فأر الثدى
بهذا الشكل لن تكتمل رواية ( ستى تفاحة ) !
لأسباب شخصية , أو
مرضية !
الكلمات تهرب وتتدفق
بشكل غير منتظم .
بقعة الدم الآخرى
التى ظهرت اليوم , جعلتنى أتوجس خيفة , وأحاول أعادة قراءة الحياة مرة أخرى ,
وبشكل مختلف تماما .
هل الشعور بالخطر
يعرضنا لرؤية العالم من جديد ؟ وكأننا نودعه , فنصبح أنسانين أكثر من الازم ,
وحنونين فوق مايجب أن يكون الحنان , أو الحنية بشكل أفضل !!
عندما حلمت , الحلم الغريب والذى صحوت بعده
على رنين الموبايل , وأخى يخبرنى بوفاة "أبن عمتى " الشاب شعرت لحظتها أن الدور - قد أتى -
"علىّ" , وكل يوم يتوغل هذا الأحساس بداخلى , أننى ذاهبة حيث ذهب الأهل
والأصدقاء .
بعد الرواية , قبلها
! ولكن مايؤرقنى الآن هو كيفية مرور الحياة بهذه السرعة والسهولة ؟!
الموت قرب أذنى !
هل أنا بفعلتى هذه أبعدت
الحزن عنهم ؟!
ذهبت الى الطبيب
بمفردى فى العيادة الفخمة والتى كل شىء فيها يشعرك بحقارة مستواك , وضألة مواردك .
دفعت ثمن الكشف على
مضدد , وأنا أحسب فى رأسى , كيف سأقضى بقية الشهر وقد أقتطعت جزءا كبيرا للكشف
والأشعة .
كانت أسنانه البيضاء
, تستفزنى وهو يضحك : أنا حجزت لك من العيادة , عشان حضرتك تستفيدى بالخصم .
كنت أريد أن أقول له
: هل أنا التى تستفيد بالخصم ؟
أم سيادتكم تستفيد بالعمولة على كل مريض .
ولكنى بلعت الكلام
الذى توقف فى حلقى .
نحن نمرض , وهم
يعيشون الرفاهية والحياة الرغدة على حساب شقؤنا .
طوال الطريق , وأنا
أتبصص على الأبراج الشاهقة , وأسماء المكاتب والمحلات ( خان الذهب, التكية , تكا ,
كنتاكى , ماكدونز , معامل مؤمنة كامل , معامل البرج .. الخ )
محلات الرفاهية ليست
لنا , نحن لنا معامل التحاليل والأشعة !
صوت البنت الرقيق وهى
تنادى على أسمى , أخرجنى من حالة التأمل الى حالة الفزع , كنت أجرجر قدمىّ وأنا
داخلة الى حجرة الأشعة ,كدت أسقط على السراميك الفخم ونظافته المبالغ فيها , وأنا
أجرجر ساقى المتعبتين وعينيي الخارجتين من رأسى .
فضحكت البنت : على
مهلك يامدام .
دخلت .
ودخلت وراءها فى صمت
, كل شىء فى الحجرة يشعرنى بالخوف والقلق , باب وراء باب وراء باب ,وكأننى دخلت قصرا مسحورا من الحكايات القديمة ,
أبحث عن الجميلة التى خطفها الوحش .
الوحش !
يقف الآن أمامى شامخا
وعبيطا .
آلة بيضاء نظيفة
وكبيرة , لها فم كبير معدنى , وألوان الطيف تتقلب داخله ( أحمر ,أخضر , أزرق ,
أبيض , بنفسج , برتقالى ..) ثم تعود الألوان وتتبدل هكذا دواليك .
وانا أرقبها بزعر ,
مثل الفأر الذى سقط فى المصيدة , والقط يقف على بابها فى انتظار ألتهامه.
عيناىّ تتجولان فى
المكان .
كل شىء نظيف وجميل
ومرتب بعناية فائقة .
حتى البنات الجميلات
داخل المكان . لقد تم اختيارهن بعناية ( رائعات وجميلات وأنيقات ) يعاملن المرضى
بود وحب مبالغ فيه , طبعا أنا مقتنعة أن كل هذا من المرتب الضخم الذى يقبضونه من
ثمن أمراضنا , وأن كل هذا اللطف والذوق صناعى ومدفوع الثمن مقدما , حتى الحمّام
جميل ونظيف .
لو نملك كل هذه
الرفاهية والجودة فى حياتنا العادية, هل
كنا نمرض ؟
ما أقبحنا !
أفقت على صوت البنت
الحنون , وهى تسألنى عن بياناتى , كى تسجلها على الكمبيوتر , مثلما فعلت فتاة
الريسيبشن.
الأسم , السن ,
العنوان , رقم التليفون , سبب الزيارة .
تشعر وكأنك أمام وكيل
النيابة للتحقيق معك عن سبب أهمالك لصحتك , وأنت مذنب , وعليك أن تجيب بكل حرارة
وصدق , أنك لم تفرط فى صحتك , وأن ما حدث هو بالصدفة نتيجة الأنشغال بالأولاد وأكل
العيش الصعب , ولكن هل تقدر أن تقول لهم أنكم السبب المباشر فى ضياع صحتنا أيها
الكبار العظماء أصحاب رؤوس الأموال المتضخمة والمكتنزة فى بنوك سويسرا و أوربا ؟
أفقت على صوتها .
س : مدام ماسبب
الزيارة ؟
ج : ظهور بقعة دم جديدة للمرة الثانية.
س : هل هذه أول مرة
تـأتى لزيارتنا ؟
ج : نعم .
س : لماذا تأخرتى كل هذا الوقت ؟
ج : كنت لا أعرف خطورة المرض.
س : ما هو المرض الذى شعرتى به ؟
ج : لا اعرف .
وهكذا أسئلة كثيرة ,
وقد سألتنى مثلها تماما فتاة الريسبشن عند دخولى وسجلته أمامها على الكمبيوتر .
هى تسأل وأنا أجيب بأقتضاب
وعفوية .
وبعد تسجيل البيانات
. لاحظت أن أسمى ظهر بالأنجليزية على شاشة الوحش الأبيض الضخم الذى ينتظرنى بفمه
الكبير كى يلتهمنى به .
صوت البنت يأتى رقيقا
.
- حضرتك أتفضلى وراء
الباب , غيرى ملابسك .
ومدت يدها بقميص أزرق
مفتوح من الأمام .
لقد بهرنى اللون
وجماله ونظافته , فهو ليس أزرق صافى , ولكنه مخلوط بالأخضر , فأعطى لونا جديدا (
أزرق مخضر ) لون صناعى , بديع ومريح للنفس , ظللت أنظر أليه كلما زاد أضطرابى , أشعر براحة عميقة وأتنفس بأستقرار وأمن , حتى
الألوان يعرفون كيف يختارون اللون المناسب للحالة النفسيةو المناسبة فى ذلك الوقت
, كل شىء مرتب وبحساب ودقة .
دخلت وراء الباب الذى
أشارت اليه .
حجرة صغيرة لتغير
الملابس , أو ممر ضيق يفصل بين حجرة الأشعة والحجرة التى بها الأطباء .
عدت بعد أن أبدلت
ملابسى , ونظرت طويلا فى المرآة التى أمامى والتى ورائى , ورأيت نفسى على حقيقتها
, عارية تماما , كما ولدتنى أمى , جميلة ونظيفة , ومغسولة من الهموم والحزن ,
ومفصولة عن العالم الخارجى بكل مشاغلة وأحداثه وثورته .
كادت عيناىّ أن تدمع
!
ولكن أجلت البكاء بكل
شجاعة , وقلت فى نفسى :
سوف أواجه الألم بكل قوة وأهزمه مهما كانت
شراسته .
وبعزيمة وقوة ألهية
لا أعرف منبعها " كان أيمانى بالله عظيما فى هذه اللحظة ." وتذكرت قوله
سبحانه وتعالى : أنا عند حسن ظن عبدى بى ." فزادت قوتى قوة على قوة .
كانت نفسى مع نفسى !
وهذا ربما أعطانى
الشجاعة الكاملة كى لا أنهار .
جميع المرضى مع زويهم
وأقاربهم , ألا أنا بمفردى تماما .أتحمل الألم , وأدارى عن الآخرين .
كثيرا ما أفعل هذا .
أبتسم بطيبة وحب , وأقول
: الحمد لله .
وقفت أمام الجهاز
الوحش الأبيض , والألوان المتقلبة , داخله . كنت أقصر من الجهاز , فضحكت بمرارة
وقلت لها : معلش أصلى قصيرة شوية .
ربتت على كتفى بحنان
: ولا يهمك يامدام , احنا بس نحاول ندخل الثدى شوية صغيرة على لسان الجهاز , ايوا
كدا .
ثم ضغطت بالشفة
العليا للجهاز , فألتهم الثدى داخله .
كانت الضغطة قوية وعنيفة , مثل طفل جائع ألتهم
ثدى أمه بعد غياب طويل . شعرت لحظتها بالضغطة والعنف , وحنان الأمومة , فضحكت ,
وداريت الألم , ومسحت بأطراف أصابعى الدمعة التى فرت من عينيىّ .
كنت أنوى أن أربت
بيدىّ على رأس الجهاز مثلما كنت أفعل مع أبنتى الصغيرة وأغنى لها الأغانى الجميلة :يالله
تنام ريما , يالله يجيها النوم , يالله نجيها العوافى كل يوم بيوم .
ولكن جاء صوت البنت
عاليا : لو سمحتى , نحط أيدينا جنبنا , ونرجع رأسنا لورا .
أنزلت ذراعى خوفا
وطواعية فى أدب . وهى تدير الآلة الجهنمية الضخمة البيضاء .
الآلة تعتصر ثدى
يمينا ويسارا , وأنا أشعر بألم الضغطة ولذة الأعتصار . والألوان بدأت تتبدل (
بنفسج , أبيض و أزرق و أخضر و أحمر ..) وعيناى تتابع بهجة الألوان ومثبتتان على
أسمى المكتوب أسفل الآلة بالحروف الأنجيليزية "safaa abd elmenem"
تعجبت كثيرا , فأسمى
كما أكتبه على صفحة " الفيس بوك , والياهو والتويتر ", وما ينقصنى الآن
هو وجود صورتى المبتسمة فيها .
الماوس فى يد البنت ,
وهى تحركه , والجهاز يعمل فى آلية تامة , من عصر ,وألتهام , وتصوير ,وألوان .
وبعد أن ألتهم الثدى
لدقائق , وشفطه , وصوره صور عديدة من جميع الجوانب , توقف وعاد الى طبيعته الأولى
وفتح فمه .
فأخرجت البنت الثدى
الأيمن , وأدخلت الثدى الأيسر .
وأبتسمت لى : معلش
يامدام , ضغطة بسيطة كمان , أى ثدى يؤلمك ؟
قلت لها : الأيمن .
امسكت ثدى بيديها
وبقوة رفعته على الجهاز . فضغط بشفتيه وألتهمه . الضغطة الآن أقوى وأعنف , وكأن
الجهاز أسترد عافيته بعد أمتصاص الثدى الأول .
كان الألم شديدا ,
والضغطة قوية هذه المرة , والدموع جفت فى عينيى , والخوف زادت مساحته .
نادتنى البنت من أمام
الشاشة : ننزل أيدينا جنبنا , ونرجع راسنا لورا .
وانا أطيع أوامرها
مثل التلميذ الخائب الذى رسب فى الأمتحان والمعلمة تعاقبه .
أيوه كدا .
وعادت تحرك الماوس ,
والجهاز يعمل بهمة ونشاط , والألوان تتبدل . وأنا أنظر الى أسمى المكتوب بحروف
أنجليزية .
بعد الأنتهاء من
التصوير .
وألتقاط بعض الصور من
جميع الزوايا والجوانب .
قامت البنت , وأطفأت
الجهاز ,
وأجلستنى على الكرسى
بعطف وحنان ومودة ورحمة .
كنت مرهقة تماما من
الضغطة الأخيرة وعنفها , والبرد بدأ يتسرب الى أطرافى وجسدى العارى , فنحن فى فصل
الشتاء , وشهر ( كيهيك ) بارد جدا , أقصد شهر ديسمبر بارد جدا .
حضرتك استنى هنا شوية
.
كنت أطيع الأوامر ,
وكأننى مذنبة أو مغيبة تماما عن الوعى , أسير تحت تنويم مغناطيسى , ونسيت أننى
مديرة مدرسة بكل مافيها من أوامر وتحكمات .
أخذت أنظر الى الآلة
الجهنمية البيضاء بغيظ شديد , ولون القميص يأخذ ألوان متعددة ومختلفة , حسب اللون
الصادر من الجهاز , لقد أعتصر ثدى عصرا , وكأن الوحش قبض على الجميلة وأمتصها حتى
آخر قطرة فيها . غابت البنت لدقائق . وأنا أتابع حركة الألوان وتبدلها .
ثم دخلت وقالت : معلش
يامدام , هناخد كام صورة تانى من الأمام والجنب. .
كادت الدمعة تطفر من
عينيى , ولكنى تماسكت , وقمت بكل شجاعة , ووضعت ثدىّ الأيمن على الجهاز بنفسى هذه
المرة . وهى جالسة أمام الشاشة والماوس فى يدها تحركه .
حضرتك قلتيلى : أنهى
ثدى يؤلمك ؟
قلت بصبر نفد : الأيمن
.
بعد ألتقاط الصور
للثديين من الأمام والجنب , ورغم أن الضغطات زادت ألما لى هذه المرة عن المرة الأولى
. وكأن الجهاز زادت عافيته , وأشتدت قوته . ولكنى تعاملت مع الموقف بصبر وصمت .
عادت البنت , وفتحت
بابا جديدا وقالت : أتفضلى .
دخلت حجرة الأطباء .
حجرة كبيرة وباردة ,
وبها العديد من شاشات العرض الكبيرة والأجهزة الصغيرة . تركت الوحش الأبيض الكبير
فى الحجرة السابقة , ودخلت عند وحوش كثيرة وصغيرة . عيناىّ تتابعان الشاشات فى
ترقب وذهول وخوف .
استلمتنى بنت جديدة
وقالت : أنا أيمان , ومعانا دكتور هناء ودكتور كريستين .
خفضت رأسى تحية لهن .
ولم أقول : أسمى صفاء .
دخلت وكأننى فى موقع
للتصوير ,و علىّ ألا أخطىْء كى لا يعيد المخرج المشهد من جديد ويتكرر الألم .
تمددت على السرير
الذى أشارت أليه البنت .
بنفس المعاملة وبنفس
الرقة السابقة .
ولكن الصمت وصل بى
لدرجة قصوى , فلم أفتح فمى أطلاقا , كنت أنفذ الأوامر فى صمت بالغ , وأحرك رأسى
يمينا أو يسارا أو أخفضها كأننى أصبت بصمت الآلة الجهنمية السابقة . كانت فقط تحرك
رأسها الكبير , وشفتاها قابضة على ثدى بقوة وتمتصه بعنف .
تقدمت أولا دكتورة
كريستين .
أخذت أتأمل هدوءها
وجمالها الرقيق , فتاة جميلة ورقيقة وبدون مساحيق , وشعرها مسدلا على كتفيها , يرقد فى صمت , وضعت جيلا أبيض على ثدى , وأخذت
تحرك مقبضا فى يدها , والصور تتوالى على الشاشة أمامها .
نظرت للشاشة بعض
الوقت من زاوية بجانب عينى اليمنى ,ولكنى تعبت , فأغمضت عينيى , وتركتها تفعل
ماتشاء , شعرت بسكينة وهدوء , وكأننى فى يد ربة السماء " الآلهة نوت " .
صور وراء صور , وصمت
وراء صمت .
والمقبض يضغط بقوة .
وأنا صامتة ومغمضة العينين ,
صحوت من غفوتى على
صوتها وهى تنادى : دكتورة هناء اتفضلى هنا شوية !
فتحت عينيىّ مزعورة ,
صوتها كان عاليا ومليئا بالرعب .
قامت الدكتورة هناء
من عند الجهاز البعيد ووقفت .
أخذت أتأملها .
كانت جميلة جدا ,
وملامحها دقيقة , وممشوقة القوام , وشعرها الطويل مسدلا على كتفيها فى هدوء
المحبين .
قلت فى داخلى : الله
, يارب أشوفك ياهاميس أنت ومى زيها .
ثم جلست مكان دكتورة
كريستين , بالقرب من صدرى , ووضعت جيلا أضافيا , وضغطت ضغطة قوية أكثر على الثدى
الأيمن . قلت : أى حاسبى , و شعرت بالرهبة والألم والخوف والفزع .
وحدثتنى :
أول مرة تكتشفى المرض
أمتى ؟
أمس يوم عيد ميلادى .
أول مرة تكشفى ؟
خفضت رأسى بالأيجاب ,
وبدأت دموعى تتساقط سهوا .
شعرت هى بخوفى وأضطرابى
.
الألم فين ياماما ؟
أشرت لها بيدى الى
ثدى الأيمن .
أخذت تضغط كثيرا
وبقوة , وتحاصر الثدى من جميع الجهات , وهى تسأل . وأنا أجيب بكلمات مقتضبة .
فيه حد فى العيلة
جاله هذا المرض من قبل ؟
لأ .
عندك أولاد ؟
نعم .
رضعتى طبيعى ؟
نعم .
عندك كام سنه ؟
50 .
أول مرة تكشفى ؟
نعم .
ليه ؟
رأيت نقطة دم منذ
عشرة أيام , ثم رأيتها بالأمس ثانية عدة نقاط .
أخذت تضغط , وتضغط .
وأنا أرتعب وأتألم , أرتعب وأتألم , ولم أغلق عينيىّ هذه المرة .
وأخذت أنظر للصور
التى تتوالى على الشاشة جوارى , نقط سوداء تظهر وتختفى ثم تعود للظهور , وهى
تطاردها بكل ضغطة . وكأن الطبيبة الرقيقة , أصبحت تلعب ( بلاى استيشن ) النقطة
السوداء تهرب منها , وهى تضغط على ثدى بقوة كى تعيدها الى الظهور .
وعيناىّ تؤلمانى من
النظر الى الشاشة بزاوية حادة .
والدكتورة كريستين
جلست جوار الدكتورة هناء تتابعان على الشاشة النقطة السوداء الهاربة .
" جلست الربة
أيزيس الى جوار أختها نفتيس عند رأسى , والأله تحوت رب العلم والحكمة يرفرف
بجناحيه حولهما , أنه طائر أبومنجل الجميل , يمد منقارة ويلتقط الصور .
رأيت الحجرة تمتلىْء
بكل الألهات الطيبات , والجميلة حتحور جاءت تتطلع فى وجهى وتضع يدها تحت رأسى ,
والربة نوت الأم فى السماء ترعاهم جميعا . أين أوزير الحبيب , وأبنه حورس الطفل
المخلص" .
دخلت فى حالة وجد
شديد , ومن داخلى البكاء يتصاعد وعيناىّ متصلبتان على الشاشة , أترقب ظهور النقطة
السوداء المراوغة , وبدأت من داخلى صلوات تتصاعد ," اللهم أماأكفينا شر اللى
مانطيق شره ,." وأمتلأت الحجرة بالترانيم والأيات والأدعية , وجاءت"
الطيبات الصالحات من أل البيت , كرم الله وجوههن جميعا ", وسمعت صوت التسابيح
والتراتيل وصلوات التهدج والأدعية والأستغفار ,وظهرت لى " أم النو ر "
واضحة فى سقف الحجرة ترقبنى بعينيها الطيبتين " . يالله لقد أفضت علىّ بنورك
ورحمتك , وملأت قلبى بأيمانك وحبك وقوتك , الله أكبر ."
سمعتها تتردد فى
المكان , بضغطة قوية , قلت على أثرها بصوت مرتفع : أى . ودخلت فى نشيج طويل من
البكاء .
ونزلت دموعى شكرا وعرفانا
لله سبحانه وتعالى , "الحى القيوم الذى لا تأخذه سنة ولا نوم وهو على كل شىء
قدير ".
قبضت الدكتورة هناء
بأناملها الرقيقة على النقطة السوداء وثبتتها على الشاشة وقالت مبتسمة : أنت خايفة
؟
حركت رأسى بمعنى : لأ
.
لأن الكلمات ماعادت
تسعفنى ولا تخرج الآن .
ثم سألتنى : الدم
بينزل من فتحة واحدة ولا أكثر من فتحة ,
ومن الثديين أم من ثدى واحد ؟
حركت رأسى بمعنى : لا
أعرف .
بتقولى الدم ظهر من
عشرة أيام , ثم ظهر بالأمس ؟
حركت رأسى بمعنى :
نعم .
ألتفتت نحوى بعينيها
, ويدها مازالت قابضة على النقطة السوداء الهاربة .
أنت شايفة النقطة
السوده دى ؟
حركت رأسى بمعنى :
نعم .
دى بنسميها ( فأر
الثدى ) ولازم نشيل القناة اللبنية والورم ضرورى , كى لا يحدث مانخشاه فى المستقبل
( الورمa4 وأخشى أن يصل الى 5 أو 4c ( هنا يكمن الخطر .
حركت رأسى بمعنى :
نعم .
أنت خايفة ؟
حركت رأسى بمعنى : لا
.
" كيف أخاف" .
وأنا بين يدى الله
الطاهرة , وطيبة ونقاء الألهات الجميلات يملأن الحجرة حولى , وأم النور , كانت ترتل التراتيل صامتة , ورائحة البخور
تملأ أنفى , وصوت الذكر والحضرة يطن فى أذنىّ , وما كان يشغلنى عن ألمى هو جمالهن
وحبى لهن جميعا , وكأننى دخلت "بيت الحياة" كى أتعلم منهن الفنون
والمهارة والخير والعدل والجمال .
يالله !
أين يسكن هذا الجمال وكل هذه الروعة ؟
وكل ما بالخارج موحش وكئيب ولا يبعث على
الشفافية أو التفاؤل والفرح !
والذى أراه داخل هذا المعبد التكنولوجى الحديث ,
والربات الجميلات جالسات أمام الأجهزة , يحركن بأناملهن الرقيقة المقبض , والشاشة
تظهر عليها الصور ."
وبعد القبض على
النقطة السوداء الهاربة , وتثبيتها فى صورة مكبرة على الشاشة , وبعد الترتيل
والتكبير والذكر والصلوات . نظرت نحوى ثانية الربة الجميلة الدكتورة هناء بجمالها
الأخاذ , وشعرها الأسود الطويل المسدل على كتفيها , والذى يتحرك مهفهفا كلما حركت
رأسها .
أخذت أنظر فى أصابعها
باحثة عن خاتم زواج أو خطوبة . لا يوجد .
لمن كل هذا الجمال
أذن ؟
أنهن كاهنات المعبد
العذراوات ؟
وكذلك بفضول نظرت نحو
دكتورة كريستين مثلها تماما .
الربات الجميلات
عذراوات .
ياألهى .
حتى البنت الواقفة
هناك عند الشاشة الآخرى والتى قدمت لى نفسها بأسم أيمان وقالت : أنا أيمان ومعانا
النهاردا دكتور هناء ودكتور كريستين , وكان ذلك عند بداية دخولى الحجرة منذ ساعة
تقريبا .
" يا ألهى , رب
السموات والأرض . "أياك نعبد وأياك نستعين , أهدنا الصراط المستقيم , صراط
الذين أنعمت عليهم .." أنا عبدتك الفقيرة والحزينة والتى تشعر بالألم والصمت
, أحبك كثيرا على كل نعمك وعطياك التى وهبتنى أياها , وكأنك تصيب عبدك المؤمن
وتختبر أيمانه , فشكرا على اختبارك لى , وأختيارى فى هذه المحنة العصيبة , شكرا يا
أرحم الراحمين .
ظللت فى هذه الحجرة لمدة ساعة كاملة , ولم أشعر
خلالها برهبة الألة الجهنمية الضخمة البيضاء السابقة , التى كانت تلتهم ثدى بشراسة
وقوة وعنف , هنا على العكس تماما هدوء , وصمت , وسكينة , وعمل دؤب ,. كأننى
فى" قدس الأقداس ."
عندما طلبت منى دكتورة هناء الجلوس والقيام
بتعصير ثدى الأيمن حتى ترى مخرج الدم .
شعرت بالبرد , ولاحظت
أن التكييف على درجة عالية من البرودة , لماذا لم أشعر بهذا البرد من قبل ؟
أعتدلت فى جلستى ,
وضغطت بقوة على ثدى هذه المرة بكلتا يدىّ , فأنفجر الدم خارجا .
أشارت بأصبعها على
مخرج الدم , وقالت للدكتورة كريستين :
الدم يخرج من فتحة واحدة , الحمد لله .
وهى تسجل على شاشة
الجهاز .
وجاءت أيمان ومدت لى
يدها بمناديل ورقية كثيرة . كى أقوم بمسح الدم والجيل العالق بثديىّ . وأنزلتنى برقة
وعذوبة من على السرير . كنت أشعر كأننى طفلة مدللة , تنزلها أمها من على سريرها
بنعومة وحب .
وأخرجتنى من الباب
الذى دخلت منه . وأنا أبتسم للدكتورة هناء وأتأمل وجهها الجميل لآخر مرة .ثم قالت
هى ودكتورة كريستين فى نفس واحد :مع السلامة .
وفرغت الحجرة عند
خروجى من جميع ساكنيها , والذين هبطوا من السماء والألهات والأولياء الصالحين وأل
البيت وأم النور , رأيتها حجرة صماء تعود الى حالتها الأولى . وأضواء الشاشات
تتبدل وتتلون .
أغلقت الباب خلفى
سريعا , وخرجت مذهولة .
من الصعب تسجيل المشاعر بعد حدوثها .
ولكن كيف لى أن أمشى
بالورقة والقلم كى أسجل أولا بأول ؟
خرجت من الباب ,
ودخلت الحجرة التى بها ملابسى , ونظرت أليها للمرة الثانية .
مرة وأنا أخلعها ,
ومرة وأنا أرتديها .
والمرآة من خلفى ومن
أمامى , بحلقت فى جسدى هذه المرة بقوة وتمعن وكأننى ربما أودع قريبا قطعة منه .
حسب ماتشير الأشعة والتحاليل
.
لم أنظر لوجهى ولا
لعينيىّ .
نظرت لثدى , ثم نزلت
الى بطنى وفخذىّ .
ماهذا الترهل الذى
أصابهما ؟
وكأننى أتعرف على
جسدى لأول مرة منذ سنين طويلة .
حقيقى منذ سنين مضت
لم أعد أنظر أليه ولا أهتم به , ولا أدرك وجوده وأهتم به , وكأنه صار عبئأ ثقيلا
علىّ وأحمله على مضدد وليس بجمال وأنوثة .
سألنى صديق ذات مرة :
أين أنوثتك ؟
قلت يومها وأنا اضحك
: راحت مع هنادى فى الوبا .
اليوم فقط أتذكر أن
لى جسدا وعلىّ رعايته !
كيف تركته بهذا الشكل
؟ فبدا لى مخيفا وموحشا وبعيدا عنى !
عندما شعرت بالذعر من
نفسى , بعد رؤية الألهات الجميلات بالداخل , أرتديت ملابسى بخزى وعار من القبح وعلى
عجل , وخرجت الى الشارع , وأنا أحاول جمع أشلاء روحى التى تناثرت .
وضعت جسدى المكروه\
الحبيب , فى أول تاكسى صادفنى , وأنا أحوط ثدىّ بذراعى فى حنان الأم ,و كأنها فجأة
أكتشفت أن لديها طفلا مريضا وعليها رعايته ,فأخذت تضم الى صدرها طفلها الصغير المريض
, وهى تتمتم له بالأدعية وبالشفاء , والدعاء لرب العالمين أن ينقذه .
دخلت البيت .
كان باردا , وصامتا ,
ووحيدا مثلى , أضئت جميع الأنوار , وفتحت التليفزيون على قناة( مزيكا )ورفعت الصوت
عاليا .
كنت أريد أن أشعل
الموسيقى والغناء بالبيت , مثلما فعلت فى قصة " امرأة تتزين " منذ سنين
.
ولكن الأشتعال كان
مختلفا فى القصة .
كان الأشتعال ,
اشتعال الشهوة و الوحدة والأنوثة المحترقة , وقهر المارد الذى ينهش قلبى .
أما اليوم فالأشتعال
, أشتعال الألم والمرض والفراق , والشعور بالخيبة والعار لجسدى المهمل منذ سنين .
وتذكرت صديقتى "
نعمات البحيرى " عندما شعرت بالألم لأول مرة , وكيف أكتشفت المرض ؟ قالت لى
يومها وهى تحكى : أكتشفت بقعة دم فى السوتيان وأنا أعلق ستارة الشقة الجديدة .
كانت تقصد شقة أكتوبر
بعد أن تركت شقة الشروق .
وأنا أثناء زيارتها
بعد أجراء العملية الجراحية وأستئصال الثدى الأيمن لها .
تذكرت ضحكتها وعذابها
وألمها ووحدتها وجملتها الشهيرة والمؤلمة :" أحنا ياحبيبتى سيدات خارج الدعم
".
دخلت المطبخ وقررت أن
أصنع طعاما فاخرا للبنتين خصوصا ونحن على أعتاب عام جديد 2012 .
فى الصباح .
كنت أتمنى أن أخبر
احدا من زميلاتى الاتى ترصصن حولى فى الشمس بعد أنتهاء اليوم الدراسى .
كن جميلات وهادئات عن
ذى قبل , جلسنا فى ود المحبين , لا رئيس ولا مرؤس , كلنا أخوة وأصدقاء .
وجميعا على أختلافهن
فى هذا اليوم جائن الى جوارى وجلسن .
وكأن هناك هاجس
بداخلهن أننى أشعر بالألم وأخبىْ عنهن شيئا خطيرا .
وأنا حائرة أخبر من ؟
وأقول لمن تعال معى ؟ وأحمل من عبْء ألمى ؟
من أحكى معها أو معه وأفضفض ؟
لا أحد .
جميعهن ينظرن لى
ويجلسن جوارى , ولكن أشعر أننى بعيدة , بعيدة , ووحيدة , وحيدة فى عالم بعيد
ومختلف .
من الذى أوصلنى الى
هذا التوحد ؟
وهذا البعد ؟
وهذا الأنفصال ؟
عقلى!
ثقافتى!
كتباتى!
أرادتى !
المكان !
الجفاء الداخلى !
الهروب العاطفى !
أختلاف الرأى والمذهب
والفكر والخيارات المختلفة !
" لماذا لم
تتألف قلوبنا أو أرواحنا منذ ثورة 25 يناير 2011" وانا أفسر لهم الأحداث
وأحلل لهم المقالات التى أقوم بقراءتها , والبرامج التى أشاهدها .
وفى الأستفتاء على
الدستور وضحت لهم لماذا نقول : لا
وماذا سيحدث لو قلنا
: نعم ؟
أنا قلت : لا , وهم قالوا : نعم .
وفى أنتخابات مجلس
الشعب , أختلفنا وتناقشنا وكل واحد دافع عن أختياره من وجهة نظره .
جميعهم أختاروا "حزب
الحرية والعدالة "ماعدا المدرس المسيحى أختار الوفد , وأنا أخترت"
الكتلة المصرية" .
ويومها قالوا لى :
تختارى حزب المسيحين , عايزاهم يحكموا البلد , عايزه ساويرس ينتصر ؟
ابتسمت , وقلت :
أنتوا أختارتوا الأسلاميين , بكرة تشربوا , وعلى العموم الكتلة المصرية مش مسيحين
بس ياجهلة .
منذ أندلاع ثورة 25
يناير 2011 .
وأنا على أختلاف معهم
ومهما حاولت من تفسير وشرح وتوضيح وتعليق على الأحداث وما يأتى على "الفيس
بوك وتويتر واليوتيوب" وهم أصبحوا فى وادى وأنا فى وادى آخر .
ورغم أيمانى"
بالتعددية والحرية الفكرية وأرائى الليبرالية" , الا أنهم أصبحوا يضعوننى فى
مصاف الأعداء , وأشعر بنظرات العداء الغير مبررة والخفية .
وبنفذون أوامرى فى
العمل على مضدد وبالعافية .وأحيانا أغضب , وأحيانا أصمت , وأقول لنفسى : صاحب
الوعى هو الأكبر .
فأنصرف عنهم , وأجلس
فى حجرتى وحيدة .
لقد تغيرت نظرتهم
تجاهى من صديقتهم المدرسة المحببة للجميع ويشاوروننى فى كل كبيرة وصغيرة , ويأخذون
برأى , الى المديرة البعيدة والمختلفة والتى تصدر لهم الأوامر ,وكثيرا ما مررت بهم
يتحدثون حتى يقطعوا الحديث عند مرورى .
وأعلنوا العصيان بعد
أضراب المعلمين الذى كنت أرفضه , لأنه ليس وقته ولا تاريخه .
أنا أرى أن الوقت وقت
عمل , وهذه هى الوطنية فى ظل الظروف التى تمر بها البلاد , والثورة هى العودة الى
العمل , وليس تعطيله , وأن التغير يبدأ من الداخل أولا .
قاطعونى .
وأنفصلوا عنى .
وأعلنوا العصيان .
حتى صديقتى الودودة
بينهم , أصبح حبل الود مختلف . هى تشعر أننى أجىءعليها كثيرا .
وأنا أضحك واقول لها
: أنت حبيبتى .
وخرجت من المدرسة مع
نفسى .
أسير فى الشوارع
والطرقات هائمة , أبحث عن عنوان (كايرو سكان للأشعة ) فى منطقة المهندسين الفخمة ,
سكن الأثرياء بأبراجها العالية ومحلاتها الجميلة .
سرت فى شارع جامعة
الدول العربية ,
ثم انحرفت يسارا من
شارع الشهيد البطل أحمد عبد العزيز , ودخلت شارع الشهيد عبد المنعم رياض . شهيد
وراء شهيد ..!
بهرنى مابهرنى ,
وهزنى ماهزنى !
وكلما أقتربت خطواتى
من المكان , تثقل قدماىّ
, وأشعر أننى أجرجهما الى أن دخلت " برج
الأطباء "
ووقفت أمام الأسانسير
, هرب الدم منى , وأثلجت أطرافى , وشعرت برعشة عنيفة تهزنى هزا , وأنا أمام الباب
فى الدور 14 .
فى الليل .
ليلة رأس السنة .
ونحن نلتهم البطة
التى أعددتها للعشاء الفخم , ورائحة الملوخية الشهية تملأ البيت , والمحشى اللذيذ
أمامنا , جلست مع البنتين فى صمت وأرتباك , هل أحدثهما عما حدث اليوم , وأشرح لهما
الموقف ؟ أم أواصل الصمت ؟!
واصلت الصمت .
والأكل , وسماع
الأغانى من قناة (مزيكا زووم) .
وضحكت مى وقالت :
ماما أخلاقها باظت بتسمع أغانى . أومال فين" منى الشاذلى , وأحمد المسلمانى ,
ويسرى فوده ومنى وشريف وهالة شو وبرامج
التوك شو " ياماما ؟
رن الموبايل , وجدت
على الطرف الآخر أخى الأصغر يحدثنى : كل سنة وأنت طيبة ياوزة , عيد ميلاد سعيد .
ضحكت بمرارة , وأنا
أحبس دموعى : وأنت طيب , لسه فاكر دا كان من يومين !
كان نفسى أحكى له ,
أشعره بألمى وخوفى , أستنجد به , أفضفض معه , ولكن مبرراته وأعذاره منعتنى .
وقلت له : سلام . حتى
أبى على غير عادته أتصل بى وسألنى بلهفة : صحتك عاملة أيه ؟ ضحكت وقلت له مداعبة :
عاملة محشى , أتفضل معانا , ضحك . وأغلقت الخط .
وحدى !
دخلت حجرتى بعد
العشاء مباشرة , ونمت نوما عميقا ومهزوزا .
لاأم لى أحكى لها .
ولا أخت لى أفضفض
معها .
ولا صديقة أذهب أليها
.
ولا حبيب أناجيه
ويمسح بكفه الحنون على رأسى , وهو يضحك دى شكة دبوس , أنت خايفة , ثم يأخذنى فى
حضنه حتى الصباح .
لا أحد , بمفردى .
أغطس فى نوم عميق
ومهزوز .
كيف أجرح قلب طفلتين
بالألم للمرة الثانية , بعد وفاة أبيهما .
ورحت فى نوم عميق .