل مالديها من قوة وحنين لهذا المستقبل القادم ، الذى تنتظره بشغف .
وأحيانا كانت تهرب ، وتمر من شارع آخر حتى لا يراها ، فهو يجلس فى مفرق طرق ، يلمح خيالها تمر برائحتها ، فينادى عليها : ياست الناظرة ، نظرة ياست .
يحمر خداها خجلا ، وتعود تسير من أمامه وتحدثه : أزيك ياعم (عيسى) ، وتتعمد أن تلقى عليه السلام ، وينتبه لها عندما يكون مشغولا ، أو يتحدث مع زبون من الزبائن ، فتنتصر الرغبة داخلها ، ويتبدد الزعر ، وتنتشى لصوته الذى يتبع خطواتها : ناظرة ياست ، ياست نظرة .
تزداد تألقا وحيرة .
ولكنها تواصل ما بدأته من مغامرة للمعرفة .
المعرفة !
التى سوف تعانى من هذه النبؤة القاتلة والجميلة ، والجملة التى ألقاها ذات يوم رجل غامض ، كان يسكن حيهم ، وهى صغيرة ، ويجلس فى مفرق طرق ، يلمح طيفها ، ويشم عطرها ، فينادى هائما " ياست الناظرة ، نظرة ياست .قصة للأطفال
قصص للأطفال
الكاتبة صفاء عبد المنعم
-----------------------
هل ستصبح عصفورا مثلى ؟
زياد يحب العصافير .
ودائما يقلدها وهى تطير ، يرفع ذراعيه عاليا ويرفرف بهما مثل عصفور صغير .
وعندما تأتى أمه .
يقول لها : نفسى أصبح عصفورا كى أطير .
تضحك أمه وتقبله : نحن خلقنا بلا أجنحة ، لنستقر فى الأرض ونعمرها ، ولكن يمكنك أن تطير بخيالك عاليا .
يغضب زياد ، ويدبدب بقدميه على الأرض : أريد أن أطير .. أريد أن أطير .
وعندما تأتى العصافير ، وتقف على النافذة .
تأتى الأم ببعض الحبوب فى الطبق ، وتعطيها له وهى تقول : يازياد ، ضع الحب للعصافير كى تأكل .
يجرى زياد فرحا ، وهو يقرب الطبق من سور النافذة .
والعصافير تلقط الحبوب ، ثم تطير .
يغضب زياد ويدبدب بقدميه على الأرض : أمى أحب أن أكون عصفورا ، أنا عصفور ، أنا عصفور ، ويلف ويدور فى الحجرة مقلدا العصافير .
وفى يوم من الأيام .
وقع عصفور داخل النافذة . فرأته الأم ، وحملته بين يديها .
كان العصفور صغيرا وجريحا ، وبعض قطرات الدم على ريشه .
نادت على زياد وقالت له : هات قطعة من القطن يازياد .
ضمدت جرح العصفور الصغير .
وجاء زياد بطبق الحب ووضعه أمامه .
فأكل العصفور ، ثم حاول أن يطير ثانية ، ولكنه لم يقدر ، ووقع على الأرض .
قال زياد للعصفور : لا تطر ياصديقى ، ظل معى ، وسوف أضع لك الحب كل يوم .
ظل العصفور لعدة أيام ، يأكل الحب ، ويرفرف بجناحيه ، ويزقزق .
وكان زياد فرحا به ، ويرفرف بذراعيه مثله .
وعندما شفى جرح العصفور طار ، وترك زياد فى مكانه واقفا .
غضب زياد كثيرا ، ودبدب بقدميه وقال لأمه : أنا أريد العصفور صديقى .
ضحكت أمه وأخذته فى حضنها ، وقبلته : لا تغضب ياصغيرى ، لقد ذهب العصفور عند أمه ، أتحب أن تتركنى ؟
قال زياد : لا . ولكنى أحب أن أكون عصفورا أرفرف بجناحى ، وأطير فى الفضاء .
بعد لحظة عاد العصفور الصغير ومعه مجموعة من العصافير وأخذ يرفرف بجناحيه ويحوم ويحط على النافذة هو وأصدقاءه .
ضحكت الأم وقالت لزياد : العصفور يشكرك هو وأصدقاءه على الجميل الذى صنعته معه ، وعودته إلى أمه سالما .
فرح زياد كثيرا ، وجاء بطبق الحب ، ووضعه أمام العصافير ، وأخذ يرفرف ، ويزقزق معهم ، ويرفع ذراعيه ، ويلف ويدور فى الحجرة وهو سعيد .
نوفمبر 2013خرف الوحدة وألم الصمت
الخضر
لم تعد تذكره إلا كالحلم !
عندما ياتى إليها فى الأزمات ، تراه باشا ضحوكا بصحة جيدة .
وتطن الهواجس الباطنية فى داخلها .. إنه يحيى حياة طيبة ، ويتركها وحيدة تقاسى الضجر ، وصوت البحر الصاخب فى قلبها عاشق مهجور .
دائما تشتاق إلى لمسته ، همساته ، إلى ممارسة الحب معه ، قلبها ، قلب طفلة لم تغادرها المراهقة بعد .
حدثته كثيرا عن تلك الحالة الشعورية ، أن قلبها قلب طفلة ، قلب فتاة فى الرابعة عشرة من عمرها ، لم ينفر نهداها بعد بشكل جيد ، وعقلها عقل كاهنة فى معبد دلفى .
هو كان يضحك .
ويملأ رئتيه برائحتها الطازجة ، وشعرها المبعثر حول كتفيها ، شعرا جميلا مبتلا ، يعطيها بهاء وشموخا وعظمة ، إنها فينوس الجميلة خارجة الآن من البحر .
هى كانت تحب نفسها هكذا .
وخاصة عندما ترى نفسها فى عينيه ..
وراحت أنامله الطيبة تحرك بعض الشعيرات القليلة المبعثرة ، وتبعدها عن وجهها . فتضحك بود عميق : يالله .. بحبك يايحيى .
وتدفن رأسها فى صدره ، فيضمها بقوة أب حنون ، وقلب ملاك طيب ، وأنفاس عاشق .
كانت تحرقها تلك الأنفاس . وهو يصنع موسيقاه الخاصة فوق ظهرها ، ويعزف بأوتار عاشق ، ويغنى بترانيم شجية ، ويدق بطرف السبابة بعض الدقات الخفيفة التى تشى بالنشوة .
هذه الدقات ، كانت تسمعها تسرى فى جسدها من أطراف أصابعه إلى أطراف قدميها ،فتطير .. تطير وترتفع .
وتقول له ضاحكة : أحبك .صفر
صفر
استوقفنى الخضر
وأعطانى تفاحة
قال : هذه لك يا أبنة الماضى
قضمتها بتلذذ غريب
فوجدت بطنى تنتفخ ... تنتفخ
وترتفع الملابس إلى أعلى
جريت وراءه ، أسأله
ماذا فعلت بى ياسيدى ؟!
استدار ، ونظر إلىّ طويلا
ثم تركنى وقال : هذا هو أنت
فاتركى مابين نهديك ينبض
وابتسمى للحياة .سيدة المكان
صدرت عن دار وعد للثقافة والنشر
مجموعة قصص : سيدة المكان
تحتوى على 32 قصة من الحجم المتوسط
والمجموعة تنقسم إلى جزئين
الجزء الأول سيدة المكان
18 قصة
ومهداة إلى أمى
والجزء الثانى : حتى تمتلىء بالموسيقى
14 قصة
مهداة إلى الشاعرمجدى الجابرىكيف
كيف لم أراها تلك البنت الواقفة على حافة السقوط ، تفتح مظلتها لترقص التانجو مع حبيبها فى الفراغ الرهيب .
وهو فقط ينظر إليها ويشعل سيجارته بحماس وبهمة غير متوفرة لديه ، يقوم صانعا بيديه فراغ أكبر كى يقبض على الدخان الطائر .بيروت بتوقيت القاهرة
]
هى لا تريد أن يوترها أحد ، فقط تريد النوم بعد أن جهزت نفسها للسفر ، منذ المكالمة العادية التى تمت مع شخص ما لا تعرفه ولم تراه من قبل . قال لها بكل ذوق وأدب : أستاذة أنت معنا ببيروت .
هو قال هذه وصمت .
وهى أوسعت دائرة طموحها ، لقد ألمتها المشاعر الجارحة كثيرا ، هى أبنة الأبيض والأسود ، والقلوب النقية التى لا تعرف المراوغة ، كانت تحب دائما أن تكون حاضرة عندما تناديها أمها ، وتكتب الواجب ولا تؤجله ، كل ذلك من أجل أن تحظى برتبة عالية من المحبة ، فأخذت من الطاعة طريقها ، ولكى لا يتم الأستحواز على عقلها العلمى أصرت على الصمت ، وأوقفت الأحاديث .
من تحادث وهى التى لا تقرب الصلاة ، ولا تعرف الوضوء ، كل ما تعرفه حاضر ياماما .صغيرة كانت .
والأنتهازية الإنسانية كانت قليلة فى جعبتها ، فتعلمت أن تعطى ولا تنتظر .
السبيل الوحيد للنجاة هو الحب سرا ، حتى تتخطى كل مفردات القهر الواضحة .
هى الآن تسجل عفويتها ، وألقت بجعبة المسؤليات خارج نطاق الخدمة ، مثلما ألقت بشنطة السفر على السير قبل الوصول إلى الطائرة ، وختمت من الجوازات تأشيرة دخول .امرأة تراقب نفسها
أصبح العمل هو الملجأ الوحيد بالنسبة لها ، بعد الأنهيارات الكبرى ، والربيع العربى ، والفوضى التى أنتشرت بعد كل هذه الأحداث الجسام .
لقد نزل بالبلاد بلاء عظيم ( إنها الفوضى والعنف ) لا أعرف لماذا كل يوم أتذكر رواية وليم فوكنر الصخب والعنف ، والبنت التى هربت من البيت ، إنها الإنهيارات والأنكسارات التى لا حدود لها .
الحياة أصبحت تشبه الحب فى زمن الكوليرا ، لا منجا ولا مهرب إلا السجود لله .
هكذا كانت تحكى الجدة ( تماضر ) عن أحداث العصور السابقة ، وهى مشغولة بغسل يديها جيدا قبل البدء فى تقسيم الطعام على أحفادها الصغار .
جلست على الكرسى الكبير المتصدر المدخل الخلفى للبيت ، وأخذت تنادى على الأحفاد ، كل طفل باسمه ، وتقول لها : أدى تيتا سكر. فيقوم الطفل بتقبيل وجنتيها بحب شديد ، لقد اصبح لديها رصيدا كبيرا من الحب والأحفاد ، وأحيانا الذاكرة لا تسعها فى أختيار الأسم الصحيح للأحفاد الجدد ، فجاسر ربما يكون أحمد ، ومهند ربما يكون محمود ، ومازن هو سيد ، فقررت أن تنادى على الأطفال بأسماء أبائهم ، وتفتح حضنها الكبير وتنادى : حبا حبا مين يجينى ، فيأتى الجميع مهرولين ، فاتحين أذرعهم الصغيرة مثل العصافير الطائرة ، ويجتمعون فوقها ، فتضحك كثيرا وهى تردد : مين هايدى تيته سكر ؟
هكذا كل يوم بعد اطاع تجلس الجدة على الكرسى وتنادى على أحفادها : حبا حبا مين يجينى