أحضان بيكاسو
فى عام 1970 ظهرت امرأة غريبة الأطوار فى الشارع الذى كنا نقطن فيه .
كانت دائما ترتدى زيا واحدا فضفاضا رمادى
اللون، وتضع على رأسها غطاءَ أبيض، كان هذا الزى فى ذلك الوقت غريبا علينا نحن
الصغار، وعلى نساء الحى كذلك، خصوصا وأن المنطقة مازالت جديدة المنشأ بعض الشىء، أنها
تقع بالقرب من الرشاح الكبير، وكانت رائحته فى أيام الصيف الحارة كريهة لدرجة كانت
تحدث بعض الأغماءات للأطفال الرضع وكبار السن.
كانت
جارتنا الجديدة، تسير وإلى جوارها طفلة صغيرة ترتدى ملابس مبهجة الألوان، مختلفة الطرازعما
يلبسه أطفال الحى فى ذلك الوقت، وكانت دائما تحدث نفسها بصوت خفيض وهى تسير فى الشارع
بخطى سريعة كأنها على موعد، والمسافة التى تقطعها مازالت قليلة، وأمامها مشوار
طويل، عليها أن تقطعه فى زمن وجيز .
كنا نراها ونحن أطفال صغار، امرأة نحيفة،
نحيفة جدا، وقصيرة جدا، كأنها عود ثقاب يسير على الأرض .
وكانت الجارات حين يجتمعن فى بيت أحدهن
لمناسبة ما، يضحكن بشكل هيسترى، ويلقين بكلمات بذيئة، وعندما يأتى ذكرهذه المرأة
صدفة أو تعمدايضحكن بهسترية مبالغ فيها، كانت أمى هى الوحيدة من بينهن تكره ذكر
اسمها بسوء، وتقول لهن وهى غاضبة : دع الملك للمالك .
ولكن الجارات الثرثارات يضحكن بملىء أفواههن الكبيرة،
ورائحة الطبيخ تفوح من بين أسنانهن الصفراء ، ويواصلن الحكى عنها ووصفها ووصف
ملابسها وشكلها بشكل من الأستهتار والإبهار المخجل والمزمن .
وفى يوم من الأيام رأيناها تحتضن قطا كبيرا
أبيض ، وتقبله وهى تحدثه بصوت مرتفع : ياللا يابيكاسو لقد تأخرنا اليوم كثيرا .
دفعنا الفضول والتطفل ، وأخذنا نسير وراءها
وهى تجرى فى خفة ورشاقة ، ثم تدخل ملجأ للأطفال هناك بجوار الكنيسة الكبيرة البعيدة والتى تشبه قلعة بيضاء كبيرة .
وقفنا نتجسس قليلا لبعض الوقت ، رأيناها تقف
هناك فى الفناء الكبير ، وحولها أطفال صغار يلعبون ويمرحون ضاحكين ، وكل طفل منهم
يأخذ القط الأبيض بين أحضانه قليلا لبعض الوقت ويقبله قبلة كبيرة بشغف وحب شديد وهو
يردد : بيكاسو ياجميل ويجتمع الأطفال حولها فتأخذهم فى حضنها الصغير ويلتفون حولها
فى حلقة كبيرة وواسعة، يلعبون ويمرحون فى سعادة متجددة، وينادونها بصوت طفولى :
الأم تريزة، أمنا الحبيبة نريد بيكاسو يلعب معنا، من فضلك، أيتها الأم الرحيمة .
تأخذ الأطفال فى حضنها الصغير الواسع، يجلسون
حولها فى أدب وخشوع تحكى لهم عن المسيح والعدرا والقديسين، والقط بيكاسو يلعب معهم
فى حبور ونشوة .