الجميلة والوحش
"يالها من ليلة جميلة"
يوم زارنا خالى المجند فى الجيش، فى تمام الساعة العاشرة
مساءً من عام 1969.
كانت أمى على وشك الوضع. وجاء مع خالى الكبير كى يطمئن
عليها، يومها ضحكت أمى خائفة وقالت : عامل إيه ياقلب أختك؟
يومها ضحك بملىء شدقية الكبيرين، وجذبنى من أمام
التليفزيون، وأنا أشاهد فتاة صغيرة تلعب على الرمل مع الوحش الكبير، وتغنى له
أغنيات جميلة.
ثم مد يده على رأسى الصغير وهو يضحك : الله يارحمة شعرك
جميل.
ضحكت أمى، وهى تحاول مدارة دموعها التى تنهمر بسرعة،
وتجرى على خديها بكل قوة.
- ياحبيبى طمنى عليك.
ظل خالى الصغير يملس بيديه الحانيتين القويتين على شعرى وهو
صامتاً. وأنا مازلت أتابع بعينى عن بعد صورة الجميلة والوحش، ومازالت الفتاة
الصغيرة تغنى له بصوت رخيم محب.
وبعد إلحاح متواصل من أمى المرهقة بسبب الحمل، وأعبأ
البيت الثقيلة على كتفيها، قال خالى بنفاد صبر : خير، خير، كله تمام.
نظرت أمى نحوه بعينين حزينتين وخائفتين على شقيقها
الصغير، وهى تسمع كل يوم عن أخبار الحرب على الجبهة مع العدو، وزاد خوفها
أكثرخصوصاً بعد ضرب مدرسة بحر البقر ومصنع أبى زعبل. قال خالى الكبير مهدأ أمى
بكلمتين طيبتين : الحرب هى الحرب ياأختى!
وحش كبير يلتهم أرواح الشباب!
ثم قام واقفاً، وهو يحاول أن يربط رباط حذاءه المفكوك.
وخالى الصغير مازال يملس على رأسى بكل حب وحنان. وأنا مازلت أتابع الوحش الضخم على
الشاشة، والبنت الجميلة تغنى له أغنيات طيبة. وأثناء ماكانت البنت تغنى للوحش
وتهدهده بصوتها، سمعنا صراخا متواصلاً : طفى النور.
طفى النور.
مدت أمى يدها الكبيرة، وكتمت الصوت، كتمت صوت الغناء.
فظلت الصورة صامتة.
والوحش الكبير رابضاً يملأ الشاشة، والبنت ترتجف فى
رعدات صغيرة. لقد لمحتُ عن بعد، بعض الحركات الصغيرة المرتجفة فى جسدها، بعد أن
غاب الصوت، ظللتُ لدقائق معدودات أتابع حركة الجسد المرتجف.
وخالى الصغير مازال يداعب خصلات شعرى الناعم، وأنا جالسة
فى صمت فوق ركبتيه أراقبُ حركة الوحش، وصوت البنت.
بعد صفارة الأمان أنطلق خالى خارجاً من البيت، وهو يمسك
بقوة بيد خالى الكبير.
رأيته يرتجف، يرتجف بشدة.
بعد أيام قليلة، رأيتُ أمى ترتدى ملابس سوداء، وهى تحاول
كتم صراخها، وتردد بصوت كتوم حزين : ياقلب أختك ياحبيبى.