الجمعة، 11 مارس 2011

مشاعر سرية !لى سوسن

تبحث عن بعينيها , أينما تحط بمشاعرها الحزينة على أى بقعة من الأرض , بعد أن تكون طارت وحلقت مئات الأميال , وعادت لكى تحط للحظات أو دقائق , أو سويعات قليلة عندما تجده أمامها , ذلك الشىء الهلامى المشاعر , والذى لم يحدد موقفة منذ آلاف السنين , فهو حورسها الحبيب أو ربما يكون أوزيراها الصامت القابع فى مملكة الموتى .

عندما رأتنى أمامها بعد غياب دام شهور طويلة وذلك بسبب أنشغالى فى أحداث ثورة يناير 2011 .
سحبتنى من يدى كطفل صغير , وقالت وهى تبتسم أبتسامة حب على مرارة على حزن : أنت لازم تروحى دلوقتى ؟ لسه بدرى تعالى نقعد شوية على النيل .

سرت وراءها متقطعة الأنفاس بسبب البرد القارص الذى لم أعد أحتمله لضعفى وبحكم السن والألتهاب الشعبى الذى أصاب به باستمرار .

وأخذت بحث بعينيها عن المكان المناسب الذى تجلس فيه امرأتان بمفردهما بدون قلق المارة أو المتطفلين .
وأخيرا وجدنا المكان المناسب أمام معهد ناصر على الكورنيش , وجلسنا .

هى تحكى وأنا أنصت , هى تروى وأنا أرسم المشهد التخيلى للمواقف والأحداث التى يجب علىّ أن أحكم من خلالها على ماحدث بينهما .

قالت لى بعصبية وخوف وحب : أنا كنت باروح ميدان التحرير فى المظاهرات من وراء أمى !
هل ده حرام عشان خدعتها وكدبت عليها , وقلت لها أنى باروح الشغل ؟ وأخويا كان بيروح وبيقف بالليل فى اللجان الشعبية وهى سعيدة وفرحانه وفخورة بيه !
لوكنت مت أو هو مات مين من وجهة نظرها كان هيبقى البطل ؟

خزنت المعلومة فى رأسى وصمت .
مر بائع الكوكولا وطلبت منه اتنين اسبرايت .

وهى تمسح دموعها وتضحك : ليه الولد له الحق فى العلن , وأحنا نسرق الحق فى الخفاء ؟
ردى يااستاذة يامتعلمة ؟

كان البرد قارصا لدرجة لم أتخيلها ولم أعمل حسابها خصوصا وأن أمشير قد ذهب !
جاء البائع ووضع الزجاجتين فى يدى وأعطانى باقى العشرون جنيها .

سألته عن مناديل ورقية .
أخرج من جيبه منديلا وأعطانى أياه ثم أنصرف .

أخذت هى تحكى وتروى عن مغامرتها فى ميدان التحرير والشباب الذين كانوا يحيطون بها لحمايتها والخوف عليها .
وأثناء استطرادها قالت بعفوية : أنا فى المظاهرات تعرفت عليه سامر , ضابط خلع ملابسه ووقف معانا يهتف وحمله الأولاد على الأعناق و لقد رايته وهو سعيد ومتحررا من البدله الميرى .

رفعت الزجاجة الباردة على شفتيى , ورشفت رشفة كبيرة ملأت فمى وبلعتها بسرعة .
زغدتنى بكوعها.
 - تفتكرى الناس دى زينا بتخاف وتتألم وتحب وتكره ؟
 - طبعا مش بشر .
ضحكت ضحكات مكتومة .
- طيب ليه خلع البدلة وبقى بنى آدم طبيعى ؟ مكان من الأول وهو لابسها ؟
- طبيعة عمله تمنعه من ذلك .
- هى الوطنية فيها طبيعة عمل ؟
- عشان الموقف مختلف , دى مظاهرات ضد الفساد , ناس من بلدك .

أعتقد انها لم تقتنع بوجهة نظرى . بدليل أنها أخذت تنظر !لى النيل وترشف بعض المياة الغازية وهى لا تبالى بالجمل والكلمات التى أخذت أستطردها وتتساقط من فمى فى سرعة , وبلغة  ربما تكون كبيرة على قدراتها العقلية أو كما نسميها ( كلام مثقفين ) .

البرد زحف على قلبى وعلى أطراف وبدأت أدخل فى رعشات صغيرة قد تتطور وأنا أحاول السيطرة على نفسى .

أفرغت زجاجة الأسبريت فى جوفى علها تخرجنى من هذا البرد بخلق برد موازى .
وعندما لمحتنى بطرف عينيها وأنا اهتز بردا قالت لى : أنت بردانه يا أبلة ؟
ثم خلعت الشال الذى كان على كتفيها , وأعطته لى , فظهرت العبابة التى كانت ترتديها , قديمة جدا وأظهرت حالة الفقر التى هى عليها , ولكنها لم تخجل , بل ظلت تحدثنى عن الثورة وعن الزملاء والأولاد والبنات والمجتمع والناس .

وأنا أتتبع كل كلمة تخرج من بين شفتيها فى تلقائية , وأرسم المشاهد والمواقف التى حدثت هناك .
وأتخيل كم المعناة التى عناها هؤلاء الشباب , وهؤلاء الناس من الفقر والعيش على حد الكفاف , وبرغم من ذلك مازال لديهم طاقة للحب والمشاعر النبيلة التى لم تلوثها الأيام .
وقبل أن أنهض من مكانى لأن البرد كان يزاداد حدة , والكلمات تزداد غضبا .
قلت لها بتواضع : أنا أديتك رواية بيت فنانة .
أجابت فى حذر : أيوة يا أبلة وقرأتها وأديتها لأصحابى وأنا بفتخر أنى بعرفك , وأحنا فى ميدان التحرير , حكيت لهم عنك وعن شجاعتك وكتباتك اللى أتعلمت منها كتير , وقلت لهم وأنا بحلم ,ممكن تكون الأبلة من الثوار دول , أو من الأدباء العظام .

شردت للحظات وأنا أرسم صورة المشهد وهى تحكى وهم يسمعون لها , وتخيلت نفسى بجوارهم عظيمة مرفوعة القامة , أتلقى رصاصة حية فى قلبى وأسقط بين أيديهم .

أوقفت التاكس ونادتنى  : يا أبلة أنا أسفه أخرتك كتير النهاردا , مع السلامة .

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون