كوب يانسون ساخن
كانت يداها باردتين لدرجة لا تقارن بأيام
الشتاء السابقة. حينما وضعت كوب اليانسون الساخن أمامها على المنضدة.
وكم من مرة جلست هكذا تحتسى كوبا من اليانسون
الدافىء فى ليل الشتاء البارد، وخاصة فى شهر طوبة وهى تحاول أستعادة الذكريات
القديمة منذ سنوات هاربة.
كان لديها طموحاً طاغياً أن تصبح صاحبة مشغل
كبير، وحولها فتيات جميلات يشبهن زهور النرجس، يلتففن حولها يتعلمن منها سر الصنعة
ودقة الخياطة والتمكين، ومن مجرد نظرة يتم التعرف على الموديل والمقاس المناسب
للأحجام أو الحجم الذى أمامها، وكم من ليلة جلست تفكر وتخطط وتدرس وتتعلم لهذا
اليوم.
وهاهو صوت فيروز يملاءالحجرة نغماً، وأنساً، وهى
مازالت تتابع جميع المشاهد التى أمامها على شاشة التلفاز.
جلست تفكر وتفكر.
وفجأة يتناهى إلى أذنيها صوت فيروز الناعم
بأغنية (بأكتب أسمك ياحبيبى..) كم من مرة سمعتها طوال عمرها الطويل؟ وهى صغيرة،
وهى مراهقة، وهى شابة، وأم وزوجة (الكل باطل وقبض الريح) ماالذى جاء بهذه الجملة
فى هذا الوقت تحديداً، وهى الهادئة تستمع، وتستمع بالصوت الهادىء؟
لابد أن هناك فى الجو كائنات وأشارات حولها!
مدت يدها رفعت صوت التلفاز كى تسمع صراخ الأم
الملكومة واضحاً، والذى ظهر فجأة على الشاشة.
لم تقل الأم شيئاً، فقط قالت : عوض عليك،
ياصاحب العوض.
وهى تسير خلف جنازة أبنها المهيبة، والتى خرج
فيها جميع أهل القرية.
إنها جنازة عسكرية.
هكذا قالت لنفسها وهى تغلق الصوت، وتترك
الصورة تتحرك أمام عينيها.
تذكرت كم من مرت قال لها : ياأمى.
وكم من مرة، وضعت يدها على رأسه بعد كل صلاة،
ودعت له بطول العمر؟
رفعت رأسها عالياً نحو السقف، رأت صورة أبنها
معلقة عالياً، وهو يبتسم أبتسامته الخفيفة الصادقة.
دمعت عيناها بعض دمعات قليلة، ثم عادت تفكر
"ياالله كم أضعت من عمرى، وأنا فى هذا المكان، اسمع نحيب الأمهات الثكلى،
وأرى دمعوهن الغزيرة، تنهمر من عيونهن الحزينة.
جاء صوت آذان الظهر من المسجد القريب، قامت
من مكانها نحو الحمام، وهى تسير بخطوات ثقيلة، وتمسح دموعها بظهر يدها، وهو تستعد
للوضوء لصلاة الظهر.
دخلت الحمام، وأغلقت الباب عليها بأحكام
شديد، ومالت برأسها أسفل صنبور الماء وفتحته وهى تستغفر وتواصل دعائها لأبنها الذى
رحل وتركها وحيدة منذ سنوات طويلة.
وبعد أن أنتهى الآذان وأختفى صوت المؤذن،
فتحت الباب، وخرجت غارقة فى دموعها الغزيرة.
**************************************