الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012

الفصل الثانى من حافة الروح


فأر الثدى
 

   

      بهذا الشكل لن تكتمل رواية ( ستى تفاحة ) !

لأسباب شخصية , أو مرضية !

 

الكلمات تهرب وتتدفق بشكل غير منتظم .

بقعة الدم الآخرى التى ظهرت اليوم , جعلتنى أتوجس خيفة , وأحاول أعادة قراءة الحياة مرة أخرى , وبشكل مختلف تماما .

هل الشعور بالخطر يعرضنا لرؤية العالم من جديد ؟ وكأننا نودعه , فنصبح أنسانين أكثر من الازم , وحنونين فوق مايجب أن يكون الحنان , أو الحنية بشكل أفضل !!

 

 

      عندما حلمت , الحلم الغريب والذى صحوت بعده على رنين الموبايل , وأخى يخبرنى بوفاة "أبن عمتى " الشاب  شعرت لحظتها أن الدور - قد أتى - "علىّ" , وكل يوم يتوغل هذا الأحساس بداخلى , أننى ذاهبة حيث ذهب الأهل والأصدقاء .

بعد الرواية , قبلها ! ولكن مايؤرقنى الآن هو كيفية مرور الحياة بهذه السرعة والسهولة ؟!

 

الموت قرب أذنى !

 

هل أنا بفعلتى هذه أبعدت الحزن عنهم ؟!

 

ذهبت الى الطبيب بمفردى فى العيادة الفخمة والتى كل شىء فيها يشعرك بحقارة مستواك , وضألة مواردك .

دفعت ثمن الكشف على مضدد , وأنا أحسب فى رأسى , كيف سأقضى بقية الشهر وقد أقتطعت جزءا كبيرا للكشف والأشعة .

 

كانت أسنانه البيضاء , تستفزنى وهو يضحك : أنا حجزت لك من العيادة , عشان حضرتك تستفيدى بالخصم .

 

كنت أريد أن أقول له : هل أنا التى تستفيد بالخصم ؟

 أم سيادتكم تستفيد بالعمولة على كل مريض .

ولكنى بلعت الكلام الذى توقف فى حلقى .

نحن نمرض , وهم يعيشون الرفاهية والحياة الرغدة على حساب شقؤنا .

طوال الطريق , وأنا أتبصص على الأبراج الشاهقة , وأسماء المكاتب والمحلات ( خان الذهب, التكية , تكا , كنتاكى , ماكدونز , معامل مؤمنة كامل , معامل البرج .. الخ )

محلات الرفاهية ليست لنا , نحن لنا معامل التحاليل والأشعة !

 

صوت البنت الرقيق وهى تنادى على أسمى , أخرجنى من حالة التأمل الى حالة الفزع , كنت أجرجر قدمىّ وأنا داخلة الى حجرة الأشعة ,كدت أسقط على السراميك الفخم ونظافته المبالغ فيها , وأنا أجرجر ساقى المتعبتين وعينيي الخارجتين من رأسى  .

فضحكت البنت : على مهلك يامدام .

دخلت .

ودخلت وراءها فى صمت , كل شىء فى الحجرة يشعرنى بالخوف والقلق , باب وراء باب وراء باب  ,وكأننى دخلت قصرا مسحورا من الحكايات القديمة , أبحث عن الجميلة التى خطفها الوحش .

الوحش !

يقف الآن أمامى شامخا وعبيطا .

آلة بيضاء نظيفة وكبيرة , لها فم كبير معدنى , وألوان الطيف تتقلب داخله ( أحمر ,أخضر , أزرق , أبيض , بنفسج , برتقالى ..) ثم تعود الألوان وتتبدل هكذا دواليك .

وانا أرقبها بزعر , مثل الفأر الذى سقط فى المصيدة , والقط يقف على بابها فى انتظار ألتهامه.

عيناىّ تتجولان فى المكان .

كل شىء نظيف وجميل ومرتب بعناية فائقة .

حتى البنات الجميلات داخل المكان . لقد تم اختيارهن بعناية ( رائعات وجميلات وأنيقات ) يعاملن المرضى بود وحب مبالغ فيه , طبعا أنا مقتنعة أن كل هذا من المرتب الضخم الذى يقبضونه من ثمن أمراضنا , وأن كل هذا اللطف والذوق صناعى ومدفوع الثمن مقدما , حتى الحمّام جميل ونظيف .

لو نملك كل هذه الرفاهية والجودة  فى حياتنا العادية, هل كنا نمرض ؟

ما أقبحنا !

أفقت على صوت البنت الحنون , وهى تسألنى عن بياناتى , كى تسجلها على الكمبيوتر , مثلما فعلت فتاة الريسيبشن.

الأسم , السن , العنوان , رقم التليفون , سبب الزيارة .

 

تشعر وكأنك أمام وكيل النيابة للتحقيق معك عن سبب أهمالك لصحتك , وأنت مذنب , وعليك أن تجيب بكل حرارة وصدق , أنك لم تفرط فى صحتك , وأن ما حدث هو بالصدفة نتيجة الأنشغال بالأولاد وأكل العيش الصعب , ولكن هل تقدر أن تقول لهم أنكم السبب المباشر فى ضياع صحتنا أيها الكبار العظماء أصحاب رؤوس الأموال المتضخمة والمكتنزة فى بنوك سويسرا و أوربا ؟

أفقت على صوتها .

س : مدام ماسبب الزيارة ؟

ج   : ظهور بقعة دم جديدة للمرة الثانية.

س : هل هذه أول مرة تـأتى لزيارتنا ؟

ج    : نعم .

س  : لماذا تأخرتى كل هذا الوقت ؟

ج    : كنت لا أعرف خطورة المرض.

س  : ما هو المرض الذى شعرتى به ؟

ج    : لا اعرف .

 

وهكذا أسئلة كثيرة , وقد سألتنى مثلها تماما فتاة الريسبشن عند دخولى وسجلته أمامها على الكمبيوتر .

هى تسأل وأنا أجيب بأقتضاب وعفوية .

 

وبعد تسجيل البيانات . لاحظت أن أسمى ظهر بالأنجليزية على شاشة الوحش الأبيض الضخم الذى ينتظرنى بفمه الكبير كى يلتهمنى به .

صوت البنت يأتى رقيقا .

- حضرتك أتفضلى وراء الباب , غيرى ملابسك .

ومدت يدها بقميص أزرق مفتوح من الأمام .

لقد بهرنى اللون وجماله ونظافته , فهو ليس أزرق صافى , ولكنه مخلوط بالأخضر , فأعطى لونا جديدا ( أزرق مخضر ) لون صناعى , بديع ومريح للنفس , ظللت أنظر أليه كلما زاد أضطرابى  , أشعر براحة عميقة وأتنفس بأستقرار وأمن , حتى الألوان يعرفون كيف يختارون اللون المناسب للحالة النفسيةو المناسبة فى ذلك الوقت , كل شىء مرتب وبحساب ودقة .

دخلت وراء الباب الذى أشارت اليه .

حجرة صغيرة لتغير الملابس , أو ممر ضيق يفصل بين حجرة الأشعة والحجرة التى بها الأطباء .

عدت بعد أن أبدلت ملابسى , ونظرت طويلا فى المرآة التى أمامى والتى ورائى , ورأيت نفسى على حقيقتها , عارية تماما , كما ولدتنى أمى , جميلة ونظيفة , ومغسولة من الهموم والحزن , ومفصولة عن العالم الخارجى بكل مشاغلة وأحداثه وثورته .

كادت عيناىّ أن تدمع !

ولكن أجلت البكاء بكل شجاعة , وقلت فى نفسى  :

 سوف أواجه الألم بكل قوة وأهزمه مهما كانت شراسته .

وبعزيمة وقوة ألهية لا أعرف منبعها " كان أيمانى بالله عظيما فى هذه اللحظة ." وتذكرت قوله سبحانه وتعالى : أنا عند حسن ظن عبدى بى ." فزادت قوتى قوة على قوة .

 

كانت نفسى مع نفسى !

 

وهذا ربما أعطانى الشجاعة الكاملة كى لا أنهار .

جميع المرضى مع زويهم وأقاربهم , ألا أنا بمفردى تماما .أتحمل الألم , وأدارى عن الآخرين .

كثيرا ما أفعل هذا .

أبتسم بطيبة وحب , وأقول : الحمد لله .

 

وقفت أمام الجهاز الوحش الأبيض , والألوان المتقلبة , داخله . كنت أقصر من الجهاز , فضحكت بمرارة وقلت لها : معلش أصلى قصيرة شوية .

ربتت على كتفى بحنان : ولا يهمك يامدام , احنا بس نحاول ندخل الثدى شوية صغيرة على لسان الجهاز , ايوا كدا .

ثم ضغطت بالشفة العليا للجهاز , فألتهم الثدى داخله .

 

 كانت الضغطة قوية وعنيفة , مثل طفل جائع ألتهم ثدى أمه بعد غياب طويل . شعرت لحظتها بالضغطة والعنف , وحنان الأمومة , فضحكت , وداريت الألم , ومسحت بأطراف أصابعى الدمعة التى فرت من عينيىّ .

 

كنت أنوى أن أربت بيدىّ على رأس الجهاز مثلما كنت أفعل مع أبنتى الصغيرة وأغنى لها الأغانى الجميلة :يالله تنام ريما , يالله يجيها النوم , يالله نجيها العوافى كل يوم بيوم .

ولكن جاء صوت البنت عاليا : لو سمحتى , نحط أيدينا جنبنا , ونرجع رأسنا لورا .

أنزلت ذراعى خوفا وطواعية فى أدب . وهى تدير الآلة الجهنمية الضخمة البيضاء .

الآلة تعتصر ثدى يمينا ويسارا , وأنا أشعر بألم الضغطة ولذة الأعتصار . والألوان بدأت تتبدل ( بنفسج , أبيض و أزرق و أخضر و أحمر ..) وعيناى تتابع بهجة الألوان ومثبتتان على أسمى المكتوب أسفل الآلة بالحروف الأنجيليزية "safaa abd elmenem"

تعجبت كثيرا , فأسمى كما أكتبه على صفحة " الفيس بوك , والياهو والتويتر ", وما ينقصنى الآن هو وجود صورتى المبتسمة فيها .

الماوس فى يد البنت , وهى تحركه , والجهاز يعمل فى آلية تامة , من عصر ,وألتهام , وتصوير ,وألوان .

وبعد أن ألتهم الثدى لدقائق , وشفطه , وصوره صور عديدة من جميع الجوانب , توقف وعاد الى طبيعته الأولى وفتح فمه .

فأخرجت البنت الثدى الأيمن , وأدخلت الثدى الأيسر .

وأبتسمت لى : معلش يامدام , ضغطة بسيطة كمان , أى ثدى يؤلمك ؟

قلت لها : الأيمن .

امسكت ثدى بيديها وبقوة رفعته على الجهاز . فضغط بشفتيه وألتهمه . الضغطة الآن أقوى وأعنف , وكأن الجهاز أسترد عافيته بعد أمتصاص الثدى الأول .

كان الألم شديدا , والضغطة قوية هذه المرة , والدموع جفت فى عينيى , والخوف زادت مساحته .

نادتنى البنت من أمام الشاشة : ننزل أيدينا جنبنا , ونرجع راسنا لورا .

وانا أطيع أوامرها مثل التلميذ الخائب الذى رسب فى الأمتحان والمعلمة تعاقبه .

أيوه كدا .

وعادت تحرك الماوس , والجهاز يعمل بهمة ونشاط , والألوان تتبدل . وأنا أنظر الى أسمى المكتوب بحروف أنجليزية .

بعد الأنتهاء من التصوير .

وألتقاط بعض الصور من جميع الزوايا والجوانب .

قامت البنت , وأطفأت الجهاز ,

وأجلستنى على الكرسى بعطف وحنان ومودة ورحمة .

كنت مرهقة تماما من الضغطة الأخيرة وعنفها , والبرد بدأ يتسرب الى أطرافى وجسدى العارى , فنحن فى فصل الشتاء , وشهر ( كيهيك ) بارد جدا , أقصد شهر ديسمبر بارد جدا .

حضرتك استنى هنا شوية .

كنت أطيع الأوامر , وكأننى مذنبة أو مغيبة تماما عن الوعى , أسير تحت تنويم مغناطيسى , ونسيت أننى مديرة مدرسة بكل مافيها من أوامر وتحكمات .

أخذت أنظر الى الآلة الجهنمية البيضاء بغيظ شديد , ولون القميص يأخذ ألوان متعددة ومختلفة , حسب اللون الصادر من الجهاز , لقد أعتصر ثدى عصرا , وكأن الوحش قبض على الجميلة وأمتصها حتى آخر قطرة فيها . غابت البنت لدقائق . وأنا أتابع حركة الألوان وتبدلها .

ثم دخلت وقالت : معلش يامدام , هناخد كام صورة تانى من الأمام والجنب. .

كادت الدمعة تطفر من عينيى , ولكنى تماسكت , وقمت بكل شجاعة , ووضعت ثدىّ الأيمن على الجهاز بنفسى هذه المرة . وهى جالسة أمام الشاشة والماوس فى يدها تحركه .

حضرتك قلتيلى : أنهى ثدى يؤلمك ؟

قلت بصبر نفد : الأيمن .

بعد ألتقاط الصور للثديين من الأمام والجنب , ورغم أن الضغطات زادت ألما لى هذه المرة عن المرة الأولى . وكأن الجهاز زادت عافيته , وأشتدت قوته . ولكنى تعاملت مع الموقف بصبر وصمت .

عادت البنت , وفتحت بابا جديدا وقالت : أتفضلى .

 

 

دخلت حجرة الأطباء .

 

حجرة كبيرة وباردة , وبها العديد من شاشات العرض الكبيرة والأجهزة الصغيرة . تركت الوحش الأبيض الكبير فى الحجرة السابقة , ودخلت عند وحوش كثيرة وصغيرة . عيناىّ تتابعان الشاشات فى ترقب وذهول وخوف .

استلمتنى بنت جديدة وقالت : أنا أيمان , ومعانا دكتور هناء ودكتور كريستين .

خفضت رأسى تحية لهن . ولم أقول : أسمى صفاء .

دخلت وكأننى فى موقع للتصوير ,و علىّ ألا أخطىْء كى لا يعيد المخرج المشهد من جديد ويتكرر الألم .

تمددت على السرير الذى أشارت أليه البنت .

بنفس المعاملة وبنفس الرقة السابقة .

ولكن الصمت وصل بى لدرجة قصوى , فلم أفتح فمى أطلاقا , كنت أنفذ الأوامر فى صمت بالغ , وأحرك رأسى يمينا أو يسارا أو أخفضها كأننى أصبت بصمت الآلة الجهنمية السابقة . كانت فقط تحرك رأسها الكبير , وشفتاها قابضة على ثدى بقوة وتمتصه بعنف .

تقدمت أولا دكتورة كريستين .

أخذت أتأمل هدوءها وجمالها الرقيق , فتاة جميلة ورقيقة وبدون مساحيق , وشعرها مسدلا على كتفيها  , يرقد فى صمت , وضعت جيلا أبيض على ثدى , وأخذت تحرك مقبضا فى يدها , والصور تتوالى على الشاشة أمامها .

نظرت للشاشة بعض الوقت من زاوية بجانب عينى اليمنى ,ولكنى تعبت , فأغمضت عينيى , وتركتها تفعل ماتشاء , شعرت بسكينة وهدوء , وكأننى فى يد ربة السماء " الآلهة نوت " .

صور وراء صور , وصمت وراء صمت .

والمقبض يضغط بقوة . وأنا صامتة ومغمضة العينين ,

صحوت من غفوتى على صوتها وهى تنادى : دكتورة هناء اتفضلى هنا شوية !

فتحت عينيىّ مزعورة , صوتها كان عاليا ومليئا بالرعب .

قامت الدكتورة هناء من عند الجهاز البعيد ووقفت .

أخذت أتأملها .

كانت جميلة جدا , وملامحها دقيقة , وممشوقة القوام , وشعرها الطويل مسدلا على كتفيها فى هدوء المحبين .

قلت فى داخلى : الله , يارب أشوفك ياهاميس أنت ومى  زيها .

ثم جلست مكان دكتورة كريستين , بالقرب من صدرى , ووضعت جيلا أضافيا , وضغطت ضغطة قوية أكثر على الثدى الأيمن . قلت : أى حاسبى  , و  شعرت بالرهبة والألم والخوف والفزع .

 

وحدثتنى  :

 

أول مرة تكتشفى المرض أمتى ؟

أمس يوم عيد ميلادى .

أول مرة تكشفى ؟

خفضت رأسى بالأيجاب , وبدأت دموعى تتساقط سهوا .

شعرت هى بخوفى وأضطرابى .

الألم فين ياماما ؟

أشرت لها بيدى الى ثدى الأيمن .

أخذت تضغط كثيرا وبقوة , وتحاصر الثدى من جميع الجهات , وهى تسأل . وأنا أجيب بكلمات مقتضبة .

فيه حد فى العيلة جاله هذا المرض من قبل ؟

لأ .

عندك أولاد ؟

نعم .

رضعتى طبيعى ؟

نعم .

عندك كام سنه ؟

50 .

أول مرة تكشفى ؟

نعم .

ليه ؟

رأيت نقطة دم منذ عشرة أيام , ثم رأيتها بالأمس ثانية عدة نقاط .

أخذت تضغط , وتضغط . وأنا أرتعب وأتألم , أرتعب وأتألم , ولم أغلق عينيىّ هذه المرة .

وأخذت أنظر للصور التى تتوالى على الشاشة جوارى , نقط سوداء تظهر وتختفى ثم تعود للظهور , وهى تطاردها بكل ضغطة . وكأن الطبيبة الرقيقة , أصبحت تلعب ( بلاى استيشن ) النقطة السوداء تهرب منها , وهى تضغط على ثدى بقوة كى تعيدها الى الظهور .

وعيناىّ تؤلمانى من النظر الى الشاشة بزاوية حادة .

والدكتورة كريستين جلست جوار الدكتورة هناء تتابعان على الشاشة النقطة السوداء الهاربة .

 

" جلست الربة أيزيس الى جوار أختها نفتيس عند رأسى , والأله تحوت رب العلم والحكمة يرفرف بجناحيه حولهما , أنه طائر أبومنجل الجميل , يمد منقارة ويلتقط الصور .

رأيت الحجرة تمتلىْء بكل الألهات الطيبات , والجميلة حتحور جاءت تتطلع فى وجهى وتضع يدها تحت رأسى , والربة نوت الأم فى السماء ترعاهم جميعا . أين أوزير الحبيب , وأبنه حورس الطفل المخلص" .

دخلت فى حالة وجد شديد , ومن داخلى البكاء يتصاعد وعيناىّ متصلبتان على الشاشة , أترقب ظهور النقطة السوداء المراوغة , وبدأت من داخلى صلوات تتصاعد ," اللهم أماأكفينا شر اللى مانطيق شره ,." وأمتلأت الحجرة بالترانيم والأيات والأدعية , وجاءت" الطيبات الصالحات من أل البيت , كرم الله وجوههن جميعا ", وسمعت صوت التسابيح والتراتيل وصلوات التهدج والأدعية والأستغفار ,وظهرت لى " أم النو ر " واضحة فى سقف الحجرة ترقبنى بعينيها الطيبتين " . يالله لقد أفضت علىّ بنورك ورحمتك , وملأت قلبى بأيمانك وحبك وقوتك , الله أكبر ."

 

سمعتها تتردد فى المكان , بضغطة قوية , قلت على أثرها بصوت مرتفع : أى . ودخلت فى نشيج طويل من البكاء .

ونزلت دموعى شكرا وعرفانا لله سبحانه وتعالى , "الحى القيوم الذى لا تأخذه سنة ولا نوم وهو على كل شىء قدير ".

قبضت الدكتورة هناء بأناملها الرقيقة على النقطة السوداء وثبتتها على الشاشة وقالت مبتسمة : أنت خايفة ؟

حركت رأسى بمعنى : لأ .

لأن الكلمات ماعادت تسعفنى ولا تخرج الآن .

ثم سألتنى : الدم بينزل من فتحة واحدة ولا أكثر من فتحة  , ومن الثديين أم من ثدى واحد ؟

حركت رأسى بمعنى : لا أعرف .

بتقولى الدم ظهر من عشرة أيام , ثم ظهر بالأمس ؟

حركت رأسى بمعنى : نعم .

ألتفتت نحوى بعينيها , ويدها مازالت قابضة على النقطة السوداء الهاربة .

أنت شايفة النقطة السوده دى ؟

حركت رأسى بمعنى : نعم .

دى بنسميها ( فأر الثدى ) ولازم نشيل القناة اللبنية والورم ضرورى , كى لا يحدث مانخشاه فى المستقبل

  ( الورمa4  وأخشى أن يصل الى 5 أو 4c ( هنا يكمن الخطر .

حركت رأسى بمعنى : نعم .

أنت خايفة ؟

حركت رأسى بمعنى : لا .

 

 

     " كيف أخاف" .

 

وأنا بين يدى الله الطاهرة , وطيبة ونقاء الألهات الجميلات يملأن الحجرة حولى , وأم النور  , كانت ترتل التراتيل صامتة , ورائحة البخور تملأ أنفى , وصوت الذكر والحضرة يطن فى أذنىّ , وما كان يشغلنى عن ألمى هو جمالهن وحبى لهن جميعا , وكأننى دخلت "بيت الحياة" كى أتعلم منهن الفنون والمهارة والخير والعدل والجمال .

 

يالله !

 أين يسكن هذا الجمال وكل هذه الروعة ؟

 وكل ما بالخارج موحش وكئيب ولا يبعث على الشفافية أو التفاؤل والفرح !

 والذى أراه داخل هذا المعبد التكنولوجى الحديث , والربات الجميلات جالسات أمام الأجهزة , يحركن بأناملهن الرقيقة المقبض , والشاشة تظهر عليها الصور ."

وبعد القبض على النقطة السوداء الهاربة , وتثبيتها فى صورة مكبرة على الشاشة , وبعد الترتيل والتكبير والذكر والصلوات . نظرت نحوى ثانية الربة الجميلة الدكتورة هناء بجمالها الأخاذ , وشعرها الأسود الطويل المسدل على كتفيها , والذى يتحرك مهفهفا كلما حركت رأسها .

أخذت أنظر فى أصابعها باحثة عن خاتم زواج أو خطوبة . لا يوجد .

لمن كل هذا الجمال أذن ؟

أنهن كاهنات المعبد العذراوات ؟

وكذلك بفضول نظرت نحو دكتورة كريستين مثلها تماما .

الربات الجميلات عذراوات .

ياألهى .

حتى البنت الواقفة هناك عند الشاشة الآخرى والتى قدمت لى نفسها بأسم أيمان وقالت : أنا أيمان ومعانا النهاردا دكتور هناء ودكتور كريستين , وكان ذلك عند بداية دخولى الحجرة منذ ساعة تقريبا .

 

" يا ألهى , رب السموات والأرض . "أياك نعبد وأياك نستعين , أهدنا الصراط المستقيم , صراط الذين أنعمت عليهم .." أنا عبدتك الفقيرة والحزينة والتى تشعر بالألم والصمت , أحبك كثيرا على كل نعمك وعطياك التى وهبتنى أياها , وكأنك تصيب عبدك المؤمن وتختبر أيمانه , فشكرا على اختبارك لى , وأختيارى فى هذه المحنة العصيبة , شكرا يا أرحم الراحمين .

 

 ظللت فى هذه الحجرة لمدة ساعة كاملة , ولم أشعر خلالها برهبة الألة الجهنمية الضخمة البيضاء السابقة , التى كانت تلتهم ثدى بشراسة وقوة وعنف , هنا على العكس تماما هدوء , وصمت , وسكينة , وعمل دؤب ,. كأننى فى" قدس الأقداس ."

 

     عندما طلبت منى دكتورة هناء الجلوس والقيام بتعصير ثدى الأيمن حتى ترى مخرج الدم .

شعرت بالبرد , ولاحظت أن التكييف على درجة عالية من البرودة , لماذا لم أشعر بهذا البرد من قبل ؟

أعتدلت فى جلستى , وضغطت بقوة على ثدى هذه المرة بكلتا يدىّ , فأنفجر الدم خارجا .

أشارت بأصبعها على مخرج الدم , وقالت  للدكتورة كريستين : الدم يخرج من فتحة واحدة , الحمد لله .

وهى تسجل على شاشة الجهاز .

وجاءت أيمان ومدت لى يدها بمناديل ورقية كثيرة . كى أقوم بمسح الدم والجيل العالق بثديىّ . وأنزلتنى برقة وعذوبة من على السرير . كنت أشعر كأننى طفلة مدللة , تنزلها أمها من على سريرها بنعومة وحب .

وأخرجتنى من الباب الذى دخلت منه . وأنا أبتسم للدكتورة هناء وأتأمل وجهها الجميل لآخر مرة .ثم قالت هى ودكتورة كريستين فى نفس واحد :مع السلامة .

 

وفرغت الحجرة عند خروجى من جميع ساكنيها , والذين هبطوا من السماء والألهات والأولياء الصالحين وأل البيت وأم النور , رأيتها حجرة صماء تعود الى حالتها الأولى . وأضواء الشاشات تتبدل وتتلون .

أغلقت الباب خلفى سريعا , وخرجت مذهولة .

 

 

         من الصعب تسجيل المشاعر بعد حدوثها .

ولكن كيف لى أن أمشى بالورقة والقلم كى أسجل أولا بأول ؟

 

خرجت من الباب , ودخلت الحجرة التى بها ملابسى , ونظرت أليها للمرة الثانية .

مرة وأنا أخلعها , ومرة وأنا أرتديها .

والمرآة من خلفى ومن أمامى , بحلقت فى جسدى هذه المرة بقوة وتمعن وكأننى ربما أودع قريبا قطعة منه  .

حسب ماتشير الأشعة والتحاليل .

لم أنظر لوجهى ولا لعينيىّ .

نظرت لثدى , ثم نزلت الى بطنى وفخذىّ .

ماهذا الترهل الذى أصابهما ؟

وكأننى أتعرف على جسدى لأول مرة منذ سنين طويلة .

حقيقى منذ سنين مضت لم أعد أنظر أليه ولا أهتم به , ولا أدرك وجوده وأهتم به , وكأنه صار عبئأ ثقيلا علىّ وأحمله على مضدد وليس بجمال وأنوثة .

سألنى صديق ذات مرة : أين أنوثتك ؟

قلت يومها وأنا اضحك : راحت مع هنادى فى الوبا .

 

اليوم فقط أتذكر أن لى جسدا وعلىّ رعايته !

 

كيف تركته بهذا الشكل ؟ فبدا لى مخيفا وموحشا وبعيدا عنى !

عندما شعرت بالذعر من نفسى , بعد رؤية الألهات الجميلات بالداخل , أرتديت ملابسى بخزى وعار من القبح وعلى عجل , وخرجت الى الشارع , وأنا أحاول جمع أشلاء روحى التى تناثرت .

 

وضعت جسدى المكروه\ الحبيب , فى أول تاكسى صادفنى , وأنا أحوط ثدىّ بذراعى فى حنان الأم ,و كأنها فجأة أكتشفت أن لديها طفلا مريضا وعليها رعايته ,فأخذت تضم الى صدرها طفلها الصغير المريض , وهى تتمتم له بالأدعية وبالشفاء , والدعاء لرب العالمين أن ينقذه .

 

 

دخلت البيت .

كان باردا , وصامتا , ووحيدا مثلى , أضئت جميع الأنوار , وفتحت التليفزيون على قناة( مزيكا )ورفعت الصوت عاليا .

كنت أريد أن أشعل الموسيقى والغناء بالبيت , مثلما فعلت فى قصة " امرأة تتزين " منذ سنين .

ولكن الأشتعال كان مختلفا فى القصة .

كان الأشتعال , اشتعال الشهوة و الوحدة والأنوثة المحترقة , وقهر المارد الذى ينهش قلبى .

أما اليوم فالأشتعال , أشتعال الألم والمرض والفراق , والشعور بالخيبة والعار لجسدى المهمل منذ سنين .

 

وتذكرت صديقتى " نعمات البحيرى " عندما شعرت بالألم لأول مرة , وكيف أكتشفت المرض ؟ قالت لى يومها وهى تحكى : أكتشفت بقعة دم فى السوتيان وأنا أعلق ستارة الشقة الجديدة .

كانت تقصد شقة أكتوبر بعد أن تركت شقة الشروق .

وأنا أثناء زيارتها بعد أجراء العملية الجراحية وأستئصال الثدى الأيمن لها .

تذكرت ضحكتها وعذابها وألمها ووحدتها وجملتها الشهيرة والمؤلمة :" أحنا ياحبيبتى سيدات خارج الدعم ".

 

دخلت المطبخ وقررت أن أصنع طعاما فاخرا للبنتين خصوصا ونحن على أعتاب عام جديد 2012 .

 

 

فى الصباح .

 

كنت أتمنى أن أخبر احدا من زميلاتى الاتى ترصصن حولى فى الشمس بعد أنتهاء اليوم الدراسى .

كن جميلات وهادئات عن ذى قبل , جلسنا فى ود المحبين , لا رئيس ولا مرؤس , كلنا أخوة وأصدقاء .

وجميعا على أختلافهن فى هذا اليوم جائن الى جوارى وجلسن .

وكأن هناك هاجس بداخلهن أننى أشعر بالألم وأخبىْ عنهن شيئا خطيرا .

وأنا حائرة أخبر من ؟ وأقول لمن تعال معى ؟ وأحمل من عبْء ألمى ؟

من أحكى معها  أو معه وأفضفض ؟

لا أحد .

جميعهن ينظرن لى ويجلسن جوارى , ولكن أشعر أننى بعيدة , بعيدة , ووحيدة , وحيدة فى عالم بعيد ومختلف .

من الذى أوصلنى الى هذا التوحد ؟

وهذا البعد ؟

 وهذا الأنفصال ؟

عقلى!

ثقافتى!

كتباتى!

أرادتى !

المكان !

الجفاء الداخلى !

الهروب العاطفى !

أختلاف الرأى والمذهب والفكر والخيارات المختلفة !

 

" لماذا لم تتألف قلوبنا أو أرواحنا منذ ثورة 25 يناير 2011" وانا أفسر لهم الأحداث وأحلل لهم المقالات التى أقوم بقراءتها , والبرامج التى أشاهدها .

وفى الأستفتاء على الدستور وضحت لهم لماذا نقول : لا

وماذا سيحدث لو قلنا : نعم ؟

 أنا قلت : لا , وهم قالوا : نعم .

وفى أنتخابات مجلس الشعب , أختلفنا وتناقشنا وكل واحد دافع عن أختياره من وجهة نظره .

جميعهم أختاروا "حزب الحرية والعدالة "ماعدا المدرس المسيحى أختار الوفد , وأنا أخترت" الكتلة المصرية" .

ويومها قالوا لى : تختارى حزب المسيحين , عايزاهم يحكموا البلد , عايزه ساويرس ينتصر ؟

ابتسمت , وقلت : أنتوا أختارتوا الأسلاميين , بكرة تشربوا , وعلى العموم الكتلة المصرية مش مسيحين بس ياجهلة .

 

 

منذ أندلاع ثورة 25 يناير 2011 .

 

وأنا على أختلاف معهم ومهما حاولت من تفسير وشرح وتوضيح وتعليق على الأحداث وما يأتى على "الفيس بوك وتويتر واليوتيوب" وهم أصبحوا فى وادى وأنا فى وادى آخر .

ورغم أيمانى" بالتعددية والحرية الفكرية وأرائى الليبرالية" , الا أنهم أصبحوا يضعوننى فى مصاف الأعداء , وأشعر بنظرات العداء الغير مبررة والخفية .

وبنفذون أوامرى فى العمل على مضدد وبالعافية .وأحيانا أغضب , وأحيانا أصمت , وأقول لنفسى : صاحب الوعى هو الأكبر .

فأنصرف عنهم , وأجلس فى حجرتى وحيدة .

لقد تغيرت نظرتهم تجاهى من صديقتهم المدرسة المحببة للجميع ويشاوروننى فى كل كبيرة وصغيرة , ويأخذون برأى , الى المديرة البعيدة والمختلفة والتى تصدر لهم الأوامر ,وكثيرا ما مررت بهم يتحدثون حتى يقطعوا الحديث عند مرورى .

وأعلنوا العصيان بعد أضراب المعلمين الذى كنت أرفضه , لأنه ليس وقته ولا تاريخه .

أنا أرى أن الوقت وقت عمل , وهذه هى الوطنية فى ظل الظروف التى تمر بها البلاد , والثورة هى العودة الى العمل , وليس تعطيله , وأن التغير يبدأ من الداخل أولا .

قاطعونى .

وأنفصلوا عنى .

وأعلنوا العصيان .

حتى صديقتى الودودة بينهم , أصبح حبل الود مختلف . هى تشعر أننى أجىءعليها كثيرا .

وأنا أضحك واقول لها : أنت حبيبتى .

 

 

وخرجت من المدرسة مع نفسى .

أسير فى الشوارع والطرقات هائمة , أبحث عن عنوان (كايرو سكان للأشعة ) فى منطقة المهندسين الفخمة , سكن الأثرياء بأبراجها العالية ومحلاتها الجميلة .

سرت فى شارع جامعة الدول العربية ,

ثم انحرفت يسارا من شارع الشهيد البطل أحمد عبد العزيز , ودخلت شارع الشهيد عبد المنعم رياض . شهيد وراء شهيد ..!

 

بهرنى مابهرنى , وهزنى ماهزنى !

وكلما أقتربت خطواتى من المكان , تثقل قدماىّ

 , وأشعر أننى أجرجهما الى أن دخلت " برج الأطباء "

ووقفت أمام الأسانسير , هرب الدم منى , وأثلجت أطرافى , وشعرت برعشة عنيفة تهزنى هزا , وأنا أمام الباب فى الدور 14 .

 

 

فى الليل .

ليلة رأس السنة .

ونحن نلتهم البطة التى أعددتها للعشاء الفخم , ورائحة الملوخية الشهية تملأ البيت , والمحشى اللذيذ أمامنا , جلست مع البنتين فى صمت وأرتباك , هل أحدثهما عما حدث اليوم , وأشرح لهما الموقف ؟ أم أواصل الصمت ؟!

 

واصلت الصمت .

والأكل , وسماع الأغانى من قناة (مزيكا زووم) .

وضحكت مى وقالت : ماما أخلاقها باظت بتسمع أغانى . أومال فين" منى الشاذلى , وأحمد المسلمانى , ويسرى فوده ومنى وشريف وهالة شو  وبرامج التوك شو " ياماما ؟

رن الموبايل , وجدت على الطرف الآخر أخى الأصغر يحدثنى : كل سنة وأنت طيبة ياوزة , عيد ميلاد سعيد .

ضحكت بمرارة , وأنا أحبس دموعى : وأنت طيب , لسه فاكر دا كان من يومين !

كان نفسى أحكى له , أشعره بألمى وخوفى , أستنجد به , أفضفض معه , ولكن مبرراته وأعذاره منعتنى .

وقلت له : سلام . حتى أبى على غير عادته أتصل بى وسألنى بلهفة : صحتك عاملة أيه ؟ ضحكت وقلت له مداعبة : عاملة محشى , أتفضل معانا , ضحك . وأغلقت الخط .

 

 

وحدى !

دخلت حجرتى بعد العشاء مباشرة , ونمت نوما عميقا ومهزوزا .

لاأم لى أحكى لها .

ولا أخت لى أفضفض معها .

ولا صديقة أذهب أليها .

ولا حبيب أناجيه ويمسح بكفه الحنون على رأسى , وهو يضحك دى شكة دبوس , أنت خايفة , ثم يأخذنى فى حضنه حتى الصباح .

لا أحد , بمفردى .

أغطس فى نوم عميق ومهزوز .

كيف أجرح قلب طفلتين بالألم للمرة الثانية , بعد وفاة أبيهما .

ورحت فى نوم عميق .

قصة فأل سئ

  فأل سئ لا أعرف بالضبط ماذا حدث لي؟ منذ ليلة أمس وأنا تنتابني حالة من العراك والغضب الزائد، لقد ألغيت لقاءً كان مهما بالنسبة لي في العم...

المتابعون