ليس بهذا الشكل تُحل الأمور ياهند!!
فى الصباح..
تشرب هند كوبين كبيرين من الشاى، ثم
تجلس على المكتب العريض، تتأمل الشارع من خلال النافذة.
هنا كتبت، وهنا جلست طويلاً، وهنا أخذت ترنو إلى الصور المعلقة التي رُسمت لها في الأيام الماضية،
والآن تكتب عنها، عن أشياء لا تعرفها، وتبحث فى جذور ماضية، كانت فى
يوم ما ثقافة شعب، ومنظومة كاملة للأخلاق.
فى الآونة الأخيرة ..
سقطت مطلقات، تزحزح التاريخ عن موضعه، وداعبت الأحلام آمال أناس كانوا فى يوم ما مشتتين
أو بعض رعاة، أو باعة جائلين .. وادعت بعض شعوب أنها صاحبة حضارات
كانت لشعوب أخرى .. ونحن الآن نتنازل عنها بمهانة وسهولة وعار.
فى السادسة صباحاً..
تصحو هند، وقبل أن تذهب إلى العمل، تكون قد شربت كوبين كاملين من الشاى.. ثم تنزل.
تسير فى شارع 26 يوليو، تتطلع إلى واجهات المحلات، التي فجأة أصبحت ضخمة وفخمة وبرخام فخم
وجميل وجذاب. رخام يجلب خصيصاً من جنوب أفريقيا، لتزين به الواجهات والمداخل.
حدثت نفسها : أنا لستُ ضد الجمال، ولكن لماذا كل هذا القبح المنتش؟ والسلوك الإنسانى أصبح
مذبذباً (بين بين).
تقطع هندالطريق من الزمالك إلى بولاق أبو العلا كل يوم مشيا على قدميها ، وهي ترى القبح الحديث فى المبانى والأبراج الجديدة وراءه جمال قديم
من المشربيات والبيوت القليلة المتناثرة فى بعض الأماكن على طول كورنيش النيل ، تعبر
كوبرى (أبو العلا) والذي بناه المهندس الفرنسى (إفيل)، والذي انتحرلأنه
أخطأ ، خطأ لا يقع فيه مهندس صغير مبتدىء،
ونسى أن يفتح الكوبرى لمرور المراكب الشراعية العملاقة فى ذلك الوقت ؟!
النيل يمتد أمامها متباهياً بخلوده.
أول ما يواجه عينيها مبنى وزارة الخارجية الجديد والذى بنى على شكل زهرة اللوتس البيضاء، الشموخ
والجمال والعظمة . تتأمل جمال زهرة اللوتس، وتخشى مراقبة الكاميرات
المتراصة عالياً فوق المبنى، تخفض عينيها وتسير ببطء، تمرق من الكوبرى
إلى الشارع، تنزل متباطئة فى إجلال وإكباروخشوع، وعيناها تتابعان جمال
المبانى القديمة والمشربيات والمقرنصات التى تنظر إليها بحزن من شدة
الاهمال والسقوط، وهى دليل حى على زمن ولا ومر بكل حكاياته وأساطيرة.
تتجه عيناها صوب مسجد السلطان الشيخ حسين أبى على المكنى بأبى العلاء قطب أقطاب المحكمة
الشعبية، وواحد من التاسوع المقدس فى المعتقد الشعبى المصرى، ويجلس
دائما بجوار رئيسة الديوان السيدة زينب أم العواجز كما يسميها المصريون الفقراء،
حفيدة الرسول ًص) أخت الحسن والحسين أبناء فاطمة، زوجة الإمام على بن أبى طالب كرم
الله وجهه، ورضى الله عنهم جميعا.
هنا فى شارع 26 يوليو بالزمالك ..
استيقظت هند من نومها مبكراً صنعت كوباً كبيراً من الشاى، وانتظرت طويلاً، مرور العربات التى
تدق فى رأسها، ولكنها لا تمر، توقفت جميعها فجأة، لتشهد هذا الحدث
الجلل .. لقد عرفت هند أنها تحب حمزة!
وصنعت كوباً آخر من الشاى، وانتظرت الساعات والساعات عله يأتى بقامته الفارعة وخطواته
السريعة، وفى النهاية اتصلت به، هاتفته صرخت فيه : كتبت قصة جديدة ياحمزة.
ضحك عبر الهاتف غير مباليا لصراخها وقال بهدوء بارد ومقزز : إزيك يا هند.
كانت المسافة التى بينهما شاسعة .. هو يعرف ذلك .. ولكنها أصرت أن تقربها، قرأت له مقاطع كثيرة من
القصة، وهو ينصت عبر الهاتف، وفحيح صوته يصل إليها.
ولكنها تواصل القراءة والمتعة .. كأنها أخيراً وجدت من يسمعها، ثم صرخت فيه ضاحكة : عارف ده معناه إيه؟
ضحك بفتور : معناه إيه؟
"معناه إنى بحبك"
أغلق الخط غير مصدق، ووعدها أنه سيزورها عند عودته من السفر. ولكن بعد يومين أتصلت به. فاعتذر عن ضعفه
وضعفها، ونصحها بالتأنى، والأختيار الدقيق، لأنه ليس هو الذى تريده بالضبط.
وقال لها : ليس بهذا الشكل تحل الأمور يا هند!
سمعت .. صوت أم جابر يناديها من بير السلم.
- يا ست هند .. يا أستاذه.
أطلت هند من الباب، ونادتها : اطلعى يا أم جابر، اطلعى يا وليه.
أخذت تصعد الدرجات فى صعوبة وتعب، ثم وقفت قليلاً، وأسندت يدها على كتفها وقالت بإرهاق
شديد : إزيك يا بنتى
.. إزى حالك.
ضحكت هند وأخذتها من يدها وأدخلتها.
- إيه يا وليه يا عجوزة .. تعبتى؟
دخلت أم جابر وهى تلهث : يالله بقى حسن الختام.
دخلت هند، ثم توجهت نحو المطبخ، وضعت براد الشاى على النار، وضحكت : الدهن فى العتاقى يا وليه.
قعدت أم جابر وتربعت على الأرض، ثم فرشت الورقة التى فى يدها وقالت : تعالى باسم الله ..كلى
معيا ياست.
خرجت هند من المطبخ حاملة كوباً كبيراً من الماء وهى تضحك : إيه يا أم جابر..
جايبه عشاكى معاكى؟
ضحكت أم جابر، وظهرت سنتها الوحيدة التى فى فمها : ما انتى عارفه
يا ست الكل .. مابقاش فيه سنان، ولازم آكل لقمة طرية.
فردت اللفة المغلقة أمامها، فظهر كباب
ساخن وطرب ولحمة مشوية على السيخ، ورائحته الشهية تفوح وتملأ المكان.
ضحكت هند وهبدتها على كتفها : لقمة طرية، ولا لقمة مغمسة؟
انكسفت أم جابر، ودارت وجهها بيدها : يوه يا ست هند .. أنا طول
النهار شقيانه، وبقالى أسبوع بسدد فى تمنه للواد عتره اللى شغال هناك،
فى المحل اللى جنب محل الدهان اللى فى شارع 26 يوليو ببولاق أبو العلا.
ثم مدت يدها لهند بقطعة كبيرة : خدى
يا بنتى دوقى بألف هنا وشفا، مدى أيدك باسم الله.
ردت هند يدها فى تواضع وخجل : كُلى أنت يا أم جابر
بألف هنا وشفا على بدنك .. أنا سبقتك .. لكن هاشرب معاكى شاى.
ثم قامت واقفة، واتجهت ناحية المطبخ.
صاحت أم جابر ضاحكة : هو الزبادى أكل ياست؟
وأكيد شربتى عشرين كوباية شاى على ريق النوم.
خرجت هند من المطبخ حاملة أكواب الشاى فى يدها، كوباً كبيراً لها، وآخر لأم
جابر، ثم جلست على الكرسى الهزاز الكبير المقابل للنافذة، بحيث ترى الشارع،
ووجه أم جابر التى مازالت جالسة على الأرض تأكل فى هدوء وصمت.
"وجه مصرى
قديم منحوت من طمى الأرض، كأنه منذ عصور قديمة ، وجه لكاهنة معبد ، أو من حاملات
القرابين، كأن نحاتاً حاذقاً قام بصنع الخطوط
والتعريجات واللون البنى الذى يحمل تراب السنين، عينان
عسليتان عميقتان، غائرتان، صافيتان مثل ماء النيل، وأنف شامخ، وجبهة عريضة
خطت السنون عليها العبر، وشفتان رقيقتان، رقيقتان،
كما وصفهما الشاعر الشعبى وأبدع، والرقبة كوز العطشان، كما
قال".
تنهدت هند داخلها وهى مازالت تتأمل فيها : أكيد فى يوم
من الأيام كانت أم جابر تحمل سمت ما من الجمال!
أدركت أم جابر بحسها الفطرى أن هند تتأملها، فضحكت : تعرفى يا ست هند وأنا صغيره كانت حلاوتى
مانعه .. كان شعرى أصفر وطويل يوصل لحد خلخال رجلى، وعودى ولا
عود الزان.
ضحكت هند وسخرت منها : وأظن هاتقول لى كانت عينيكى خضره شعرك أصفر، وأمك أميره
وخطفها الجن من القصر الكبير، وأجوزت أبوكى الفلاح، وتحكى لى
حكاية غريبة عن الجن والعفاريت زى اللى بتحكيهم لنور.
ضحكت أم جابر، ودست فى فمها قطعة كبيرة من اللحم : طب وحياتك .. ومن نبى النبى
نبى .. كانت عينيا ملونه وزى العسل، وكنت أمشى، تتشهى عليا الرجاله،
طب أنتى عارفه يوم ما اتولدت، أمى سمتنى فج النورعشان حست بنور خارج
منها.
رفستها هند بقدمها بغيظ : يا وليه يا فشاره .. ليه نبيه!
أكملت أم جابر حديثها : طب إنتى عارفه
كان حمايا مسمينى إيه؟
الشاميه على اسم جدتى أم أمى .. كانوا بيقولوا كانت من بلاد الشام وطابع الحُسن فى خدها هياكل
حتة منها أكل .. وكان حمايا يقعد يضحك وينادينى : بت يا شاميه تعالى جنبى.
أقوله فى خجل : نعم يابا.
يقولى : ألا هو أبوكى جاب إيه بالمهر الخمسة جنية اللى دفعتها؟
أقعد أعدله على أيدى : جاب يابه (كردان دهب دورين بعروسه، وجاب طشت نحاس وأبريق
مياه، وطشتيه صغيرة ألمونيا، ولحاف ومرتبه ومخدتين، والعشا
بتاع العروسة، وفطير الصباحية، والكحك والبسكويت).
يضربنى بعصاه الغليظة ويقول لى : يا بنت النورى دوول بس بالخمسه جنيه اللى
أنا دفعتها لأبنى مهرك!
وفضل لحد ما مات الله يرحمه، وهو يسألنى نفس السؤال : خدى يا بت
يا شاميه، أبوكى جاب إيه بالخمسه جنيه. وأقعد أعد له لحد لما يزهق
وينام.
ضحكت هند ضحكاً عميقاً، كأنها لم تضحك من قبل : ليه هو كان عايزك تشترى البلد
كلها بالخمسة جنية؟
عقول بقى يا ست هند، هنقول إيه، الخمسة جنية سنة 1919 كانت ممكن تشترى
فدانين أرض وأكتر.
تعتدل هند فى جلستها : طب قول لى يا أم جابر .. حكايتك.. أحكى لى الحكاية، أنتِ
أصلا منين، أصل جدودك؟
تربعت أم جابر فى جلستها على الأرض، ثم جمعت الورقة التى كانت تأكل منها
أمامها وطبقتها بحرص على الباقى من الطعام، ومصمصت أصابعها ثم رفعت ذيل جلبابها
ومسحت يدها وفمها، وأمسكت كوب الشاى ورشفت رشفة طويلة بتلذذ وصوت مرتفع، وقالت
:
"شوفى يا ستى، وما ستك إلا أنا.. صلي على النبي، قولى عليه الصلاة والسلام زيدي النبى كمان
صلاه.
زمان أمنا كانت تسيبنا قطط عمى مع ستي فى الدار، وتروح الغيط مع أبويا، كان
يبقى الغيط بعيد فى بلد تانيه، واحنا نفضل مع ستى أم أمى، هى اللى
ربتنا ..أمي كانت تاخد العيل الصغير اللى لسه مولود، أو لسه بيرضع معاها، وتفوت اللى
أكبر منه. كنا كلنا لحمه حمره صغيرين، وكانت ستى تأكلنا
وتسقينا ببقها زى الحمام، وفين وفين تلاقى العيل من دوول كبر ومشى، وفى
السنه التانيه تيجى أمى تولد، وتسيب العيل اللى معاها.. يبقى أبن سنه،
كانت زى الأرنبه، بتحبل ع الأربعين. كنت أنا التالته فى ترتيب أخواتى. كان قبلى
أخت كبيرة وولد.
وفى يوم من ذات الأيام ..
والله فاكراها زى ما نكون دلوقتى، وكل ما أفتكرها شعر راسى يطقطق
وجسمى يقشعر. جت أمى من الغيط عشان تولد. كنا فى طوبه .. قلب
الشتا. وكانت ستى كاسره الركيه وعماله تعمل لنا رقاق
رشته على الصاج عشان نتعشى، والدنيا كانت برد وبتشتى وزى الرصاص.
جت أمى تنتفض وسخنة نار زى الفرن، وقالت : الحقينى يا مه هاولد. جريت ستى ونيمتها
على الفرن الكبير. أتارى القرن طش منها فى السكه وهى راكبه الحمار.
أوام، أوام، ستى ولدتها، كانت بنت. وأنا كنت بنت تمن تسع سنين، لكن ماخفتش ووقفت أساعد ستى، وأجيب لها
الميه السخنه. وأختى الكبيرة واقفه زى خيبتها تتفرج علينا.
وبعد أمى ما ولدت.. تانى يوم.
بصينا لقينا جتتها قايده نار وبتترعش، وعماله تهزى بكلام، وتقول: ولادى، ولادى. وكلام مش
مفهوم. وبعدين نادت عليا وقالت لى: تعالى يا عين أمك تعالى .. خدينى
على صدرك.
قلت لها : يامه انتِ كبيرة وتقيله عليا.
قالت لى : لأ متخافيش، أنا خفيفه، خف الريشه، شوفى أمك خفيفه
إزاى، عايزه أوصيكى على أخواتك .. أمانة خالى بالك منهم.
قلت لها : يامه أنا لسه صغيره، وصى أختى الكبيره.
ضحكت، وقالت : لأ إنتى حنينه، وقلبك كبير،
أخواتك أمانه فى رقبتك، وسكتت. على ما ستى عملت لها الحلبه تشربها.
كان سر الإله طلع. أتارى جت لها حمى النفاس، واحنا ما نعرفش. خدت أختى الصغيره
اللى لسه مولوده فى حضنى وقعدت أبكى. راحت
ستى وخداها منى ومرضعاها من أمى وهى ميته. قلت لها : ليه كدا يا ستى
حرام عليكى؟
قالت : خليها تموت، هو احنا ناقصينها، ولا
عايزين بنات.
وفعلن بعدها بكام يوم أختى ماتت. وبعدها بسنه ستى ماتت، والسنه اللى بعدها أختى الكبيرة أجوزت وماتت هى كمان. وفضلت أنا والعيال
الصغيرين. كانوا ولدين وبنتين، وبيقولوا لى يامه.
وأبويا هج منا، سبنا فى الدار
لوحدينا، وفضل هو فى الغيط لوحده، ورفض يجوز تانى بعد أمى لحد مامات. أصلها كانت بنت
عمه، وهو كان بيحبها قوى، وفضل ييجى لنا من الزرعه للزرعه، يجيب الغله
ويقعد يومين، وبعدين يمشى. وأنا ربيت العيال الصغيرين، بنتين وولدين، وكان ليا أخ
كبير، هو اللى ورايا على طول، أصل أمى بطنها كانت بتفسر مره ولد ومره بنت، كان
يحب المغنى والمواويل، وفى يوم طفش منا، وسرح ورا الغوازى فى الموالد والأفراح والمغنيين
وكان بيحب يغنى موال حسن ونعيمه وأدهم الشرقاوى، وياسين وبهية، وذات الهمة، وعلى
ابن أبى طالب، والسيرة النبوية، وغيره وغيره من السير، ومن بلد لبلد ، ومن مولد لمولد.
وأنا دايره أدور عليه، وأسأل عنه الخلق، وأسوق عليه طوب الأرض إنه يرجع
عن اللى فى دماغه، ما يرجعش، وفى يوم كنا فى الشتا.. زى دلوقت، كنا فى
طوبه لأ فى أمشير، ولقيته داخل علينا ومعاه
واحده غجرية من الغوازى، ومعاه عيش وحلاوه من السيد
البدوى، قعدنا واتعشينا، هو وهى دخلوا القاعه ونام. وقمت فى الفجر
أدور عليه عشان يصلى الفجر مالقتوش، فص ملح وداب. بعدها بكام يوم سمعت
إنهم لقو جتته متقطعه ومرميه فى الترعه. الناس عرفته من
الوشم واسمه اللى كان مكتوب على دراعه. أبويا رفض يدفنه. وقال : ولا ابنى ولا
اعرفه.
واخويا التانى الصغير هرب من البلد. وأنا رحت لفاه فى الشاش الأبيض اللى
على راسى وبيساه ودفناه فى ترب الصدقه، وبعدها بزمن وسنين، بعد
ما أجوزت وخلفت ابنى جابر، رحت ضيفه عند أخويا
الصغير ومعرفش إيه اللى جاب السيره وفتح الموضوع، عرفت إن هو اللى قتل أخوه.
ولما سألته : ليه كدا هان عليك أخوك؟!
قالى : هاتسكتى، ولا أخليكى تحصليه. كنتى عايزاه يعرنا، ويسرح ورا الغوازى،
عايزاه يطلع مغنواتى هو احنا لنا فى الكلام الفارغ
ده! عايزاه يبقى برمكى؟
ومن يومها حلفت ما أنى داخله له دار تانى. ولحد النهاردا ما دخلت داره. أخويا أجوز وخلف
ومات. وعمرى ما خطيت العتبه. إيه .. الدنيا الحلوة راحت يا بنتى. فين أيام ما كانت
أمى تجمعنا حواليها، وتقعد تغنى لنا، وتحكى لنا الحواديت. كان صوتها جميل. عرفت
أن أخويا اللى مات طلع صوته حلو زيها، حب الغنا منها. فى يوم سمعته وأنا
بحط الذرةعلى السطوح بيقول موال :أنا جمل صلب لكن علتى الجمال.
قلت له : الله صوتك حلو يا محمد، جبت الكلام الحلو ده منين يا خويا؟ قالى :
من الدنيا الواسعه يا بنت أبويا.
قلت له : طيب سمعني موال تاني.
قال : يا للي ابتليت بالغرام،
إياك تحسب الغرام
ساهل،
أنا حبيت أعوم بحر المحبه وأحسبه
ساهل،
وقعت ما دريت قالتلي
الناس تستاهل.
وحق من أماته كان جدع تختشى العين تراعى له، طول بعرض بجمال. ميعظمش على اللى خلقه، كان شنبه لسه مخضر،
وعوده أخضرفارع، وفى دقنه طابع الحُسن هياكل منه حته، كان الخالق الناطق
شبه المرحومة أمى. كنت أحبه لله فى لله، ياريته كان فضل وإنشالله طلع زمار، ولا
طبال. أهو كان أحسن من المخفى أخويا التانى . أخد ورث البنات وكوش على الدار والغيط،
وطلعت يا مولاى كما خلقتنى. كان خشن وقلبه جاحد، فكرك كنت أطلب منه حاجه.
ولا عمره عمل زيارة وقال أشوف اختى. تعرفى أنا يوم ما جيت أتجوز. أبويا رفض إنى
ألبس توب الفرح أو أركب الترومبيل إلا لما أدلق ربع الجوره بتاع الميه الوسخه. وليلة الحنه ماجبليش
محففه تحففنى زى البنات ليلة الحنة. كنت هاروح بعبلى وشعرى، ألا لولا واحده حبيبه زيك قالتلى
: خدى الحجر الخفاف ده يابنت واطلعى على البحر
حُكى نفسك، وادعكى أديك ورجليك جامد لحد الشعر مايطلع منهم.
خدت الحجر، وطلعت على البحر وفضلت أدعك فى أديا ورجليا لما بقوا قشطه، وبتراب المحمه
شلت الشعر من العانة ومن تحت بطاطى، وجبت حُمره حمرا من عند العطار، وقعدت أدعك وأحط
فى خدودى، ومن هباب اللمبه سويت حواجبى. طب انتى عارفه. إحنا
كنا ساكنين فى شارع طويل، وآخره حاره سد، وكان قدام بيتنا وسعايه كبيرة،
وكنا زارعين فيها شجرة جميز وشجرة نبق، جريت وقعدت تحتيها أبكى بصيت لقيت
ملاك لابس أبيض فى أبيض ونازل من السما وبيمد إيده ويملس على شعرى،
ويقولى : متخافيش يافاطمة، أنا معاكى.
وبعد شويه زى ما يكون اتخيلت بأمى وستى
واختى داخلين على القاعه، وواقفين حواليا وانا بلبس الفستان الأبيض القديم، بتاع
أختى اللى ماتت، وعمالين يسرحوا لى شعرى، ويعملوا لى ضفاير، ويزوقونى.
وبقيت زى البدر فى ليلة تمامه، ولما فتحت عينيا أعدت أنده : يا أم، يا ستى،
ياأختى. والله فاكراها زى ما نكون دلوقت. وكانت ساعه مغربيه
والعريس على وصول، والله يا بنتى كل ما افتكرها الدمعه تفر من
عينى وتصعب عليا نفسى، أعمل إيه ما هو اللى من غير أم حاله يغم ، وأنا
لا أم ولا أخت ولا جاره ولا حبيبه. أبويا كان مقاطع الجيره وجيرة الجيره.
وحياتك، حلف بالطلاق ما أركب، ولا ألبس ولا حد يروح معايا الفرح فى البلد اللى كنت
ريحاها، وحرم على أخواتى البنات حد منهم يركب الأتوموبيل، ويجى معايا، ولا عمل لى
عشا زى البنات فى ليلة الدخلة، لولا واحدة حبيبة زيك، كانت صاحبة أمى الله يرحمها،
خزبت لى عيش طرى، ودبحت لى دكر بط وجوزين حمام، وحطتهم لى فى شنطة الترومبيل، قال
إيه، كان زعلان عشان أجوزت فى بلد بعيدة وسبت أخواتى الصغيرين لوحدهم. والناس كانت واقفه أمم
كتير على الباب سبحان الله، أعمام العريس وأخواته البنات والرجاله، وأهله
كلهم كان خاله عمدة البلد، وعامل فرح كبير
هناك. وسابنى أبويا
أروح لوحدى زى العازبه. ورحت عند دار العريس فى بلدهم. بقى كله يخبط كف على كف
ويقولو : إيه العروسه اللى جايه لوحدها. وجايه من غير رجاله وراها ولا
أهل. وجه جوزى عشان يشيلنى ويدخلنى الدار.
قلت له : لأ .. أنا هادخل لوحدى.
أنا كنت تخينه وزى البطه. وهو كان زى العصايا. هيشيل
بقرة إزاى. أتاريه كان متراهن مع أصحابه. وأنا
ماعرفش. هياخد حته حشيشه مكن وحياتك. فتحت
الباب بتاع الترومبيل، ورحت نازله منه،
وداخله الدار، وجريت على جوه المندرة الكبيرة اللى فيها الحريم زى القطر، وقعدت على الكنبة وسطهم، والكلوبات
منورة فى كل حتة.
بقت الناس اللى واقفة، تقول : إيه العروسه الجامدة دى!
وجه مع الداية، عشان ياخد وشى .. العرض .. مبقاش عارف يحط
صباعه فين؟ شاب وغشيم. رحت رفساه برجلى، وقلت له : أوعى أنتَ عايز تضحك
الناس علينا. ورحت ماسكه الشاش ودبه صباعه فى نفسى زى القردة.
راح الدم طالع. جم النسوان يدخلوا. قالهم : خلاص خلاص. وراح رامى الشاش فى وشهم وعاملى فيها عنتر.
ويوم ورا يوم..
اكتشفت أنى خدت راجل عره. طول النهار قاعد على القهوه يلعب قمار.
ويقول : أنا جدع.
وسابنى لابوه الرجل الكبير العجوز الأعمى، يبهدل فيا، كان بخيل موت. وساكك على الأكل. ولما
الجوع يقرصنى. أقوله : يا راجل اشتغل زى خلق الله. فلح فى
الأرض بتاعتك، أزرع زى الفلاحين.
يضحك ويشقلب راسه لورا. ويقول : هو فيه
رجل بيه بيشتغل فى أرضه يا مره .. أنا بيه .. وخالى العمده.
أبوه لما مات، فضل يبيع الأرض قيراط ورا قيراط. ويرجع من القهوه
خسران ومحشش. ولما أطلب منه قرش نجيب عشا. كان يمسك البلغه
اللى لبسها في رجله، ويفضل يضرب على راسى .. يضرب
يضرب لحد لما كان الوش يروح فى ناحيه والنعل فى ناحيه. ومره جاب
رطل لحمه، واداه لأخته تسويه. وقعد ياكل. وجه ابنه من بره. وقاله : هات
حته يابه.
مسك اللحمه على طول دراعه. وقال للكلب : كشك.. وراح رامى له اللحمه. ومرضيش
يدى ابنه حته. يعنى للكلب ولا ليك يا مسلم. رحت تانى يوم وحياتك بايعه فردة
الحلق اللى فى ودنى. ومشتريه رطل لحمه من عند الجزار، وسويته وناديت عليه وقلت له : تعال يا قلب
أمك كُل لما تشبع. ورحت قافلة عليه باب المندره، بالمفتاح.
ولما جه أبوه من بره. وسألنى : فيه أكل إيه يا مرة؟
لطمت على خدودى، وقلت له : جاك مر خره. هو
انت سبت نكله عشان تطفح. ورحت ساحبة مشنة العيش وطبق الجبنه، وقلت
له : كُل.
قعد ياكل زى المساكين. تفتكرى دى عيشه دى؟
هجيت. خدت الواد والبنت صغيرين، وطلعت
من البلد، بلد تشيلنى، وبلد تحطنى. لحد ماجيت مصر، وقعدت جنب
جامع السلطان أبو العلا حوط علينا وسترنا،
أو مال أنا بحبه ليه.
والواد اشتغل واجوز. والبنت اجوزت وخلفت. في الأول قعدت بشوية فول سودانى وبلح ناشف،
ولب وحمص وحلاوة. وبعدين بليت شوية ترمس. وحبه حبه كنت كل مولد أبل شوية فول نابت.
وأجيب شوية شخاشيخ ولعب أطفال، واعمل منديلين بقويه. وأعد أنده
على العيال : شمر كمك وعيط لامك وهات تعريفه. وفضلت من مولد لمولد.
والحبايب تكتر. وعملت دروا ورا المسجد عند عطفة باب السر وبعدين حوطها
بخيش على قالبين طوب واهى ماشيه".
صمتت هند ولم ترد ..
وقامت أم جابر من مكانها على الأرض، ودخلت إلى المطبخ، تضع الأكواب الفارغة.
وبعد أن أغلق حمزة الخط على صوتها الرقيق.
بعد يومين من معرفته خبر حبها الذى فاجأه، والقصة التى كتبتها. اتصل بها وأعتذر عن سوء تصرفه.
وتعاطفت معه وصدقته.
ومن هنا..
ومنذ هذا اليوم عرفت هند كيف تعشقه.
وكيف تجعله يتعلق بها.
فى البداية ولأيام طويلة. كانت تفكر جيداً كيف صدقته. بعد أن قال لها : لستُ أنا.
كادت أن تنهره. أن تغلق الخط فى وجهه. أن تسبه. أن تقول له : طظ فيك.
ولكنها لم تفعلها. وكلما أدارت قرص التليفون، وسمعت صوته آتياً من بعيد، تعلقت به أكثر وعشقته.
انتهت أم جابر من غسل يديها، والأكواب، وجلست على الأرض فى أسى. ثم نادت على هند : وأخرتها يا بنتى؟
انتبهت هند إلى صوتها : أيوه ياأم جابر!
دارت أم جابر فمها بطرحتها وهى تضحك بسألك : وأخرتها؟
أخذت هند نفساً عميقاً، وملأت صدرها بهواء الليل البارد : مالهاش آخر.. مدفوعة ناحيته
وبحبه من غير قصد أو تفكير.
يا بنتى الرجل كل ما يلاقى الواحدة ساكته وسهله ومستسلمه له بيطمع. واللى مايخافش من ربنا خافى منه.
نزلت دمعة صامتة من عينى هند ولم تعلق. كل ما فعلته. أخذت تنظر
إلى البيوت والشارع، وبعض المارة السائرين. ومئذنة السلطان العالية
وهى تستدفئ بشالها وتحبكه حول كتفها بقوة.
- كل يوم يا أم جابر. أقول هاسيبه. ماقدرش.
- وأخرتها.
- فيه حاجات ملهاش آخر.
مابنسألش إيه أخرتها. لكن نفضل مدفوعين كده زى ما يكون حد بيزقنا بايده.
- الشيطان يا بنتى هو اللى بيزقك على الغلط.
- هى كدا علاقتى بيه ملهاش حل.
علاقة لا تنتهى. لكن بتسبب لى آلام عظيمة وكبيرة.
- ربنا يهدى.
أخذت أم جابر طرحتها، وقامت واقفة. لأنها تعرف أن هند سوف تدخل فى حالة من البكاء الشديد،
وسوف تدخل حجرتها لتنام. وهى لا تحب أن يراها أحد هكذا مهزومة
وحزينة. تقوم أم جابر تفتح الباب، وتنزل درجات السلم وهى ترفع صوتها.
- تصبحى على خير يا ست هند. وقولى اللهم اخزيك يا شيطان.
**** **************************