قال لها : ما اسمك ؟
قالت : ليلة .
ضحك : ليلة من الليالي , أم ليلى العامرية .
ابتسمت : لست ليلى , ولا أنت قيس .
أنا ليلة , وأطالت كثيرا في نطق حرف الهاء .
فقلدها , وأخرج
الحرف من حنجرته غليظا ليلة .
وماذا جاء
بك هنا يا ليلة ؟
جئت أبحث
عنه , عرفت أنه يأتي !لي هنا كل ليلة , يشرب الشاي مع أصدقائة .
ودارت بسمة
بيدها .
استغرب
كثيرا , ماذا يضحكك ؟
قالت له :
أنا خارجة حالا من- مرحاض للرجال - , لأنهم نسوا أن للنساء ضروريات تبيح المحظوات
.
يعنى عايزه
تفهميني !نك ( مان ) !؟
قالت :
ولكي تكسبني عاملني ( مان تو مان ) .
ضحك ,
وقهقهة , وطلب شايا , وأشعل سيجارته .
كان وهو صغير عندما يقف عند باب الحمام .
وهى تأخذه من ذراعيه الصغيرين وتحمله بين أحضانها وتضحك : أنت مشروع ولد يجنن .
ويضحك ,
ويقبلها في خديها , وهو يشم رائحة الصابون الذي تحبه .
هز يدها
وناداها : يا مدام . بتدورى على حد ؟
أبنى قالوا
يأتي هنا يشرب الشاي مع أصدقائه .
لم يصدق
نفسه , وأخذ يضحك , ويضحك , ويضرب كفا بكف .
عايزة
تفهميني !ن لك أبن كبير كدا ؟
هزت رأسها
: نعم , وقدك بالضبط .
باستهتار
حدثها : ماما أنت صغيرة قوى .
وحياتك
عمري قدك مرتين , ويمكن أقل .
قام واقفا
مد هوشا , وتركها , وذهب بعيدا .
أشارت
بيدها إلى الجر سون وجلست تستمتع بدخان السجائر والهواء البارد ينبعث من خلفها .
فتحبك
الشال حول كتفيها جيدا , وتشد نفسا عميقا , عميقا .
ثم نادت
للجر سون : يا أبنى , أين الشاب الذي سألتك عنه ؟
ضحك الجر
سون وهبد كفا بكف .
وقال :
ماهو الأستاذ اللي كان معاك دلوقتى .
زيارة
هو يكذب .
هي تعرف أنه يكذب دائما .
كل ما يزعجها أنه يكذب بثقة .
لماذا غضبت عندما ضحك ؟ وطلب منها الذهاب
معه !لي رحلة بعيدة ؟
وقهقه : رحلة
الشتاء والصيف .ولا نسيتى ؟
رغم أنها
صاحبة هذه المقولة , ولكنها كانت تقولها بسخرية مشوبة بالحزن !
!لا أنها
غضبت .
غضبت لأنها شعرت بشيء
من المهانة والاستخفاف العاطفي , بدأ يتسرب !ليها هذا الإحساس أخيرا .رغم !إصرارها
على تحمل مشقة السفر والجوع والألم .!لا أنه توجد لذة ما , لذة خفيفة تأخذها !لي
عالم واسع وعميق , عند( جنيات البحر حيث تغزلن لها ثوبا من حرير السعادة , ويسرحن
لها شعرها بأمشاط من الحب والبهجة . وعفاريت الأرض اللذين يقفون صفوفا حراسا للبنت
الجميلة . والمارد الذي ينتظرها مرحبا بها عند مدخل المدينة) .
في ليلة
شتائية .
ذهبت !ليه
. كان المطر قد بلل ملابسها وشعرها البني الجميل .كانت جميلة كآلهة خارجة من البحر
, مغسولة من الحزن والآلام .. أنها فينوس , أفروديت , أو ربما تكون حتحور الجميلة
, الربة الذهبية ,أو شجرة الجميز الباسقة
بفروعها العتيقة على حافة الترعة , يرتوي منها أوزير العظيم .كانت تصعد فجرا مع
البنات والأولاد تختن الجميز معهم , ثم تجمعه في حجرها الصغير وهى تصوصو : يا أولاد
الكلب , أنا الأول .
وجدتها
تصرخ من أسفل الجميزة : أنزلي يا عين ستك , لحسن العيال توقعك في الترعة
تهبط بهدوء
وثقة , تفرد حجرها الصغير . تضحك الجدة ساخرة : يا لهوى يا بنت بنتي , هاتكلى كل
الجميز ده لوحدك ؟
تبتسم وهى
تجرى !لي الزلعة تملأ طبقا كبيرا بالماء وتغسل الجميز , وتجلس على باب الدار تأكل
في طيبة ودعة .
تضحك الجدة
: وكمان بتغسليه , والله انتو يا بتوع مصر لكم عجايب وتقاليع !
في فرح خالتها الوسطي , والتي تكبرها بعام
واحد .
كانت تحمل
معها شنطة مليئة بالفساتين الجديدة (المينى جيب و المقور , والعريان , والألوان
الزاهية ).تضحك خالتها العروس : والله يا بنت أختي أنتي لكي دماغ لوحدك !
جاءت
الحفافة , وأخذت العروس , ودخلت بها قاعة مهجورة , ثم خرجتا بعد ساعات طوال
.المرأة تزغرد . والعروس تدارى وجهها بطرحة سميكة بيضاء . وقفت البنت الجميلة
بشعرها البني وقالت : الله أنت حلوة قوى يا خالتي !
انكسفت
العروس , ودارت وجهها في الطرحة .
وعندما جاء
العريس . هللت النساء والبنات والرجال . وأخذها .
ظلت البنت
واقفة بجوار شجرة الجميز , تسند رأسها !لي فروعها القديمة .
عندما ضحك , ونظر لها بطرف عينه , وهو يشعل
سيجارة من سيجارة , ويحاول بيده أن يمسح قطرات المطر عن شعرها .ذابت هي بين يديه
مثل قطعة الأيس كريم .
مال عليها
وابتسم : أنت بردانة ؟لم يلق السيجارة من يده , بل ظل محتفظا بها وهو يقبلها قبلات
سريعة وملتهبة , ويحاول تدفئتها بكل جسده .كان الدفء قد بدأ يسرى في أطرافها ,
خلعت الحذاء والشراب والجيب , وتركت باقي الملابس يخلعها هو .وأخذت من يده
السيجارة , وجذبت نفسا قويا وعميقا ثم ألقتها على الأرض مشتعلة .
ها قد مرت الأيام .
وكبرت
الخالة . وماتت الجدة . وقطعت شجرة الجميز من أمام الدار .
وعادت هي
حزينة , ترى الوجود حزينا صامتا , لم تعد تبهجها الأيام , ولم تعد تنتشي .
كل ما
تتمنا الآن هو حجرها الصغير ا لملئ بالجميز .
وكان الولد الذي يذهب معها كل يوم !لي الدرس
, وعندما يرى بائع الترمس الأعمى يعزف على نايه , يشترى لها قرطاسا من الترمس
ويضحك : خذي أتسلى وأنت ماشية .
تزيح يده
في خشونة : أنا معيا فلوس كتير .
يضحك ساخرا
, ويمد يده بالقرطاس ثانية : هو أنت معاك مليم أحمر .
تأخذ
القرطاس , تمسك حبات الترمس , تمص الملح بلذة متناهية وتحدثه : عارف بكره أنا اللي
هاشترى الترمس .
يضحك ,
ويقهقة ويلقى بالقشر في الهواء عاليا : هو أنت حلتك مليم أحمر .
كانت تكره
سخريته .
تكره
ضحكاته .
تكره كذبه
.
وتتلذذ بمص
الملح من الترمس .
ومع ذلك
تنتظره كل يوم أمام الباب , وتذهب معه !لي الدرس , وتتلكأ في الطريق حتى يظهر بائع
الترمس الأعمى ويعزف على نايه .وهو يسبقها , ويشترى قرطاسا من الترمس ويعطيها . تأخذه في صمت .تمص الملح , تمص بقوة
.وهو يلقى بالقشر في الهواء عاليا ويضحك : مش قلت لك , هو أنت معاك مليم أحمر !
اليوم شنطتها مليئة بالجنيهات الحمراء .
ومع ذلك
تشعر أنها فقيرة , فقيرة جدا , وصوته يرن في أذنيها ضاحكا : يا شيخة هو أنت معاك
مليم أحمر .
كم هي الآن
تشتاق !لي صوته , ضحكاته , سيجارته التي يتركها لها مشتعلة , تأخذ منها نفسا قويا
وعميقا ثم تلقيها على الأرض .
أنها تحبه
.
تحبه هو
الذي يجلس الآن جوار المدفأة يستعيد الحياة في مخيلته .