الثلاثاء، 23 أكتوبر 2012


عفاريت ميدان التحرير!
 
 

 

رسالة من الشهيد :

 

          "00 يبدو أن الحكاية لن تكتمل الا بموت أحدنا "

 

 

     أسمى "أحمد محمد منصور "

.

شاب مصرى , تخرجت فى كلية الأعلام . من أشهر قليلة , وأعمل حاليا فى مجال بعيد كل البعد عن دراستى , ولكنى لا أكترث , هذه أحوال البلد , أحيانا تضطرنا صعوبات الحياة للرضا بالقليل لنحصل على مبتغانا فيما بعد .

منذ عدة أيام لم يكن أسمى يتردد بهذا الشكل المستمر !

اليوم الجمعة .

أهم وآخر أيام حياتى .

انهيت عدة مشاوير , والآن أنا فى طريقى الى التحرير .

بالتحديد متجه الى (مجلس الوزراء ), لأقف مع أشرف وأشجع رجال فى مصر فى أعتصامهم أمام مجلس الوزراء .

تواردت أنباء تفيد بأن الأعتصام يشهد أعمال عنف من جانب عناصر منتمية للجيش المصرى ضد المتظاهرين والمعتصمين .

ايا كانت المطالب – مشروعة أوغير مشروعة – لم ولن أقبل أن يعامل المواطن المصرى بهذه القسوة .

مواطن يدافع عن حقى قبل حقه , ويطالب بمصر أفضل و مقدما حياته فداء لها , أجتاحتنى رغبة صادقة نابعة من أرادة قوية مدعومة بيقين عقيدى " بأن الثورة ليس لها أحد يحميها سوى هؤلاء الأبطال " وتحررت نفسى من كل الغرائز الأنانية , وتجسدت أمامى مصلحة الوطن غاية عليا محفزة على الصمود .

" فقررت أن أكون أحد حماة الثورة , وأحد المدافعين عن مصر التى أغتصبها مصريون ."

 

حياتى لم تكن أغلى من حياة هؤلاء الأبطال .

"هاتفنى أبى وحدثنى بلهجة كاشفة ما أستبطنه من قلق مبرر . عاهدته ألا أذهب للميدان , وأن أعود الى البيت بمجرد قضاء ساعة أو ساعتين مع بعض الأصدقاء .. عفيت نفسى من مشقة الصدق .. هاتفت أبن عمى وقابلته فى التحرير ."

 

كانت تقذف علينا أحجار من المبانى المحيطة بمجلس الوزراء , فاضطررنا لأخذ ساتر , كان قد أعده المناضلين فور بدأ القذف الحجرى ..

كنت أرى فى الدور الأول لمبنى مجلس الوزراء , ضباط من الجيش المصرى يحملون الأسلحة , ولكن حسن الظن دفعنى لثقة فى غير محلها , بأن أقصى ما سيفعله الجيش هو رشقنا بالحجارة , وطردت من ذهنى توقعات الطلق النارى , وعلى عكس توقعاتى , بدأ أطلاق الرصاص الحى على المتظاهرين .

 

الأجواء أكثر اضطرابا , والبعض يجرى هنا والبعض يجرى هناك , سقط العديد , وعلت صيحات مستغيثة " أسعاف , أسعاف " عدوت مصحوبا بغريزة البقاء , ولكنى لم أفلح فى الأبتعاد كثيرا عن ساحة النضال قبل ان تداهمنى ضربة مباغتة فى الرأس .

 

فى هذه اللحظة لم استطع أن اتبين ماهية تلك الضربة , أن كانت أحدى قطع الرخام أو رصاص مطاطى أم رصاص حى ؟

" وبفعل قوة ملهمة غير واضحة , نبع من داخلى المكبوت , صوت مطمئن و أدرانى أنى قتلت ."

قتلنى الظالم ليمتدح شجاعتى متلونا .

فى هذه اللحظة توقف الزمن , وغيبت عن الوعى , وترائى الىّ تاريخى يعرض أمامى كفيلم سينمائى , ولكنه عرض يفتقد تنظيم وترتيب المشاهد " مشهد من هنا , حدث من هناك , موقف اعتقدت أنى نسيته , رأيت (أبى وأمى وأخى كريم واختى سهير) مجتمعين حول مائدة الأفطار فى أحدى الأجازات , رأيت عين أمى تدمع فرحا لنجاحى فى الثانوية العامة , أبى يفخر لتخرجى من الجامعة , أبى يوصلنى الى مدرستى الأبتدائية ما سكا يدى ويعلمنى عبور الطريق .

اشتراكى مع زملاء الجامعة فى مشروع التخرج , وحماسى لنؤدى دورنا على أكمل وجه , رأيت حفل زفاف أخى كريم , كنت بصحبة أصدقائى وأقاربى , كريم كان أحلى عريس فى الدنيا , شكرتنى عيناه على وقوفى بجانبه فى تجهيزات الفرح , أنت اخى حبيبى , على أى شىء تشكرنى !!

رأيت أختى الصغيرة سهير تحدثنى عن مشكلاتها الصغيرة والتى تراها كبيرة , كنت أبسط لها بعض ما يستعصى عليها من المناهج الدراسية , أسمع دعاء أمى " ربنا يخليك لأختك ويخليها لك " أحسن بنت فى مصر , كنت ألاحظها تكبر وتنضج أمامى وأنا فى غاية السعادة , الجامعة , الشارع , نموذج جامعة الدول العربية , المدرسة , أصحابى , وأصدقائى , كم كنا نقضى أحلى الأوقات معا , كم كنا نلتقط الصور لنسجل ذكرياتنا الجميلة , رأيت القهوة فى منطقة البورصة والتى أعتدنا أن نجلس فيها لنتجاذب أطراف الحديث , أول بنت أحببتها وأحبتنى , كانت مشاعر صادقة وبريئة , أول مبلغ أقتضيه نظير عملى , وبعيدا عن مصروفى من أبى ,أحسست أنى أعتمدت على نفسى , وأن كان المبلغ صغير  ولكن المبدأ أعظم .

" ترائت أمام عينى صورة البنت التى أحبها" , حكيت عنها لأحد أصدقائى , وكنت أنتظر الوقت المناسب لقول لها : بحبك .

رأيت أفعال ندمت على فعلها ," كل بنى آدم خطاء , وخير الخطائين التوابون ", أتمنى أن يسامحنى كل من أسأت اليه .

هذه آخر لحظة فى حياتى ولا يوجد متسع من الوقت لأطلب منهم أن يسامحونى .

 

أبى , لم أصارحك بذهابى للتحرير , سامحنى .

أمى , حرمتك منى , سامحينى , تماسكى , أصبرى على فراقى , أعتنى بأخوتى ولا تبكى , دموعك أغلى عندى من حياتى .

.. كنت أتمنى أن أصبح انسانا ناجحا يستحق أن تفخرى به . أنت احسن أم فى الدنيا .. الحمد لله أنه رزقنى بأم مثلك , كنت أود أن أحافظ على نفسى ولكنى لم استطع .وحضرنى بيت شعر لمحمود درويش :

                                                          " أعشق عمرى

                                                             لأنى اذا مت

                                                     أخجل من دمع أمى "

 

كريم سامحنى أن صدر منى ما يغضبك , ويجب أن تعرف انى أحبك ياأخى , حاول أن تربى أبنك القادم الى النور قريبا , على حب الوطن , وأن كان الوطن قاسيا ,أصنع منه رجلا يحافظ على كرامته , يقول للخوف لن اخاف .

 

 

ترائى لى عواقب ماحدث وانشغلت بالمتاعب التى

 خلفتها لأهلى بسبب قتلى ولكن ..

 

"عندما يصبح الأنسان قادرا على تنفيذ قراراته النابعة من أرادة حرة ودوافع انسانية , سوف لن ينزعج من عواقب تلك القرارات , وأن لم يرض عنها المقربون , لك الله يامن حزنت على فراقى" .

 

أشعر الآن أنى ألفظ أنفاسى الأخيرة , أهلى , أصدقائى , أصحابى , حافظوا على مصر , لقد مت من أجلها , وأن كانت مصر قاسية علينا فلن نتركها لمن يغتصبها , لا يهمنى الشعارات , والوقفات الأحتجاجية لتثبتوا أنكم لازلتم تذكرونى , ولكن يهمنى أن تصبح مصر أحسن بلاد الدنيا , أن اردتم أن تنسونى فلتفعلوا , ولكن لا تنسوا لماذا مت ...

 

                    ( أحمد محمد منصور )

 

                   القاهرة 16ديسمبر 2011

 

             

     

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون