نص موازى للنص
قراءة صفاء عبد المنعم
فى
كتاب لم البصر
للأستاذ سيد الوكيل .
( العودة من نفس الطريق ، لم تعد ممكنة )
حين أعطانى صديقى الشاعر عبده الزراع كتاب
صديقى المبدع سيد الوكيل كى أقراءه .
قال لى : كتابة مدهشة .
فأزداد شغفى واخذت منه الكتاب ووضعته فى
شنطتى ، ولهفتى لقراءته .
كنا فى يوم الأربعاء الساعة الخامسة عصرا ،
عندما ذهبت إلى البيت كنت مرهقة جدا ، فقررت تأجيل قراءة الكتاب إلى يوم الجمعة ،
يوم راحتى .
ولكن من أين يأتى النوم ويرقد فى شنطتى كتاب
جميل لصديقى سيد الوكيل المبدع الرائع .
فى ليلة الخميس ، وانا نائمة طوال الليل أحلم
بالكتاب فى حضنى مثل طفل صغير ولدية أمتحان فى الغد فنام يحلم بكل ماهو مخبوء وسوف
يأتى .
شغفت بقرائته ، ووضعته داخل شنطتى ، فهو الآن
مازال راقدا فى آمان وسلام ، إنه فى مأمن ، وبعيدا عن المخاوف والأحلام المفزعة ،
ولكن السؤال المدهش والذى ظل يؤرقنى طوال الليل ، كيف خرج الكتاب من الشنطة وجاء
إلى حجرتى يحتضنى بقوة عاشق .
بين كل حلم وحلم ، استيقظ ، انظر إلى ساعة الحائط
المعلقة أمامى ، وتكتكت العقارب تشير إلى منتصف الليل ، الساعة اصبحت مزعجة
بالنسبة لى ، فأجدها الواحدة بعد منتصف الليل ، أعاود النوم ثانية ،
ثم
أحلم ، واستيقظ ، وهكذا طوال الليل وأنا بين الحلم واليقظة ، والتمنى بمرور الوقت
سريعا حتى يطلع الفجر ، واستيقظ كى أقرأ الكتاب ، ولكن ليل الشتاء طويل . ماذا
تفعل صغيرة مثلى مع عاشق لحوح ، يريد لها أن تصحو وتنتبه له ؟ فيوقظها بين لحظة
وأخرى ملهوفة مشتاقة ، منزعجة ، إنها الآن الثالثة صباحا ، لم يعد النوم يجدى ،
تركت السرير ، وتغلبت على البرد ( خصوصا ونحن فى شهر طوبة البارد ، وبعد موجة صقيع
، أجتاحت البلاد فى الأيام الماضية ، استيقظت من النوم ، وغلبت البرد ، وتكتة الساعة
، وخرجت محتضنة الكتاب بقوة ، وسحبت الملأة ، وصنعت كوبا كبيرا من الشاى الساخن ،
وجلست استمتع منبهرة بهذا العالم الداخلى ، الجوانى قوى ، والذى طفا على ذاكرة
الكاتب فكتب رائعته الجميلة لم البصر .
الصادرة عن دار روافد للنشر والتوزيع ، قطع
متوسط ، عدد الصفحات 94 صفحة تاريخ الأصدار 2014 .
فتحت الكتاب ، وشرعت فى القراءة ، وجلست أنصت للكلمات وهى خارجة من بين
الصفحت وتغذونى ببطء وخفة ..
ويالا دهشتى وحبورى وأمتنانى بهذه الكتابة
التى فتحت مغاليق الروح ، لكى تدخل ، وسربت الأحلام والإحباطات والأمانى خارجة من
داخل مغاليق القلب .
الفجر الآن يؤذن وأنا عند صفحة 30 وحافة
الموت أمامى فى صفحة 31 توقفت بينهما استراحة قصيرة كى ألملم أشتاتى التى بعثرت ،
ورأسى التى خرجت منها الأفكار المحبوسة ، مندفعة بقوة وشجاعة وبهاء ، معلنة عن
خروجها السافر وتحديها لكل قوانين الذوق العام والضرورى والممكن ، ولابد وحيث ، إلى
الفضاء الواسع فى سكون الليل ،والحجرة المضأة بالنيون ، والمدفأة الكهربائية
بشمعاتها الثلاث المضأة بقوة ،
لماذا استيقظت ؟
لماذا وقفت عند هذه الجملة تحديدا ..
( العودة من نفس الطريق ، لم تعد ممكنة )
صــ30
صديقى العزيز سيد الوكيل :
لماذا العودة اصبحت غير ممكنة ، هل لأننى
ثرأت كل هذا الكم ؟
أم حاولت أن تنبهنى إلى شىء غائب وهام ؟
وهو ترك الممكن للوصول إلى المستحيل !
للمرة الثانية فى حياتى أقف هذا الموقف .
موقف التلميذ الذى يعتقد أنه ذاكر وحفظ وفهم
وهضم الدرس جيدا !
فيكتشف فى لحظة فشله وغروره ، بتلميذ قادم
يجيب عن سؤال مقلق وبسيط ما هى الكاتبة ؟
وماذا نريد منها ؟
فى المرة الأولى كان التلميذ الأول هو ( مجدى
الجابرى) عندما أصدر ديوانه ( عيل بيصطاد الحواديت) .. والآن التلميذ الثانى هو
سيد الوكيل بكتابه ( لمح البص) .
كتابة تجعلك تقشر عن جسد وروحك كل ماهو عالق
بها من ذكريات ومحبة وإحباطات وهزائم ، وتزيح حجر الروح الراكز على صدرك ، فتفتح
لك مغاليق الكلمات والحكايات ، وتأتى رسولة الكتابة الساحرة الطيبة بنجمتها
اللامعة تشير بها إلى رأسك فتتفجر الكتابة .
أو كما قال شاعر ( معرفش ليه الغنا أتفجر
إمبارح) .
إنها الكتابة ياصديقى سيد الوكيل ، إنها سيدة
الحكايات والمواقف ، كل يلوذ بما لا يلاذ به .
إننا الكتاب الحمقى والمغرورين ، كلما
أجتهدنا ووصلنا ، وكلما فتحنا بابا ، سبقنا تلميذ نجيب بخطوة ، وفتح بابا جديدا .
فى نص حبر على ورق
سوف نتابع الولد الذى يطلب حبرا كى يكتب .
·
أريد حبرا لأكتب .
·
كم مرة قلك إنك صغير على الكتابة بالحبر ،صـ 9
إنه نفس الولد الذى سوف نراه فى نص مكان ضيق صــ11
كل شىء حاضر كما رأيته من قبل .
هل رايته من قبل ؟
أين رأيته من قبل ؟
الرحلة من الرغبة فى الكتابة إلى الرؤية
والتشكك فيها ( رايت هذا من قبل ، لذلك .. لا جدوى من التفكير فى الهرب ) إذن لا
مفر من الكتابة / الرؤية/ التفكير / الهروب .
يجب أن أكتشف بنفسى .
إذنإنها المغامرة للأكتشاف ، ماذا يكتشف ؟
فى نص اللعبة صـ13
( كأنى فى متاهة ، أدور بينها بلا نهاية )
فى صـ14 يقول الكاتب الذى أستدعى الطفل الذى
بداخله والذى سوف يكتشف ذاته من خلاله ( رأيت بضع درجات تنزل لأسفل ، وثم هواء
بارد يغمرنى حتى اقشعر له بدنى ، غير أن الولد والبنت راحا يحثانى على النزول ،
ويتقدمانى ، فتبعتهما وجلا، وهما يمضيان إلى دهليز مظلم ، كلما تقدما بديا أصغر من
سنهما ، حتى صارا طفلين يتقافزان أمامى فى مرح ، ويتبادلان ضحكات مكتومة ، المسألة
إذن هى لابد من دخول الدهليز واتباع الطفولة الزاخرة بالحركة والمرح والأكتشاف ،
يقال أن الطفل لا يعرف الخوف بقدر ما هو بعشق المغامرة ) نص برزخ صــ15 .
سوف ننزل الدهليز ونتبع الطفل لنكتشف ( لم
أكن قادرا على الرجوع للوراء خطوة واحدة ، كأن أحدا يدفع بى إلى نهاية الممر حيث
يمكننى رؤيتهم يقفون فى استقبالى مدججين
بالهراوات ) .
من الطبيعى والمنطقى عند اكتشاف ومعرفة جديدة
يقف حراس القديم مدججين بالهراوات .
(استبدت بى رعدة قوية ، فأطلقت آهة وانتشيت )
.
بعد المشهد الوصفى الرائع للفتايات فى صـ15 (
ثمة فتيات يدخلن فى طابور طويل ، كن صبايا عاريات ، بنهود شهية ، تثير فى حواسنا
شيئا من الألم ) الألم واللذة صنوان لا يفترقان دائما الأم تتبعه لذة ، واللذة
يتبعها ألم ، وكأنه قدر الأنسان منذ أن قبض برمثيوس على النهار ووهبه للأنسان وعذب
من الألهة مقابل حبه للبشر .
نحن مازلنا نتبع الولد الذى كان يريد الكتابة
، ثم ذهب إلى المغارة ، فالأكتشاف .
فى نص اسماء صـ17
( سبحت وقتا غير هين فى نفق طويل ، وانا أشعر
بخوفى وعجزى يثقلانى ، اسمع أصداء أنين العجوز ، واحس رجفتى ، حتى انتهيت إلى كوة
) .
فى أثناء المغامرة والأنتشاء والبحث وفرحة
الأكتشاف لابد أن يتم الأصطدام بحراس الحكمة الجاهزة ودائما هم العجائز حامليها
وحراسها .
( لماذا تفعلين بى هذا ياأسماء؟)
فى مقطع صـ18
( فجلست مكانى بلا حيلة . فيما هى تضحك من
يأسى ، وتمد لى يدا بكوب حليب ، وكسرة خبز أخذتهما فى لهفة ، وأنا حانق عليها قلت
: أنت وراء كل هذا . قالت : بل أنا كل هذا . )
عندما يمر المبدع برحلة كشف ، أو معراج داخل
ذاته يتعب وييأس من الرحلة المليئة بالدهاليز والأقبية ، فيحاول أن يبحث عن منقذا
أو معين ، إنه يبحث عن حواء الهاربة منه ، أو الهارب هو منها فى رحلة ضياع قد تطول
أو ربما تون حوار الهاربة هذه هى ذاته ، طفولته ، برائته ، بكارته ، واثناء رحلة
البحث يصطدم بها وهو منهك خائر القوى ، عييى ، فتأتى له إما بالماء ، أو الحليب كى
يقتات ليواصل رحلة البحث إلى آخرها ، وربما تكون أسماء هذه هى كناية عن المعرفة !
السماء التى ضاعت من آدم بعد أن أخبره بها
الرب ( معلم آدم السماء كلها).
شجرة الألعاب صـ21
( من الأفضل ألا أذهب بعيدا عن البيت .
الكلاب التى تنبح من بعيد تعرفنى .. الشجرة التى راحت تهتز ، وتساقط أشيائى كلها
..)
فى هذه المقاطع المجتازئه من النص ، سوف تكشف
لنا خوف الطفل من الذهاب بعيدا من الكلاب ، الهروب من المستقرات والخوف البيت
بالنسبة له استقرار معرفى وعائلى ولكن الشجرة بما أنها محبة للأنسان ومكشفه
الأسرار ترسل له أشياءه ..( وتساقط أشيائى كلها ، طائرتى الورقية ، وكراتى
المطاطية ، واوراقا ملونة لحلوى أكلتها ، ودمية تقول ماما ، كنت اشتريتها لابنتى
فى عيد ميلادها الثالث .)
هنا نكتشف الخبيئة المعرفية أن الطفل رجل كبير
ولديه طفلة لذا شجرة المعرفة أسقطت له طفولته ورجولته مرة واحدة .
نص شغف الطريق صـ23
هذا النص اعتقد أنه نفق حقيقى ، نفق نص كطقس
من طقوس العبور فى الحياة ، هو نص صغير ولكنه نص دلالى نفق عبور حقيقى واقعى (
قبيل بداية نفق الأزهر ..) النفق هنا اكتشاف ( فى نهاية النفق رايتهم من جديد ،
فتعجبت ، كيف تركناهم هناك ، وكيف نجدهم هنا ؟)
هذه الحيرة التى ألمت بالطف / الرجل سوف
تصحبنا فى رحلة خروجه من نفق الطفولة بشرب الحليب الذى أعطته له أسماء إلى خروج
جديد بعد أن اسقطت له الشجرة طفولته المتمثلة فى اللعب ، ورجولته المتمثلة فى وجود
طفلة حقيقية لدية .
( كان الدراويش يحيطون بها ويلصقون وجهوهم
بالزجاج حتى شممت أنفاسهم فوجفت قلوبنا بالخوف والرهبة ) السائق يسأله عن فرصة
أخرى للخروج وهو يبحث عن السكينة المتمثلة فى مسجد السيدة سكينة ، ولكنه أكتشف أو
أدرك ( أنه كان علينا أن نتخذ طريقا آخر لبيت الله ) .
هذا السطر يكشف لنا أنه هناك طرق كثيرة
لاكتشاف بيت الله ، خلاف الطريق الواحد المألوف للجميع ( نفق الأزهر ).
غرفة العناية الألهية صـ25
( هكذا أبلغنى سكرتير مكتبه .. ثم طلب منى أن
أخلع نظارتى ، فليس لأحد أن يدخل عليه بنظارة.. سمعت صوت سكرتيره يهتف بى _ ها أنت
تعرف الطريق بدون نظارة ) .
فى هذا النص نتبع صوفية وشغف فيه مختلف عن
النص السابق
( شغف الطريق ) فى الأول المحاولة للوصول جهد
مهدر ثم اكتشاف أنه هناك طرق عديدة للذهاب نجهلها وعلينا أكتشافها .
فى نص غرفة العناية الألهية هو النص التالى
لأول ، نكتشف مع المحب المريد أو البصير ، لأننا سوف نكتشف الطريق بونها وهذا ما
جاء فى السطر الأخير على لسان السكرتير – ها أنت تعرف الطريق بدون نظارة )
عطر محرم صـ27
( دعانى المرحوم عمى على الغداء فى بيت جدنا
القديم ، لاحظت أن تعديلا كبيرا غير من معالم البيت ..)
الرجل الذى خرج من مرحلة الطفولة وعبر النفق
، واكتشف أن هناك طرق أخرى للوصول ، يقف أمام القديم ، ويراه حديثا ( حتى ظننت
أننى فى أحد الفنادق الحديثة ..) ثم نفاجأ بالزنجية عشيقة الأب فى بيت العم ،
ويراها وهى تقدم له سمكا مملحا ، وتترك عطرا محرما .
والعم يقول له : الحياة قصيرة على كل حال .
بين الدهشة والؤية والتعجب تمر الحياة بسرعة
كما وصفها العم .
فى نص قلق الأربعين صـ 29
نرى الرجل / الطفل يقف بين عالمين ، عالم
الطفولة ، البنات التى تمر على الأحجار لعبور المياة الاسنة وبين أخذه هو يد
الأرملة وعبوره بها .
( كنت أتقدمها بتوازن دقيق ، على أحجار قلقة
، وسط بركة ماء آسن ، غير أننا عبرنا بسلام ) عبور جديد طقس من طقوس الحياة فى الأربعين .
فى هذا المقطع نرى الرجل الذى خبر الحياة
وعبرها ، يأخذ المرأة ويعبر بها ثانية وكأنه طقس عبور جديد مشترك .
( عندما التفت ورائى ، رأيت الشارع كله
مغمورا بالماء الآسن ، وثمة أحجار قلقة فى كل مكان على امتداد البصر فأدركت أن
العودة من نفس الطريق ، لم تعد ممكنة ) صـ 30
وهنا فى هذا المقطع الحاسم بأنه لا عودة بعد
طقس العبور سابق ، وانه يجب أن نبحث من جديد عن طريق آخر بعد قلق الأربعين .
العناوين ليست بريئة على الأطلاق ، وأختيارها
وترتيبها جاء موفقا وبدقة وكأنه هناك رجل مسن ( الكاتب) خبر الحياة وبدأ يلضم عقد
حياته ، ويضع الحبات متجاورات بدقى وعناية ، ليس بترتيب حدوثها فى الواقع ، ولكن
بترتيب الطقوس والعبور فى مراحل الحياة ، وكأنه يخبرنا بأن الحياة مش بروفة ، كما
قال الشاعر مجدى الجابرى ، ولكن الحياة هى رحلة بحث ممتعة وأكتشاف مرير ورغبة
جامحة ، وإثارة فى المعرفة وفك طلّسم الحياة المعاشة هنا والآن .
تحية وتقدير للكاتب الكبير سيد الوكيل ،
والذى أمتعنا بهذه الكتابة الواعية المدركة لشخصها ووجودها ، وقابضة على طفولتها
لكشف كل ما هو مستتر وخبىء داخل الروح والنفس .. تحية أعزاز وتقدير .
صفاء
عبد المنعم
القاهرة
يناير 2015