أظن أننى فى حلم جميل
أمسكت عن الكلام حين طلب منى أخى والذى يصغرنى بخمس سنوات
(طبق بامية) جديد، وقال وهو يهز رأسه بفرح
وسعادة : عارفه صديقى ماتيوس الخبير الألمانى الذى جاء معى بالأمس، أعجب أشد
الأعجاب بالبامية التى أكلها عندنا أمس، وهو يريد أن يأكل منها مرة ثانية .
ثم خفض أخى صوته، وأصبح يشبه الوشوشة :
ماتيوس صديقى وقع فى غرام البامية ياقطة منذ الأمس، وطلب منى أن يأكل اليوم منها،
وهو الآن جالسا فى حجرة الضيوف بالدورالأرضى ينتظر الطعام .
ثم أنسحب أخى من أمامى وهو يكاد يقهقة غير
مصدقا "أن شابا ألمانيا، وقع فى غرام طبق البامية المصرى" والذى صنعته
له بيدى أمس، وظل طوال اليوم فى المصنع يحدث العمال والمهندسين عن طعم البامية
الخرافى، ويصفق مثل طفل صغير فرح بلعبة جديدة.
دخلت الحجرة عند أمى بعد أن أنتهت من صلاة العصر، وأنا أضحك بصوت خفيض،
وأحاول أن أدارى فمى بيدى حتى لا تظن أننى جننت، وبعد أن ختمت الصلاة وجلست على
السرير، قلت لها بصوت خفيض ضاحكة : ماما ماتيوس المهندس الألمانى الذى جاء بصحبة
أخى أمس، وهو موجود الآن بالدور الأرضى فى حجرة الضيوف، يسأل عن طبق البامية .
ضحكت أمى وهى تسبح على أصابعها، وقالت فى غير
أكتراث : وماله أطبخى له طبق بامية جديد .
ضحكت وأنا أحاول ألا أبدو بلهاء أو موتورة :
ماما باقى طبق بامية فى الثلاجة منذ الأمس، وأولادك رفضوا تناولها، وأكلوا بطاطس
محمرة، وبيض مسلوق، وجبنة وسلطة
قالت وهى تسحب سجادة الصلاة من على الأرض،
وتقوم بوضعها فوق الكرسى بجوار السرير : خلاص تاهت وألقناها، سخنى طبق البامية،
وقدميه مع طبق أرز طازج، وسلطة .
خرجت من الحجرة، وتركت أمى لتسبيحها، ودلفت
إلى المطبخ، وأخرجت حلة البامية البائتة من الثلاجة ووضعتها على النار، وصنعت أرزا
طازجا وطبقا كبيرا من السلطة ، وناديت على أخى وأخبرته بما حدث .
صعد أخى إلى الدور العلوى وهو مازال يضحك،
وكأن هناك من يقوم بألقاء بعض النكات الضاحكة له حتى لا يهدأ، وقال لى وهو مازال
متعجبا : عارفة صديقى ماتيوس المهندس الألمانى الذى معى الآن فى حجرة الضيوف، طلع
أبن نكته وبيحب مصر بشكل هيستيرى مدهش، وطلب منى بعد تناول الغداء، أن يذهب إلى
القلعة، والسيدة عائشة، وجامع عمروبن العاص، وأبن طالون، والسلطان حسن .. إيه رأيك
تحبى تيجى معنا ؟
ضحكت، وخبطت أخى على رأسه وأنا أهدده : فوق
أنت فاكر نفسك فين، أنت فى مصر، أزاى أروح معاك أنت وصاحبك ؟
ضحك أخى وهبدنى على رأسى بقوة، وقال لى وهو
مازال غارقا فى الضحك : والله أنتِ اللى مخك طاقق وعبيطة، هو ولا فارق معاه الكلام
ده خالص، هو عايز يعيش فى جو من الروحانيات، وطلب منى حضور الأسرة، خصوصا وأن معنا
عربية بسواق، والرحلة على حساب المصنع، لقد أختار ماتيوس أن يعيش معنا فى البيت
لمدة أسبوعا كاملا، أطمنى سوف يأكل حلة البامية كاملة .
ضحكت وأنا أضع صينية الطعام على المنضدة أمام
أخى، لكى يقوم بحملها إلى الدور الأرضى، ثم عدت إلى أمى فى حجرتها، وأنا غير مصدقة
ماقاله لى أخى منذ دقائق، ورغبة المهندس الألمانى فى البقاء معنا لمدة أسبوع، بحجة
أنه يريد أن يعيش مع أسرة مصرية أصيلة، بدلا من الجلوس بمفرده فى فندق فخم .
تعجبت أمى كثيرا وهى تقوم بتطبيق الغسيل،
وأنا جلست إلى جوارها كى أساعدها، وقالت منتشية وسعيدة : والله يابنتى الخواجات
دول عليهم أفكار ودماغ .
ضحكت بخبث شديد : ياأمى الخواجة يريد أن
يشاهد معالم مصرالأسلامية، بصحبة أسرة مصرية، مارأيك فى رحلة إلى الأماكن الأثرية
بصحبته ؟
ضحكت أمى وزمت شفتيها بسعادة بالغة : وكمان
عازمنا على رحلة فى بلدنا، والله اللى يعيش ياما يشوف .
قامت أمى واقفة، وأنا أتبعها، وأرتدينا
ملابسنا، وهبطنا إلى الدور الأرضى، حيث يجلس أخى وصديقه .
قال الصديق وهو يحاول أن يخرج الكلمات بدقة
ووضوح وبلغة عربية فصحى :
شكرا
جزيلا ياأمى على هذه البامية اللذيذة، وهذا الطعام الجيد .
ضحكت أمى وهى توارى خجلا أنثويا رقيقا بعد
هذا الأطراء، وتقبيل يدها : لا شكر على واجب ياأبنى، دا مهما كان طبق بامية .
ضحك أخى وهو يحاول أن يوضح لصديقه ماتقصده
أمى .
وفيما معناه أن البامية التى شدت أعجابك، لا
يحبها ولا يأكلها أحدا فى البيت سواك .
ضحك الصديق بعد أن ترجم له أخى الكلمات
والمعنى المقصود من كلام أمى، وقام واقفا وأحنى رأسه لأمى أحتراما وتقديرا، ومد
فمه وحاول أن يقبل رأسها .
ولكن أمى أبعدت رأسها سريعا مزعورة وهى تقول
له : أستغفر الله العظيم ياأبنى .
خرجنا جميعا فى جولة مكوكية إلى أحياء
القاهرة القديمة، بداية من السيدة نفيسة، ثم السيدة زينب، ثم السيدة عائشة، وانتهى
بنا الليل على مقهى الفيشاوى بالحسين .
خرجنا فى جولة سياحية لبعض المناطق الأثرية
الدينية بمنطقة الأزهروقاهرة المعز، وكانت أمى هى المرشد السياحى لنا تحكى حكايات
قديمة عن أولياء الله الصالحين، وقد أنبهرنا جميعا بما كان يقوله صديق أخى لنا وهو
يقرأ فى كتاب صغير معه عن هذه المناطق، وتاريخ بنائها، وعن النفاحات الروحانية،
والرياضة الدينية، وأهمية الدين فى حياة الشعوب .
ضحكت أمى وهى تهمس لأخى فى أذنه سعيدة : هو
صاحبك ده مسلم ولا إيه ؟
ضحك أخى، وأخذ يخبط كفا بكف وهو غير مصدقا ما
قالته أمى، ثم ترجم إلى صديقه العبارة التى تفوهت بها أمى .
فرأينا صديقه يضحك بسعادة وحبور وهو غير
مصدقا لمعنى الكلمات، ووصف شعوره بأنه أمتنان للحضارة المصرية قديما وحديثا، وغدا
يدعونا لزيارة الأهرامات.
عدنا
إلى البيت فى حوالى الثانية عشر ليلا، ونحن فى أشد الأنهاك والتعب، ودخل كل منا
حجرته أستعدادا للنوم، فوجئت أنا وأمى بصوت أخى وهو يهمس لنا : ماتيوس بيسأل عن
البامية، وعايز يأكل .
نظر كل منا تجاه الآخر فى حالة إندهاش غير
مصدقين من هول المفاجأة، وأنفجرنا فى ضحك متواصل لا ينتهى، بعد الثانية عشرة ليلاً
.