الجمعة، 18 يوليو 2025

كتاب داية وماشطة

 (مقدمة  ثانية)

مع أنتشار مهنة الطب والوعى الصحى بين النساء فى المدينة والقرية ، وانتشار الوحدات الصحية التى تقدم خدماتها للنساء ، بدأت تختفى أو تتقلص مهنة ( الداية ) وهى التى كانت تقوم بتوليد السيدات فى البيوت إلى جانب طهارة البنات ، بالأضافة إلى أنها كانت أحيانا فى بعض الأماكن والمناطق الشعبية ، تلعب دور الوسيط فى زواج البنات  ، وهذا نادرا ، لأنه هناك( الخاطبة ) وأحيانا تكون ( الدلالة ) التى تقوم ببيع الملابس والأقمشة .

وهناك كذلك ( الماشطة ) أو( النتافة ، الحفافة أو المحففة) وهى التى تقوم بتمشيط وتزويق العروس وأزالة الشعر لديهن فى ليلة الحنة .

ومع أنتشار الأزمات الأقتصادية وخروج النساء الفقيرات للعمل ، تنتشر الأعمال والحرف اليدوية الصغيرة ( داية – ماشطة - خاطبة – دلالة – غًسالة – مِغسلة – نَدابة – معددة – ضاربة الودع ...الخ ) وهى  المهن التى لا تحتاج صنعة، ولكن تحتاج مهارة وقدرات خاصة تتوفر فى المرأة وتتيح لها دخول المنازل فى المدينة أو القرية ، كل هذه الأدوار تقوم بها المرأة داخل البيوت وخارجها ، وربما تكون حاملة لبعض الأسرار ، والوعى الشعبى أيضا ، فهى تمارسه ، ولا يوجد لديها إنفصال بين المعرفة والممارسة، فهى لم تحظى بالتعليم الذى يصنع مسافة مع الوعى.

          وكان الدور المنوط به المرأة هو العمل داخل البيت لراحة الزوج وتربية الأولاد ، فكان لا بد لها من إجادة الحرف النسوية مثل ( الخياطة – التطريز – الطبيخ – الغسيل ...الخ ) وكلها حرف لا تحتاج لأعمال الفكر ولكنها تعتمد على القوة البدنية وبعض الفنون البسيطة .

وفى القرية كان يتم أحيانا أختيار البنت للزواج لشطارتها فى ( الخبيز – وصناعة الجبن والزبد وتربية الدواجن ) .

وكانت البنت تتزوج لسيرة أمها الحسنة وشطارتها ، حسب المثل الشعبى ( أكفى القدرة على فمها تطلع البنت لأمها ) أو لثراء العائلة . وظلت العادات والتقاليد والأعراف تتناقل من الجدات إلى الأمهات ، جيل بعد جيل ، وحاملة آليات الحكى والسرد الشعبى هى المرأة، فكما يقول د "محمد أفاية" المرأة تحمل أليات قهرها .

فنلاحظ دائما أن المرأة أشد قسوة وقهرها للمرأة الأخرى أكثر من الرجل ويتضح ذلك فى شخصية ( الحماة – الضرة – السلفة – زوجة الأب – الجدة – العمة – أخت الزوج ) وهناك أمثلة شعبية كثيرة عن هذه الشخصيات وكيف تصفها الجماعة الشعبية مما لها من قسوة وقوة قاهرة فمثلا عن زوجة الأب ( زوجة الأب خُدها يارب - الضُرة مرة ، الحماة حُمة – مركب الضراير سارت ، ومركب السلايف غارت ، جوز لاتنين يقادر يافاجر ،اللى خادته القرعه ، تخده أم الشعور ..إلخ) وغيرها من الأمثال العديدة التى لا حصر لها .

وتوارثت هذه الأليات وعملت أحيانا على نهضة المجتمع، وأحيانا على تراجعه ، وعندما ذادت نسبة التعليم ، أصبح هناك مسافة بين الموروث الشفاهى والشخصية المتعلمة ، ومع زيادة زحف الفكر الوهابى الدينى وألياته ،أصبح يناهض العادات والتقاليد، ويحرمها ،ويحل محلها العادات الصحراوية، والثقافة البدوية الوافدة ، فبدلا من السبوع الشعبى المصرى بكل طقوسة ، أصبح هناك " العقيقة " وغيرها ، وهناك  وللأسف الشديد بدأ ينجذب كثيرون نحو هذه الثقافة البداوية ، بحجة أنها هى الصح ،وما كان يمارس قديما هو تخلف ، وهذا من منظور دينى سلفى ضيق ، دون النظر الدقيق للدور الهدام الذى تقوم به هذه الثقافة الوافدة من بيئة وثقافة مختلفة على تفكير الشعب المصرى ولغته العامية أيضا ، الثقافة الشعبية المتوارثة منذ آلاف السنين دخلت فى نسيج الحياة اليومية . ولقد لاحظت أثناء الجمع وبرغم الصعوبات التى واجهاتنى ، أنه يوجد تشابها كبيرا بين معظم العادات على أختلاف الأماكن ، فالأختلاف يكون فى تفاصيل صغيرة ، ولكن الجوهر الحقيقى ثابت ، فمثلا عندما قمت بالجمع من أسرة مسيحية ، أكتشفت أن ليلة الحنة تتشابه فى التفاصيل ، وكذلك النقطة لأنها عادة مصرية تمثل التكافل الأجتماعى وليس لها علاقة بالدين بشكل مباشر ، فقد قال لى راوى وهو مسيحى : أنا يوم الحنة أصرت عمتى أنى أتحنى ، ويومها جاء رجل إلى البيت ومعه ميكريفون وجلس يجمع النقوط ،منذ الصباح ، فكان يقول محمد محمود نقط بخمسين جنيه ، وخمسة جنيه لخيره ، وجرجس تضاروس نقط بستين جنية وعشرة جنية لخيره وهكذا، كلما وضع أحدا نقطة فى الطبق أعطاه هو الأخر نقطة ، والنقطة عندنا يأخذها العريس أو والده حسب الأتفاق بينهما ومن تكفل بمصاريف الفرح ، ومعنى ذلك أنه دفع النقطة وفوقها خمسة جنيهات لجامعها أيضا ، وقال لى أن الحلاق ينقط ، والطباخ بعد الأكل الناس كانت تعطى له بعض النقود ، ويوم السبوع يتم رمى الخلاص فى البحر ، والوالدة تخطى على المولود داخل الغربال سبع مرات ،ويتم رش الملح والبخور وأعطاء الأطفال الحلوى ، ويتم تدحريج الغربال مثل العجلة فى البيت ، والأم تنزل بالمولود السلم والأطفال ورائها يغنون : سموا المولود سعد الله ، وعيونه السود سعد الله ، والداية ترش الملح وتزغرد ، وكذلك بعد الوفاة بثلاثة أيام يتم غسل ملابس الميت ، وتوزيعها على الفقراء ،ونحضر القسيس إلى البيت للترتيل وتبخير مكان صعود روح المتوفى ، وأهله لايطبخون أى طعام ، الأكل يأتى من عند الجيران والأهل ، وفى اليوم الثالث يتم عمل أكلة سمك ويأكل منها الجميع ، ومعرفش ليه سمك بالذات ؟ وهكذا إذا سردنا معظم العادات لوجدناها تتشابه بين المسلمين والمسحيين فهى ثقافة شعب عاش فى مكان واحد وأصل الجذر منذ القدم واحد والتاريخ واحد،ولكن الأختلاف فى بعض التفاصيل البسيطة والتى لا تشكل أى خطر على العادة فى أصلها ، فمعنى هذا أن العادات والتقاليد داخل نسيج الشعب الواحد تتشابه بعيدا عن الأعتقاد الدينى .

ومن خلال هذه المفارقة الحضارية ونحن على أعتاب أندثار ثقافة نيلية طينية سوداء زراعية ، لصالح ثقافة بدوية صحراوية ، وقصة الحرب بين الأله أوزير أله الزراعة، والأله ست إله الصحراء  تعود من جديد .

"فالشعب الذى يفقد عاداته وتقاليده يفقد هويته "

صفاء عبد المنعم

القاهرة 2012

 

كتاب داية وماشطة

  (مقدمة  ثانية) مع أنتشار مهنة الطب والوعى الصحى بين النساء فى المدينة والقرية ، وانتشار الوحدات الصحية التى تقدم خدماتها للنساء ، بدأت ت...

المتابعون