الجمعة، 29 يونيو 2012

المكتنزة البيضاء (قصة قصيرة )

أحب النظر الى المارة والشارع والبنات الصغيرات فى نهاية اليوم الدراسى , وهن عائدات , تحمل كل منهن على كتفها نهاية يوم طويل من الأسئلة , وشنطة مليئة بالكراسات وطباشير بيضاء , وأصابع باردة من كثرة الوضوء , كل هذا يجعلنى أشعر بلذة الحياة فى نهاية القرن العشرين , وسطوة  تخطف أخى الصغير و ثم أختى الصغيرة و التى تمنيت طويلا أن يمنحنى الله أياها , وكانت بيضاء جميلة شعرها أسود طويل , تشبه ( مى ) فى خفة دمها وسكارة ريقها اللذيذ الذى كلما أشرب منه لا أرتوى , ريق يبعث فيك الحياة والطمأنينة , وأنك لن تغادر هذا المكان الجالسة فيه قبل أن تعبىء بطنك وتملأ رئتيك من هواء زفيرها .
البنات الصغيرات لهن روائح خاصة لا هى بالزهور ولا بالعطر , روائح اللبن الممزوج برائحة برازهن , وعرق الجلد , وبودرة التلك , رائحة تجعلك تمد أنفك طويلا بين ثنيات رقابهن و تشم طويلا , فتصدر عنك آه طويلة وتظل عيناك مسبلتين , وتردد : الله عسل وسكر .
وتشم !
البنات الصغيرات يخبئن اللبن داخل أثدائهن لسنوات طويلة .
كنز اللبن المخبأ لمصه , وكنز الدم المخبأ لفضه , وكنز القلوب المراهقة للحب , وكنز التصورات والتخيلات عن حصان أبيض , وفارس جميل , يشبه ( أبو زيد فى جسارته , وعنتر فى حبه , والشاطر حسن فى خطفه لست الحسن والجمال ) .
كنوز مخبأة داخل جونيلات الصف الخامس والسادس وصوت ( جمال عبد الناصر ) فى باسم الأمة , وباسم الحرية , وباسم الشعب .
خيالات من الأنوثة تنطبع داخل قلوب الصغيرات , وصورة عبد الحليم حافظ فى رقبة كل منهن داخل سلسلة طويلة .
الولد الشقى ابن الجيران الجالس فى المقعد المقابل أمام البنت المكتنزة البيضاء , التى ينز عرقها برائحة البيض المسلوق والعيش الفينو , يعطيها صورة العذراء والمسيح والملائكة .
البنت البضاء المكتنزة المحملة برائحة الكبدة المحمرة بالبصل والثوم , تعطى صورة العذراء والمسيح والملائكة تجمع كل هذه الصور داخل قلبها .
ولا تفرغها الا فى الليل فتجلس المسيح عن يمينها وتطعمه العيش الفينو المحشو بالبيض .
البنت المكتنزة البيضاء تذهب صباحا تلعب بجوار ( شجرة مريم ) فى المطرية , وتدخل قلبها فتحتويها الشجرة , وتظلل عليها باوراقها .
والأولاد كل يوم يزفونها فى المرواح من المدرسة :( ياتخينه يافشله يامرات العسكرى ... تكلى بسلة و  ....)
البنت المكتنزة البيضاء , تدخل قلب الشجرة تختبىء داخلها تحتويها وتظلل عليها .
البنت المكتنزة البيضاء تخرج من جيب قميصها صورة المسيح وتطعمه سندوتشات الفينو بالبيض .

هذه البنت تجلس الآن وحيدة داخل جدران أربع , ترضع من ثديها اللبن الكنز المخبأ ( لمى ) .
البنت المكتنزة البيضاء تجلس وحيدة فوق فرشتها تكتب عن البنت المكتنزة البيضاء المخباة فى ( شجرة مريم ) بالمطرية ., وتعبث بأصابعها الباردة فى رقبة صغيرتها البيضاء المكتنزة , فتخرج عليها رائحة اللبن الممزوج بالبراز وبودرة التلك , ورائحة الجلد وريالة مى تمد فمها الكبير تلعق به ريالة الصغيرة , وتعبىء بطنها وتملأ رئتيها , وتسيل دموعها وتردد : عسل وسكر .
وتشم .
المكتنزة البيضاء الآن فى نهاية القرن العشرين سنة 1998 ميلادية , الساعة الخامسة مساء .
السماء تمطر , تطل من البلكونة , تنظر الى المارة والشارع , والبنات الصغيرات , العائدات فى نهاية اليوم الدراسى , يحملن على أكتافهن الشنط , داخلها الكراسات وطباشير ابيض واصابع باردة من كثرة الوضوء .
المكتنزة البيضاء , تنادى صغيرتيها : ياهاميس , يامى , الدنيا بتمطر تعالو شوفو .
المكتنزة البيضاء تنظر من البلكونة على البنات الصغيرات .


فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون