مدينة ليل
هل رأسى جاهز اليوم لكتابة شىء ذو أهمية ؟ ومن ينتبه لهذا الألم ؟
كنت دائماً أخدع بمس الكتابة الواقعية
وعشقتها على يد العمالقة فى الأدب الروسى ، وكنت مغرمة بإبداع تشيكوف ودستويفسكى ،
وحزنت حزناً شديداً عندما قرأت رواية (المعطف) لجوجول ، وبكيت على (موت موظف)
لتشيكوف ، هكذا تكونت ذائقتى فى البداية عام 1982 وأنا اقرأ قصة (نظرة) للكاتب
يوسف أدريس ، وعندما حصل ماركيز على جائزة نوبل للآداب
جمعت كل أعماله وقرأتها بداية من مجموعة
(عينا الكلب الأزرق ، وأنتهاءً بأن تعيش لتحكى)
وأغرمت أشد الغرام بالواقعية السحرية ،
وبهرنى هذا العالم الثرى الجميل ، وازداد نهمى للقراءة ، وبدأت الحياة الطبيعية فى
تفاصيلها الصغيرة تنسحب من تحت قدمىِ شيئاً فشىء ، وكلما قرأت كتاباً ، أرانى أعلو
وأعلو وأعلو ، أعلو عن الصغائر ، أصبح طموحى هو كتابة قصة أو رواية مثل هؤلاء
الكبار ، وكنت أشبه التلميذ المجتهد الذى يحرص أول بأول على المذاكرة ، وعمل
الواجب ، واسعى جاهدة للندوات والمؤتمرات ، وأتسعت دائرة القراءة ليس فى الأدب فقط
، ولكن فى الفلسفة والنقد وعلم الجمال وعلم النفس والأديان ، وكلما سمعت عن كتاباً
جديداً أسعى جاهدة لشراءه وقراءته ، أصبحت (دودة قراءة) بمعنى الكلمة ، لا يمر
يوماً أو يومين دون قراءة ساعتين على الأقل ، وزد على ذلك حب العلم .
" مرت حياتى أمام عينى فى لحظة ، هى
لحظة فقط ، مرت كأنها دهراً كاملاً ، أو كأن شريط سينما يدار امامى منذ المولد ،
وأنتهى بالوقفة الشامخة أمام القاضى فى ساعة المحكمة ، والحاجب ينادى بصوت جهورى
مرتفع : محكمة " ودخل السادة القضاة بالأرواب الجميلة .
شىء ما غريب يحدث الآن !
حياتى يتم أعادة ترتيبها من جديد !
بدأت برؤية وسماع أشياء غريبة !
الحلام فى منامى تختلف عن الأحرم السابقة !
ثمة صراع ومعارك ، ثمة مهازل تدبر ، وتتم فى
غيابى .
ثمة أفكار وأفعال خائبة من الآخرين تحط علىَ
.
نحن فى زمن ضاع فيه اليقين ، تفتت الضمير ،
ظهرت خزعبلات وخرافات ، وأصحاب الأفكار الرديئة يصعدون ، ويختفى الرواد أو يمتون
كمدأ ، ويشوة الزعماء .
إن شخصيتى تتغير ببطء على نحو غير جيد ،
وأخشى عليها من الأنهيار .
هل أنا فى حالة كتابة اليوم ؟
اليوم أنا فى حالة كتابة !
أشياء كثيرة ومشوشة ، ومجرمة ومحزنة وغير
سعيدة تمر بى ، هل الأقدار تلعب دوراً مهماً فى حياتى ؟
لماذا إذاً قتلنا الإله ؟ عندما كان ينزل
الطفل من بطن أمه صارخاً ، وأسأل جدتى بخوف وفزع : لماذا يصرخ هكذا ياجدتى ؟
كانت تضحك بسعادة بالغة وتقول بحكمة العارف :
إنه يصرخ صائحاً ويقول " يارب لماذا أخرجتنى من الوسع إلى الضيق ؟
أضحك بفم طفلة غير واعية ، هل الدنيا ضيق
ياجدتى ؟
تضحك بخبراتها الواسعة : نعم ياأبنتى ، الطفل
فى بطن أمه يشعر أنه فى ملكوت واسع ، يأكل ويشرب ، ويمرح دون حساب ، أما حساب
الدنيا عسير ياصغيرتى ، وتضمنى إلى صدرها الكبير الواسع وهى تبسمل ، وتقرأ الفاتحة
على رأسى الصغير : ربنا يكفيكى شرها ياحبيبتى ، الدنيا غرورة ، أياك والغرور
ياصغيرتى .
هكذا كانت الجدة الحبيبة الخبيرة بالحياة
ومعتركها ، تنصحنا نحن الصغار ، وننام فى حضنها الدافىء الكبير أمنين سعداء ، لا نحلم
بشىء سوى باللعب والمرح والضحكات ، وهى تظل ساهرة فى فراشها ، تدعو الإله الكبير
فى علاه أن يحفظ أبنائها وأحفادها الصغار من غرور الدنيا ، وأن يرحمها ، هى
الكبيرة المسنة من عذاب القبر ، وتظل طوال الليل تصلى ةتدعو الإله القدير إن
يخرجها من دار البلاء بلا بلاء .
بلا بلاء ياجدتى كنت تحبين الخروج من الحياة
، لقد كثر البلاء والغلاء والفحشاء والمنكر ، صار الناس فى تكالب ، والضعفاء
يزدادون يوماً بعد يوم .
أين دعواتك الرحيمة ياجدتى ؟
أعرف أن جدتى كانت تهرس مشاعرى الريئة بكل
نصائحها ودعواتها لى بالستر .
أوعى تلعبى مع الصبيان فى المدرسة .
أوعى تخدى منهم حاجة .
أوعى تقفى جنب ولد فى الطابور .
أوعى حد من الأولاد ياخد أكلك .
أوعى ..
أوعى ..
رحمتك ياجدتى ، فأنا طفلة صغيرة فى السابعة
أو الثامنة من عمرها كيف لها أن تعرف مكر الأولاد وحنقهم ومكرهم ؟
وكانت تفصلنى فى النوم عن أخوتى ، ظللت أنام
إلى جوارها مذ كنت طفلة صغيرة حتى أن بلغت الثانية عشر فأصبح لى سريراً بمفردى ،
كنت لا أحب ولاأضحك ولا أأكل ولا أنام إلا مع نفسى وبمفردى .
وعندما كبر الأولاد صرت أنا البنت الوحيدة
بالبيت التى تخاف من الصبيان ولا تلعب معهم ، وكانت ترتعش بشدة فى المحكمة عندما
صحا الحاجب منادياً على أسمها بغلظة وقوة ، ووقفت أمام القاضى فى خوف وصمت شديد .