الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012


 

 

                 قال لها : ما اسمك ؟

                 قالت : ليلة .

 ضحك : ليلة من الليالي , أم ليلى العامرية .

  ابتسمت : لست ليلى , ولا أنت قيس .

 أنا ليلة , وأطالت كثيرا في نطق حرف الهاء .

فقلدها , وأخرج الحرف من حنجرته غليظا ليلة .

وماذا جاء بك هنا يا ليلة ؟

جئت أبحث عنه , عرفت أنه يأتي !لي هنا كل ليلة , يشرب الشاي مع أصدقائة .

ودارت بسمة بيدها .

استغرب كثيرا , ماذا يضحكك ؟

قالت له : أنا خارجة حالا من- مرحاض للرجال - , لأنهم نسوا أن للنساء ضروريات تبيح المحظوات .

يعنى عايزه تفهميني !نك ( مان ) !؟

قالت : ولكي تكسبني عاملني ( مان تو مان ) .

ضحك , وقهقهة , وطلب شايا , وأشعل سيجارته .

 

        كان وهو صغير عندما يقف عند باب الحمام . وهى تأخذه من ذراعيه الصغيرين وتحمله بين أحضانها وتضحك : أنت مشروع ولد يجنن .

ويضحك , ويقبلها في خديها , وهو يشم رائحة الصابون الذي تحبه .

 

هز يدها وناداها : يا مدام . بتدورى على حد ؟

أبنى قالوا يأتي هنا يشرب الشاي مع أصدقائه .

لم يصدق نفسه , وأخذ يضحك , ويضحك , ويضرب كفا بكف .

عايزة تفهميني !ن لك أبن كبير كدا ؟

هزت رأسها : نعم , وقدك بالضبط .

باستهتار حدثها : ماما أنت صغيرة قوى .

وحياتك عمري قدك مرتين , ويمكن أقل .

قام واقفا مد هوشا , وتركها , وذهب بعيدا .

أشارت بيدها إلى الجر سون وجلست تستمتع بدخان السجائر والهواء البارد ينبعث من خلفها .

فتحبك الشال حول كتفيها جيدا , وتشد نفسا عميقا , عميقا .

ثم نادت للجر سون : يا أبنى , أين الشاب الذي سألتك عنه ؟

ضحك الجر سون وهبد كفا بكف .

وقال : ماهو الأستاذ اللي كان معاك دلوقتى .

 

 

 

 

 

          زيارة

 

 

                 هو يكذب .

                 هي تعرف أنه يكذب دائما .

                 كل ما يزعجها أنه يكذب بثقة .

 

 

     لماذا غضبت عندما ضحك ؟ وطلب منها الذهاب معه !لي رحلة بعيدة ؟

وقهقه : رحلة الشتاء والصيف .ولا نسيتى ؟

رغم أنها صاحبة هذه المقولة , ولكنها كانت تقولها بسخرية مشوبة بالحزن !

!لا أنها غضبت .

غضبت لأنها شعرت بشيء من المهانة والاستخفاف العاطفي , بدأ يتسرب !ليها هذا الإحساس أخيرا .رغم !إصرارها على تحمل مشقة السفر والجوع والألم .!لا أنه توجد لذة ما , لذة خفيفة تأخذها !لي عالم واسع وعميق , عند( جنيات البحر حيث تغزلن لها ثوبا من حرير السعادة , ويسرحن لها شعرها بأمشاط من الحب والبهجة . وعفاريت الأرض اللذين يقفون صفوفا حراسا للبنت الجميلة . والمارد الذي ينتظرها مرحبا بها عند مدخل المدينة) .

 

في ليلة شتائية .

ذهبت !ليه . كان المطر قد بلل ملابسها وشعرها البني الجميل .كانت جميلة كآلهة خارجة من البحر , مغسولة من الحزن والآلام .. أنها فينوس , أفروديت , أو ربما تكون حتحور الجميلة , الربة الذهبية ,أو شجرة الجميز  الباسقة بفروعها العتيقة على حافة الترعة , يرتوي منها أوزير العظيم .كانت تصعد فجرا مع البنات والأولاد تختن الجميز معهم , ثم تجمعه في حجرها الصغير وهى تصوصو : يا أولاد الكلب , أنا الأول .

وجدتها تصرخ من أسفل الجميزة : أنزلي يا عين ستك , لحسن العيال توقعك في الترعة

تهبط بهدوء وثقة , تفرد حجرها الصغير . تضحك الجدة ساخرة : يا لهوى يا بنت بنتي , هاتكلى كل الجميز ده لوحدك ؟

تبتسم وهى تجرى !لي الزلعة تملأ طبقا كبيرا بالماء وتغسل الجميز , وتجلس على باب الدار تأكل في طيبة ودعة .

تضحك الجدة : وكمان بتغسليه , والله انتو يا بتوع مصر لكم عجايب وتقاليع !

 

     في فرح خالتها الوسطي , والتي تكبرها بعام واحد .

كانت تحمل معها شنطة مليئة بالفساتين الجديدة (المينى جيب و المقور , والعريان , والألوان الزاهية ).تضحك خالتها العروس : والله يا بنت أختي أنتي لكي دماغ لوحدك !

جاءت الحفافة , وأخذت العروس , ودخلت بها قاعة مهجورة , ثم خرجتا بعد ساعات طوال .المرأة تزغرد . والعروس تدارى وجهها بطرحة سميكة بيضاء . وقفت البنت الجميلة بشعرها البني وقالت : الله أنت حلوة قوى يا خالتي !

انكسفت العروس , ودارت وجهها في الطرحة .

وعندما جاء العريس . هللت النساء والبنات والرجال . وأخذها .

ظلت البنت واقفة بجوار شجرة الجميز , تسند رأسها !لي فروعها القديمة .

 

     عندما ضحك , ونظر لها بطرف عينه , وهو يشعل سيجارة من سيجارة , ويحاول بيده أن يمسح قطرات المطر عن شعرها .ذابت هي بين يديه مثل قطعة الأيس كريم .

مال عليها وابتسم : أنت بردانة ؟لم يلق السيجارة من يده , بل ظل محتفظا بها وهو يقبلها قبلات سريعة وملتهبة , ويحاول تدفئتها بكل جسده .كان الدفء قد بدأ يسرى في أطرافها , خلعت الحذاء والشراب والجيب , وتركت باقي الملابس يخلعها هو .وأخذت من يده السيجارة , وجذبت نفسا قويا وعميقا ثم ألقتها على الأرض مشتعلة .

 

       ها قد مرت الأيام .

وكبرت الخالة . وماتت الجدة . وقطعت شجرة الجميز من أمام الدار .

وعادت هي حزينة , ترى الوجود حزينا صامتا , لم تعد تبهجها الأيام , ولم تعد تنتشي .

كل ما تتمنا الآن هو حجرها الصغير ا لملئ بالجميز .

 

     وكان الولد الذي يذهب معها كل يوم !لي الدرس , وعندما يرى بائع الترمس الأعمى يعزف على نايه , يشترى لها قرطاسا من الترمس ويضحك : خذي أتسلى وأنت ماشية .

تزيح يده في خشونة : أنا معيا فلوس كتير .

يضحك ساخرا , ويمد يده بالقرطاس ثانية : هو أنت معاك مليم أحمر .

تأخذ القرطاس , تمسك حبات الترمس , تمص الملح بلذة متناهية وتحدثه : عارف بكره أنا اللي هاشترى الترمس .

يضحك , ويقهقة ويلقى بالقشر في الهواء عاليا : هو أنت حلتك مليم أحمر .

كانت تكره سخريته .

تكره ضحكاته .

تكره كذبه .

وتتلذذ بمص الملح من الترمس .

ومع ذلك تنتظره كل يوم أمام الباب , وتذهب معه !لي الدرس , وتتلكأ في الطريق حتى يظهر بائع الترمس الأعمى ويعزف على نايه .وهو يسبقها , ويشترى قرطاسا من الترمس  ويعطيها . تأخذه في صمت .تمص الملح , تمص بقوة .وهو يلقى بالقشر في الهواء عاليا ويضحك : مش قلت لك , هو أنت معاك مليم أحمر !

 

       اليوم شنطتها مليئة بالجنيهات الحمراء .

ومع ذلك تشعر أنها فقيرة , فقيرة جدا , وصوته يرن في أذنيها ضاحكا : يا شيخة هو أنت معاك مليم أحمر .

كم هي الآن تشتاق !لي صوته , ضحكاته , سيجارته التي يتركها لها مشتعلة , تأخذ منها نفسا قويا وعميقا ثم تلقيها على الأرض .

أنها تحبه .

تحبه هو الذي يجلس الآن جوار المدفأة يستعيد الحياة في مخيلته .

 

 

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون