الأحد، 14 مارس 2010

نقوش

نقوش
تشاغلت عيناي بمتابعة النقش البارز فى اللوحة المعلقة عاليا .
وطنين الأغانى المتلاحقة يأتى !لي من الشارع , وصوت الباعة الجائلين من آن لآخر يخرجنى من غفوتى المشاغلة بالنظر !لى السقف , كانت اللوحة الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة فى زمن القاهرة القديمة .
وربما يكون تحديدا فى العصر الفاطمى أو المملوكى , !نى لم أحدد بعد هوية اللوحة . فقط تشاغلت بمتابعة الهدوء والسكينة و البضاعة المتراصة بشكل ساذج على قارعة الطريق , وقليل من المارة يتوافدون . وحدى أشق طرفي الثوب !لى نصفين , تنتابنى حالة من اليأس لم أعتاد عليها , ولكننى رأيت طرفى الثوب يتباعدان , يتصاعدان !لى أعلى .. أعلى , يرفان صوب اللوحة , صوب الفارس , صوب الشارع .
كل ما تخيلته هو أننى أجول فى اللوحة مذهولة .. زوجان من الأحصنة المجنحة يرتديان شقي الثوب ويرفان .
آه هل أنا متعبة !لى هذا الحد؟ دون رغبة فى شئ , أخذت أصرخ , أصرخ , خارجة من اللوحة ..
كانت الخلفية غير واضحة , لمسجد كبير , ومشربيات جد جميلة , مشغولة بحنكة الصانع الذى دقق كثيرا فى جمع التفاصيل .
الخشب يحمل رائحة الأيام , فتطير سعادة من زمن سابق .. الأفاريز تخرج منها حكايات المارة والصانع يحكى تاريخا كان يتحرك , ويتلون , ويصبغ الأيام بصبغته .
مملوك فوق جواده يمر , متنزا بين مقتنيات اللوحة , وأمامه يجرى رجلان يفسحان له الطريق .. سقطت رأس المملوك . تدحرجت تحت قدمي الجميلة , الخارجة توا من حمام قديم , فبان وجها جميلا صافيا .. حياها الفارس وتملا مليا . وى تلتقط اليشمك والحبرة , وتعيد وضعما من جديد .
الأيام ,
والأزقة ,
والمارة ,
ورأس المملوك ,
وتحية الفاري ,
وبسمة الجميلة ,
لم تبعد صوت الباعة .
والموسيقى الداخلية المنبعثة من المحل تمنع تأملى للوحة .. تبدلت الموسيقى بأغنية ( بابا قول لماما بح .. بابا أوبح ) .
دارت عيناى متأملة اللوحة تجاه الفارس , ومددت يدى.
تركنى , وسار عبر الأزقة .
"هنا ..
كانت ترتكز فتاة على حافة السور , خارجة من زمنا من أياما .
تأكل سندوتش وتمر محملة بعطر رخيص , وسنوات بعيدة .
!نها اللحظة .
وتمر ..
تاركة السور , والشارع , ونهديا عالقين على الحافة .
ومرت .
هى من المحل .. والأخرى من اللوحة .
ى من الشارع .. والأخرى من زمن بعيد .
هى من حافة السور .. والأخرى تمر من العصر الفاطمى أو المملوكى .
!نها القارة القديمة .
مبانيها , ضواحيها , أسوارها , أفاريز الجامع , خشب المشربيات ."

المملوك , والفارس , والجميلة .
رائحة بخور المر فى يد الدرويش , يثير فى اللوحة دخانة , طاقاته , خرفاته  , خرقه البالية .
وتذوب اللحظات بطيئة فى ثلجية مفرطة , بين عين الواقفة المتأملة , وعين الجميلة فى اللوحة العالية من زمن بعيد .. بعيد وقديم .
!نها الآن ترتبك .
تريد أن تحدد ملامحها .
بعد أن زقت من الفوضى والأرتجال .. تريد أن توضح ماهية الأشياء .. تريد أن تقبض على اللذة الاربة والمتعة الأبدية .
!نا الآن :
تقرأ مثل تلميذات المدارس , تضع خطوطا تحت الكلمات , والجمل الامة المدشة المثيرة بين قوسين .. ما يجرحها هو ( المرأة الجميلة ) الباسمة للفارس .
هل مازالت تتحرك ؟
ترفع اليشمك والحبرة, تبتسم , تلملم طرف الثوب من قاذورات الطريق .. ماذا لوعادت هذه المرأة مرة أخرى ؟ هلى لها نفس الملامح ؟
الجمال!
الأبتسام !
أشياء أريد معرفتها( ياسيدتى ) أكثر من ذلك أتمنى أن أرىماخلف حجابك , المشربيات, اسمع صوت المغنيات منبعثا من الحريم , ورائحة بخور المر المتطاير عبر اللوحة , وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعيه .
رغم أنى محملة ( بأنثى ) خارج اللوحة , وموسيقى خارج السياق , وصوت الباعة الجائلين .
!لا أننى أبحث عنها بشكل واسع ومفرط فى الدهشة . نعم أنى أبحث , وسأظل محملة بعبء البحث والمعرفة و!لحاح الذاكرة , وتاريخ اللوحة .
ولكن كيف أرى !نسانية البسمة ؟
والوقفة , وارتباك اللحظة ؟
والتباس البوح ؟
وقفت مشدودةفى حوار مفعم بالقلق .
" يا صاحبة الطقوس "
والمفجرالأساسى للمشهد . أذكر لطمة أمى على خدى لحظة قررنا أنا وزوجى أن نعيش الليلة الأولى ( عادى ) دون اشتعال .
" يا سيدة الطقوس "
 افتحى ذاتك . اللوحة ملء عينيى . ما هى رغبات اللحظة ؟
" الفارس "
كان لطيفا , متفهما , حاول تدريب رغباته , ترك لحظة العشق البدائى دون اشتعال ؟
" ياسيدة الزمن البعيد "
ّنى أصغى !ليك فتحثى . وأذكرى لى مبعث , ألمك , وسعادتك .

أخذت أغلق سوستة الجاكت , واستعد للخروج . اترخيت على الكرسى , وأرحت ظهرى , مددت يى متنهدة .
- الدنيا برد .
على باب المقى , فردت أصابع يدى اليسرى فى تحية حارة للجالسين .
- هاى .
الصمت يحيط بالمارة , باللوحة , بالجالسين , هدوء المكان.
كم كان مريحا بالنسبة لى الخروج من الماضى , والأتيان لأكل سندوتش , والمشى فى شوارع  القاهرة .
!نها الدهشة الأولى .
أشير كطفلة لكل ما و جديد ومثير ومثالى . ألتقط سريعا الكلمات .
الحوارات , الضحكات , النكات , طريقة السير . ارتديت الجينز ,التيشيرت , وأتيت .
كم كان مريحا بالنسبة لى الخروج ومشاهدة اللوحة القديمة , والزمن القديم .
النيل ..والشمس الغاربة .
تثير فى أحداث الماضى , والحواديت . تحدثت فى همس .
" يا سيدة الآن "
أريد صورة كبيرة أعلقها عاليا .
ضحكت وأضفت , دون يشمك , دون حبرة .
" ياريت "
صورة كبيرة لقاهرة الآن ..
دون فارس , ودون مملوك , دون الجميلة , دون الدرويش , دون أن أكون بداخلها .
صورة تكون جديدة تماما , لم ترسم من قبل !

تنهدت بطفولة : كيف ؟
طرت أجرى .
أمرح .. واليشمك عبر الصورة من الجميلة الباسمة للفارس .
أحب الشمس والفوضى .
أريد الدخول من باب ( النصر ) ..
أخرج علبة سجائرى و اأشعل واحدة.
أشعل العالم .

                                        متبت فى يونية 2000

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون