حمزة صائد الأسود
كان حمزة يغيب بالشهور بعيدا عن مكة ، يصطاد الأسود فى الغابات البعيدة ،
أو فى الصحراء المترامية الأطراف .
وكان يشتهر حمزة بين أهله فى مكة بالقوة
والشجاعة ، وحبه لأهل بيته ، ولأبن أخيه محمد (ص ) .
وفى يوم من الأيام .
سمع حمزة صوت زئيرا عاليا ، فذهب ، ذهب
بخطوات واسعة نحو الصوت ،رأى أسدا جريحا مصاب بسهم فى قدمه ، وينزف دما غزيرا ،
فأقترب منه حمزة فى هدوء ، ونزع السهم من قدم الأسد الجريح ، وعالج قدمه .
فسأله الأسد فى ألم وأنكسار :
لماذا لم تصطادن ياحمزة ، ألست صائدا للأسود
؟!
ضحك حمزة فى تواضع وحبور : أنا لا أصيد
الأسود الجريحة .
بل أداوى جرحها .
فشكره الأسد على صنيعه ، وقال له :
لن أنسى لك هذا الجميل ، وموقفك الشجاع ، أنا وأبنائى .
وأحذر الذئاب ياحمزة ، لا تأمن لها .
وبعد أن تأكد حمزة من أن الأسد أصبح فى أحسن
حال ، ويستطيع السير على قدميه ، تركه ورحل ، وسار بعيدا ، وهو فى طريقه إلى
الغابة البعيدة .
رأى ذئبا جريحا يعوى .
كانت فى رجله شوكة كبيرة .
فأخرجها له حمزة وضمد له جرحه ، مثلما فعل مع الأسد من قبل .
فجأة وقف الذئب على قدميه ، وشكر حمزة ، وقال
له :
إنى اخشى عليك من ذئبين شرسين ، قادمين
فأحذرهما ياحمزة .
سوف ينجيك الله من الذئب الأول .
أما الذئب الثانى سيكون وحشى وأشد فتكا بك .
أحذر ياحمزة .
أحذره ياصديقى أيها الأنسان الطيب .
وتركه الذئب . ورحل حمزة ، ودخل فى عمق
الغابة البعيدة .. يبحث عن فخ قد نصبه بعيدا بعيدا .
فوجد ذئبا كبيرا يجرى فى الغابة وهو فى غاية
الذعر والهلع ، وفى ظهره سهما كبيرا ، فأخذ ينادى :
أنقذنى ياحمزة .
أنقذنى ياصائد الأسود .
هرع حمزة إلى نجدة الذئب مثلما فعل مع الأسد
والذئب السابق .
وخلع الشوكة التى فى ظهره ، وضمد له جراحه ،
ثم سمع عن بعد صوت نباح كلاب صيد ، وصوت صائدون ، فقال له الذئب :
خبئنى ياحمزة ياصديقى ، إنهم يريدون قتلى ، أنهم
صائدون أقوياء ، وأنا ذئب ضعيف وجريح .
ولن أنسى لك هذا الجميل .
أخرج حمزة خرجا كبيرا ، كان على ظهر حصانه
الذى يسير إلى جواره ، ويضع فيه العلف والتبن ، وادخل الذئب فيه ، وخبأه عن أعين
الصيادين .
ولكن الخرج كان صغيرا وضيقا على الذئب الكبير
الضخم .. ولا يسعه كاملا لضخامته .
فقال له الذئب :
كتفنى ياحمزة ، أربط يدى وقدمى بقوة ، وضعنى
داخل الخرج بسرعة ، أنهم قادمون ، اسمع صوتهم قريبا منا ، هيا هيا ياحمزة .
سمع حمزة كلام الذئب الكبير الماكر ، وقام
بربط يديه وقدميه ، وأدخله داخل الخرج ، ووضعه فوق الحصان .
وعندما مر الصائدون من أمامه ، سألوا حمزة :
هل رأيت ذئبا كبيرا ضخما ، مر من هنا ؟
إنه ذئب ضخم وشرس ، وشديد المكر والدهاء .
قال لهم حمزة :
الذئب يخشى المواجهة ، والسير فى خط مستقيم ،
ربما يكون مر من هنا ، من بين الأشجار الكثيفة .
وأشار لهم بيده على مكان آخر بعيد .
رحل الصائدون بعيدا يبحثون عن الذئب الكبير بين الأشجار الكثيفة .
وبعد برهة .
أخرجه حمزة من الخرج ، وفك وثاقه ، وقال له :
أرحل الآن فى سلام ، أنهم ذهبوا بعيدا .
كشر الذئب عن أنيابه القوية ، ووقف أمام حمزة
على قدميه الخلفيتين ، وقال له :
إنى جائع فمنذ ثلاثة ايام لم أذق الطعام بسبب
مطاردة الصيادين لى ، فأنت صيدى الآن !
وسوف ألتهمك حالا .
قال له حمزة فى هدوء ودعة :
هل جزاء المعروف الأساءة ؟!
لقد أنقذتك من الموت بنزع الشوكة من ظهرك ،
وأخفيتك داخل الخرج بعيدا عن أعين الصيادين ؟!
وأنكرت وجودك ، مع أنك كنت فوق ظهر حصانى .
هل هذا جزاء المعروف ، ورد الجميل ؟!
قال له الذئب :
إنى جائع ، ولم أأكل منذ ثلاثة أيام .
هل تعرف معنى الجوع بالنسبة لذئب كبير وضخم
مثلى ؟!
فقال له حمزة :
إذن نحكم حكم بيننا .
فقال له الذئب : حسنا ، لا مانع عندى ، سوف
نحتكم إلى ثلاثة حكام ، وبعد ذلك تصبح من حقى .
ابتسم حمزة فى هدوء وصبر وقال له :
حسنا ، نحتكم إلى أول أحد يمر من أمامنا الآن
.
بعد لحظات .
مر من أمامهما جملا كبيرا ضخما وعجوزا وشديد
الأعياء والتعب .
فنادى عليه حمزة قائلا :
أيها الكبير ، يا أمير الصحراء وسفينتها ،
أنى أحتكم أليك أنا والذئب .
وحكى له حمزة الحكاية منذ البداية .
فضحك الجمل العجوز وقال له :
أنا أحكى لكما حكايتى ..
كنت فى يوم من الأيام جمل صغيرا شابا ، أعمل
عند رجلا من مكة حمال ، يحمل على ظهرى كل مايشاء مقابل المال ، وسافرت معه من بلاد
إلى بلاد مع القوافل المسافرة فى رحلة الشتاء والصيف ، لقد كنت شابا قويا ، وكسب
وربح المال الكثير من وراء قوتى ، وصبرى وتحملى العطش لأ يام طويلة فى الصحراء ،
وأنا أحمل على ظهرى الأحمال الثقيلة .
وأصبح رجلا غنيا ، وعنده من الجمال والنوق
الكثير والكثير ، وقد صار تاجرا للجمال ، وبعد هذا العمر الطويل معه ، والذى قضيته
فى خدمته ، قرر أن يذبحنى .. لقد سمعته أمس وهو يحدث صديقه ، بأنه سوف يقيم وليمة
فخمة .. فهربت منه .
هذا مافعله بى الأنسان ، أنصحك أيها الذئب أن
تأكله ، ثم تركهما ومشى فى طريقه داخل
الغابة .
كاد الذئب أن يهجم على حمزة ويفترسه ، بعد
سماع قصة الجمل ، وقال له :
أنتم معشر البشر ليس لديكم أمان ولا عرفان
بالجميل .
فضحك حمزة وقال له : وما تفعله أنت الآن معى
، هل هو عرفان بالجميل ، بعد أن أنقذتك من الموت والهلاك وأيدى الصيادين ، فمازال
هناك حاكمان بيننا ، وأنت الذى حكمت على نفسك بذلك ، هيا بنا نسير نبحث عن الحكم
الثانى بيننا ، ونرى من سوف يحكم بيننا بالعدل .
صار حمزة والذئب مسافة طويلة ، وبعيدا هناك
راى الذئب نخلة كبيرة ، فقال لحمزة : هيا أحكى لها الحكاية .. وأسألها عن رأيها فى
القضية التى بيننا .
فضحك حمزة وقال :
هل النخلة تسمع وتتحدث ؟!
قال له الذئب :
نعم أنها تسمع وتتحدث ، وسوف تحكم بيننا
بالعدل ، هيا هيا أحكى ، أننى جوعان ، والجوع يقرصنى ياحمزة .
حكى حمزة الحكاية للنخلة منذ أن أخرج الشوكة
من ظهر الذئب ، حتى لقاء الجمل .
وقال لها : أحكمى بيننا ياعمتنا الغالية ،
فأنت تحبين البشر ، وقد أطعمتى السيدة مريم العذراء ، وهى تلد المسيح عيسى ،
وأنزلتى عليها رطبا شهيا ، هيا هيا أحكمى بيننا بالعدل .
قالت النخلة :
اسمع حكايتى أنا الأخرى ، ثم أحكم بينكما .
كنت فى يوم من ذات الأيام نخلة قوية ، أطرح
بلحا لذيذا طيبا ، واعيش مع أسرة صغيرة ، أب وام وأطفالهما ، وكانوا يقيمون خيمتهم
هنا بجوارى لسنوات طويلة ، يربون أغنامهم حولى ، وكنت سعيدة لوجودى معهم ، أعطيهم
البلح اللذيذ الطيب ، وفى يوم من الأيام قل الماء ، وقل الكلأ ، ولم يعد المطر
يسقط لسنوات طويلة ، وماتت الأغنام ، وجفت الأرض الخضراء .
فهجروا الوادى ، وتركونى أعيش وحدى وحيدة
عجوز بائسة .
الإنسان ليس له أمان ، أنصحك أيها الذئب أن
تأكله .
فرح الذئب بكلام النخلة ونصيحتها ، واخذ يسيل
لعابه بغزارة ، والجوع يهاجمه بشراسة وقوة ، فقال فرحا :
ياحمزة أن رائحتك الآن شهية وتثير لعابى بشدة
إنى جائع ، إنى جائع جدا .
تماسك حمزة قليلا وقال :
أيها الذئب الكبير ، صبرا ، انتظر قليلا
فمازال هناك حكم ثالث وأخير يفصل بيننا ، ها هو ذا الشيخ العجوز الذى يسير هناك ،
سوف يحكم بيننا .
وأخذ حمزة ينادى ويقترب من الرجل العجوز، ثم
قال له :
ياشيخى الجليل ، إن لى حكاية مع هذا الذئب ،
وأريد أن تحكم بيننا .
قال الشيخ :
ماهى حكايتك ياحمزة ، ياصائد الأسود ، أنت
هنا ، تريد من يحكم بينك وبين ذئب ، وابن أخيك محمد (ص) يستعد لحرب جديدة مع
الكفار فى المدينة ..هو والمسلمين الذين معه .. إنها عزوة أحد ، هيا هيا إلى
المدينة كى تشترك معهم وتنصر افسلام والمسلمين .
حزن حمزة حزنا شديدا عندما سمع كلام الشيخ
العجوز والحرب الدائمة بين الكفار والمسلمين .
وقال له : أحكم بينى وبين هذا الذئب فى هذه
القضية ، وسوف أذهب لنصرة أبن أخى محمد (ص) ومن معه من المسلمين .
فقال الشيخ فى حزن واضح :
ياحمزة أحذر من الذئب القادم، إنه وحشى ،
وشديد البطش .
ماهى حكايتك ، أحكى ياحمزة .
حكى حمزة حكايته للشيخ مع الذئب منذ البداية
حتى هذه اللحظة .
فقال الشيخ للذئب : أنتم هكذا معشر الذئاب ،
الخيانة والغدر شيمة من شيم الذئاب ، ولكنى لا أصدق هذه الحكاية ، هذا الرجل الضعيف
، ربطك ، وكتفك ، ووضعك فى خرج ضيق وصغير ، ثم وضع على ظهر الحصان ،وأخفاك عن أعين
الصيادين ، وانكر وجودك ، هذه حكاية لا أصدقها ، وأنت قوى وكبير ، كيف حدث هذا ؟
لالالا ، أنا لا اصدق كل هذا !
أريد
أن أرى بعينى ، كى أحكم بالعدل بينكما .
ثم ألتفت نحو حمزة وقال له :
أرينى ياحمزة ، كيف ربطت هذا الذئب الضخم ،
الكبير ، الشرس ، ووضعته داخل الخرج الضيق ، ووضعته على ظهر هذا الحصان ، أريد أن
أرى بنفسى ، حتى استطيع أن أحكم بالعدل بينكما
وبشكل جيد .
نام الذئب على الأرض فى هدوء وسعادة .
وقام حمزة بربطه من قدميه بقوة وشدة ، ووضعه
داخل الخرج الضيق ، وأغلقه عليه بقوة ، بحيث لا يستطيع الفكاك منه .
ثم قال الشيخ لحمزة :
ياحمزة هل شددت وثاقة جيدا حتى لا يفلت ؟
قال حمزة :
نعم ياشيخى الجليل الطيب .
قال الشيخ :
هل معك خنجرا مسنونا ، ام تأخذ خنجرى ، وتقتل
هذا الذئب الخائن ، الشرس ، ناكر الجميل .
قال حمزة :
لا عليك ياشيخى الجليل ، أنا سوف أتولى أمر
قتله بنفسى .
ثم
طعنه طعنة قوية ونافذة ، وتركه فى الصحراء الواسعة البعيدة .
وركب حصانه متوجها إلى المدينة ، كى يلحق
بأبن أخيه (ص) ومن معه من المسلمين فى غزوة أحد .
وتأمرت هند بنت عتبة مع العبد وحشى على قتل
حمزة صائد الأسود ، وامرته أن يحضر لها كبد حمزة مقابل حريته .
وكان هذا هو الذئب الثانى وحشى الذى حذره منه الشيخ الجليل .
وعندما سمع الأسد الكبير الذى عالجه حمزة من
الشوكة التى كانت فى قدمه ، وعالجه فى الغابة .
أوصى أبنه وقال له :
أذهب ، وأقتل قاتل حمزة .
وبعد أن نال وحشى حريته .
سار فى طريق طويل بمفرده متجها نحو الصحراء
البعيدة ، وهو يحدث نفسه فى حالة من الغبطة والفرح والسعادة بحريته .. غير مصدقا
أنه نال حريته بعد أن كان عبدا ، وأصبح حرا ..
وهو سائرا يغنى ، وصدى الصوت يرد عليه ..
أنا عبدا حبشيا
نلت حريتى
أنا العبد وحشى
نلت حريتى
هيها هيه .. هيها هيه .
سيدتى هند بنت سيدى عتبه
أعطتنى حريتى
أعطتنى حريتى
هيها هيه .. هيها هيه
قتلت حمزة .. قتلت حمزة
واحضرت كبد لسيدتى
مقابل حريتى
هيها هيه .. هيها هيه
وأثناء سيرة وحيدا سعيدا ، سمع صوت خفى
يناديه :
ياوحشى ، ياوحشى ..
أنا الحرية !
تعال إلى هنا ، تعال إلى هنا .. أقترب ياطفلى
السعيد ، أقترب حتى أراك فرحا مهللا ، تعال إلى جوارى حيث أعيش .
وقف منجذبا غير مصدقا ، وفجأة ظهر له أسدا
كبيرا وإلى جواره ابنه الشبل الشاب القوى ، وسدا عليه الطريق ، وسأله الأسد الكبير
:
لماذا قتلت حمزة ياوحشى ؟
هل أذاك حمزة فى شىء ؟
إنه ان يدافع عن ابن عمه محمد (ص) والذين معه
؟
والذين أخرجوهم سادة قريش من ديارهم !
لماذا قتلته ، بأى ذنب فعل لك ؟
نظر وحشى إلى الأرض وهو يفكر ثم قال فى تحد
واضح : إنها حريتى ، قتلته مقابل حريتى .
زئر الأسد زئيرا قويا مخيفا ، أرتجت له أركان
الغابة ، وقال هازئا :
أى حرية تتحدث عنها .
أى حرية تأتى على جثة رجل لم يؤذيك .
وفى غفلة أتى الشبل بقوة وأنقض عليه ، وهجم
بشراسة على وحشى فأنهى حياته .
وسار الأسد مبتعدا هو وابنه الشاب بعيدا ،
وسعيدا بأنه أخذ بثأر حمزة من قاتله .