الاثنين، 30 ديسمبر 2019


عزيزى تشيكوف

لا أعرف لماذا أستدعيك فى هذا النص تحديداً؟
ولكن ما سوف أقوله لك سوف يكون محزننا، ويشبه كثيرا بعض المواقف التى كتبت عنها فى قصصك القصيرة، ربما تكون هذه الحكاية تشبه قصة (موت موظف) مع الأختلاف الكبير، أو تشبه قصة الحرباء، الرجل الذى يتلون حسب كل موقف، أو تشبه قصة الطفل الذى كان يريد ان يكتب خطاب إلى جده وهو لا يعرف عنوانه، لا أعرف بالضبط صدقنى، لماذا جاء ذكرك على بالى؟ هل أريد أن أكون مثلك وألقط المواقف والمشاهد الموجعة، لأسجلها للتاريخ ونحن نعيش فى القرن 21، مثلما نقرأ أعمالك الآن بأنبهار شديد، حقيقى لا أعرف، صدقنى.
جلستُ وأنا مضطربة ومتوترة، بسبب الجالس خلفى فى المقعد الذى ورائى بالضبط، منذ أنطلق الباص من ميدان التحرير فى تمام الساعة الثانية ظهراً، وإلى الآن وهو مازال يتحدث فى الموبايل بصوت مرتفع مع شخص ما، وكلما أنهى المكالمة أتصل بآخر وأخذ يتحدث معه بصوت مرتفع، صوته المرتفع مثبت ناحية أذنى، مما سبب لأذنى وطبلة أذنى أهتزازات كثيرة وعنيفة ومؤذية، فكل هذه الحوارات التى يتحدث فيها مع الطرف الآخر لا تعنينى فى شىء، ولكنه يصبها صبا فى أذنى، فكرتُ كثيراً أن أدير له وجهى وأتعارك معه، أو أقوم من مكانى، وأجلس فى مكان آخر ، دون فائدة فجميع الكراسى قد تم شغلها من قبل الركاب المرهقين والعائدين من يوم عمل شاق.
أخذت أحدث نفسى على أهدأ قليلا، وابتعد بفكرى عما أسمع، فقلت لها بهدوء، وبصوت خفيض(لم يعد الصح صح أو الخطأ خطأ، لم يعد للأحاديث الكبرى معنى، مافائدة الغضب الآن وكل شىء أصبح نسبى، فلو قلت للمتحدث الآن: من فضلك أخفض صوتك قليلأً، سوف ينهرنى ويقول لى أنا حر. ولو قلت له وأنا كذلك حرة، ولا أريد أن أسمع أحاديثك وحواراتك، سوف نشتبك فى عراك طويل وقد يتدخل البعض، قد يقف البعض فى صفه فهو حر يحدث من يشاء، والبعض الآخر سوف يقف فى صفى ويقول له وهى كذلك حرة ولا تريد أن تسمع أحاديثك وصوتك المرتفع، وربما نشتبك فى حوار بأس وممل ولن نصل فيه إلى حل) صمت قليلا لعله يهدأ أو يخرس أو ينفد شحن الموبايل.ثم عدت إلى الحديث مع نفسى مرة أخرى(يا عزيزى تشيكوف، ماذا كنت تكتب الآن لو كنت معنا فى هذه الأيام؟) حوارات كثيرة وأسئلة أخذت تدور برأسى،ومازال هذا الجالس خلفى يتحدث بصوته المرتفع.
وصل الباص عند محطة رمسيس.
صعدت سيدة ريفية، تبلغ من العمر حوالى الخامسة والخمسين أو أكثر قليلاً، وجلست على الأرض أمام باب الباص.
وقف السائق وأخذ يصرخ فيها : يا حاجة، من فضلك أدخلى، الباص فاضى.
وهى لا تنظر نحوه، أخذت تتحدث مع رجل عجوز جالس على المقعد الأمامى، خلف السائق.
-      - والنبى يا حاج، عايزة أروح الشركة.
-      ضحك العجوز وهو يبتسم فى هدوء : أى شركة يا حاجة؟
-      صرخ السائق ثانية : يا حاجة من فضلك أقعدى على كرسى.
-      قام شاب كان يجلس بجوار الرجل العجوز، وأمسك يدها وساعدها على النهوض ثم أجلسها على الكرسى إلى جوارى.
-      نظرت نحوى وقالت بنفاد صبر : والنبى يا ابنتى عايزة أروح الشركة.
-      أبتسمت لها فى هدوء : أى شركة تريدينها يا حاجة؟
-      قالت بفتور : أى شركة، المهم أبنى يشتغل.
-      هنا سألها الشاب الجالس بجوار الرجل العجوز لكى يساعدها : وأين أبنك يا حاجة؟
-      - فى البيت يا ابنى، عنده 3 أولاد وعاطل.
-      كتمتُ ضحكة خبيثة، وأنا مستفزة من كثرة حركتها جوارى، بالأضافة إلى رائحتها النتنة، وملابسها الرثة، كأنها لم تغيرها منذ شهور.
-      ثم قالت للسائق : أحنا يا ابنى وصلنا مدينة نصر ولا لسه.
-      قال السائق بفراغ صبر وضيق : لسه بدرى.
-      صمتت.
-      وكانت رائحتها المقززة لا تطاق. حاولت ان أسد أنفى، ولكننى لم استطع التنفس، ومازال الجالس خلفى يتحدث فى الموبايل بصوت مرتفع ويعقد صفقات، ويتحدث كأن الدنيا له بمفرده.
-      صعدت فتاة جامعية تحمل على يديها بعض الكتب، ووقفت أمامنا.
-      قالت لها المرأة  الريفية ،العجوز، الرثة : يا أبنتى أحنا وصلنا مدينة نصر.
-      نظرت البنت حولها بتعجب شديد لصمت الجميع، ثم قالت لها فى ود : لسه بدرى يا حاجة أحنا فى العباسية.
-      قالت المرأة : أنا عايزة أروح الشركة.
-      مالت الفتاة برأسها على المرأة بشكل ودود : اسم الشركة إيه؟
-      قالت المرأة : معرفش أى شركة وخلاص، أنا عايزة أبنى يشتغل، أبنى عنده 3 عيال وعطلان، ومعاشى مش مكفى.
-      قالت الفتاة : يا حاجة، أبنك هو الذى يبحث عن العمل.
-      غضبت المرأة منها، وقالت بضيق شديد ونفاد صبر : أنا أروح الشركة، وأقول لهم أبنى عايز يشتغل، يشغلوه.
-      صمتت الفتاة عندما أدركت أنه لا فائدة من الحوار مع هذه المرأة، واخذت تنظر نحو الركاب فى صمت شديد.
-      وكلما صعد راكب جديد، تقول له المرأة نفس الكلام، فى البداية فى ود مصطنع.. ويدور الحوار كلأتى : وصلنا مدينة نصر.
-      لسه يا حاجة.
-      عايزة اروح الشركة.
-      أى شركة يا حاجة؟
-      أى شركة وخلاص.
-      أروح أقول لهم أبنى عنده 3 عيال وعطلان.
-      يصمت الراكب، ويبحث عن مقعد فارغ بعيد كى يجلس عليه، وينشغل بالنظر إلى الشارع من خلال الشباك.
-      هكذا كررت الحوار  مع كل راكب يصعد، منذ كنا فى ميدان رمسيس حتى وصلنا إلى الحى السابع بمدينة نصر، وعند كل محطة يقول لها السائق أحنا فى مدينة نصر يا حاجة. تصرخ فى أذنه: أنا عايزة الشركة.
-      كنتُ فى جميع الحالات، أشعر بضيق شديد، وتقزز من رائحة المرأة، وكثرة حركتها المستمرة على الكرسى، وصوتها الذى يشى بالبؤس والفقر والعوز، وعدم وعيها بما تريد، ليس الموضوع بهذه السهولة التى تتحدث بها.
-      فهى تعتقد خطأ أن أى شركة تذهب إليها بقلب الأم، وتقول لهم أبنى عاطل وعنده 3 أولاد، وأريد له عمل، سوف يرحبون بها، ويلبون طلبها.
-      حاول معظم ركاب الباص شرح وتوضيح مفهوم العمل، وضوابطة، وضرورة وجود أبنها معها، والذى يظهر من حديثها أنه غير متعلم، ولا يجيد أى حرفة، ويبلغ من العمر حوالى 33 سنة كما قالت هى بفطرتها، إنها لا تستطيع أن تستوعب كل هذه الحوارات والنقاشات، ولا يهمها الحيثيات ولا الطريقة التى يتحدثون بها معها، ولا عبارتهم المنمقة التى يتحدثون بها. وهى لا تعرف ما اسم الشركة التى تريدها، هى كل ما تعرفه أن أولاد الحلال قالوا لها فى مدينة نصر هناك شركة تطلب عمال.
-      وجاءت من نجع حمادى لكى تذهب إلى الشركة، وتقول لهم أبنى لا يعمل.
-      وعندما صعدت فتاة جديدة بعد أن مل كل الركاب من الحوار معها، ووقفت الفتاة بجوارها، بدأت المرأة الريفية تعيد الكلام ثانية، كاملاً.
-      مما جعل الركاب يغضبون من تكرار الحوار، بكل محطة فى الباص ركب راكب جديد سمع الركاب القدامة الحوار كاملاً.
-      سفسطة.
-      تكرر الحوار السقيم العليل أكثر من خمسين مرة، فقالت لها البنت بحبور: يا حاجة المفروض أبن حضرتك هو الذى يبحث عن عمل لنفسه، لأنه هو الرجل، وحضرتك تستريحى فى البيت.
-      هنا غضبت المرأة من الفتاة، وكادت تجذبها من ملابسها بقوة غاضبة وهى تردد : أبنى فى البيت، وانا عايزة أروح الشركة، واقول لهم ابنى عاطل.
-      أخذ بعض الركاب يكتمون ضحكاتهم الخبيثة، كأنهم يشاهدون فيلما قديما لنجيب الريحانى مثلا.. فى غزل البنات، أو سلامة فى خير.
-      وأنا أخذت أستدعى الكاتب الكبير تشيكوف، لكى اشهده وأحدثه وأقول له : عزيزى تشيكوف ما رأيك فى هذا المشهد المحزن، سيدة ريفية هبطت إلى القاهرة بمفردها لكى تبحث لأبنها العاطل عن عمل فى الشركة التى لا تعرف اسمها ولا مكانها، ويتضح من كلامها أنه يستمرىء معاشها، وليس به أى نخوة حتى يبحث عن قوت أولاده.
-      عزيزى تشيكوف قول لى بالله عليك ماذا كنتَ تكتب الآن؟.
-      وعندما جاءت المحطة، نزلت فى سرعة وعجل، وتركتها جالسة على الكرسى، تتحدث مع الراكب الجديد الذى صعد منذ قليل وجلس مكانى، وتسأله عن الشركة، مع العلم أننا فى مدينة نصر الآن.
.................................................




.

فصل من رواية عطية الشمس

  (عطية الشمس)  رواية صفاء عبد المنعم -----------------------   إهداء إلى/ أبطال رواية من حلاوة الروح --------------------------...

المتابعون