نقد
اشتباك
التاريخي والأسطوري والفلسفي
في
رواية امرأة الريح
د.
هويدا صالح
صارت
ظاهرة التناص مدخلا مهما لقراءة النصوص الروائية الحديثة، فالتناص هو تشكيل نص
جديد من نصوص سابقة وخلاصة لنصوص تماهت فيما بينها فلم يبق منها إلاّ الأثر، وقد
عرّفت الناقدة الفرنسية جوليا كريستيفا التناص بأنه"تشرب وتحويل لنصوص أخرى،
وهو يقع عند التقاء مجموعة نصوص، ويكون في الوقت نفسه إعادة لقراءتها، وتكثيفا
وتحريكا وانزياحا وتعميقا لها".
ترى جوليا كريستيفا أن النص لوحة فسيفسائية من الاقتباسات. وهذه
الاقتباسات أو النصوص الغائبة تتداخل في النص الشعري كمكونات أدبية وثقافية متنوعة. وقد كان من شروط تعلم
الشعر، عند العرب، أن يُطلب من الشاعر، في مرحلة التّلقّي، أن يحفظ كثيراً من
أشعار غيره. ثم ينساها، في مرحلة العطاء الشعري، لتدخل محفوظاته هذه في نسيج
عطائه، ولكن في شكل جديد. وهكذا يغذّي اللاوعي الوعي.
ويرى
رولان بارت أن" البحث عن ينابيع عمل ما ليس إلا استجابة لأسطورة النسب، فكل
نص يرجعنا بطريقة مختلفة إلى بحر لانهائي هو المكتوب من قبل"( [1]).
لقد اتخذ التناص عند بارت "وجهين وجه باعتباره سردابا تاريخيا ونوعا من تشكل
الأيديولوجيا، ووجه باعتباره أسلوبا، أو تقنية للنقد التفكيكي" ( [2])
و
يعتبر مفهوم التناص، بعد ظهوره إلى الوجود، بفعل التجديد الذي لحق الفكر النقدي لعقود
ماضية من الأدوات النقدية الرئيسية في الدراسات الأدبية؛ ربما هو تجل واضح لمقولة
"أن كل نص يمكن قراءته على أساس أنه فضاء لتسرب وتحول واحد أو أكثر من النصوص
في نصوص أخرى". وقد أثار مفهوم التناص كثيرا من الجدل. لكن هذا الوجود الحتمي
لحضور النصوص السابقة في النص الحديث يصاحبه وجود ظاهر للنص الذي يتم التناص معه بتجسد
جزء من النص القديم ،أو بالإشارة إلى شخصياته أو ما يرتبط بعوالمها.لكن هل يبقى النصان
منفصلين؟ هل يظل كل نص يحمل سمته الزمني مستقلا عن الآخر ؟ قبل الإجابة عن هذه
التساؤلات ، نجد أن الروائي الحديث يحرص على أن يجعل من التراث أو التاريخ أو
الأسطورة روافد يرفد بها نصه الروائي مما يوجب على الناقد أن يجتهد في قراءة حركة
علاقات النص بالنصوص السابقة عليه. حين نطالع بعض الروايات الجديدة يتكشف لنا استحضار
النص السالف بتجسده وإشاراته واقعا، على أنحاء متباينة،فهناك النص الذي يبقى فيه
حضور النص السالف استشهادا، ومحافظا على زمنيته، وهناك النص الذي يتخلق فيه هذا
الحضور تخلقا جديدا.
كل
هذا يقود إلى طرح رؤية للتناص، لا تجعل من النصوص التي يتناص معها الكاتب تقف موقف
النص الضيف في النص الأصلي، بل يجتهد الكاتب في أن تكون النصوص المتناص معها
الكاتب بناء ملتحما مع رؤية النص،ومتماهيا
معه؛ فالنص السالف ليس مجرد معين يستدعى فقط.
إن
حضور أي إشارة نصية تشير إلى نص، أو شخصية أو عالمها ليس إلا علامة تشتغل داخل
النص، بحمولاتها، وإرثها القديم، وما يحمله سياقها الذي حضرت فيه؛ فبها تتخلق
الرؤيا، ويتجلى الكشف، ويتعمق الاستبصار، ولعل هذا يتضح في رواية " امرأة
الريح " لصفاء عبد المنعم والتي صدرت مؤخرا عن روايات الهلال.
ترفد
صفاء عبد المنعم روايتها بعشرات النصوص ما بين الفلسفي والتاريخي والأسطوري
والثقافي والأدبي، وتقدم لنا نصا مفعما بمستويات عدة من التناص.تتشارك النصوص التي
تناصت معها الكاتبة في تقديم رؤية للعالم مختلفة ومغايرة، ويأتي كل نص بحمولاته
المعرفية والثقافية.
تفتتح
الكاتبة الرواية بتناص فلسفي . مقولة لنيتشه تكشف عن عن رؤيتها للعالم، رؤيتها
للذات، تكشف عن الاشتباك الحقيقي بين الذات والعالم:" يوجد خلف أفكارك
ومشاعرك سيد قوي و حكيم اسمه الذات. إنه يسكن في جسدك، بل هو جسدك".
إذن
من البدء ثمة اشتباك بين الذات والعالم، وثمة وعي يفيد من الرؤية الفلسفية ليقوي
هذه الذات في مواجهة العالم. الساردة التي هي وجه آخر للكاتبة سوف تبدأ رحلة البحث،
البحث عن الذات وعلاقاتها مع هذا العالم/الآخر خارج هذه الذات،فهذا الآخر يحتاج
لذات قوية، أليس الجحيم هو الآخر؟!.
يبدأ
النص باستعارة تاريخية لشخوص مسرحيات شكسبير، هاملت وأوديب وصانع الأقنعة لنشتبك مع نور الساردة التي تعشق المسرح
والتي تعيش حالة من القلق الوجودي، وجودها في مواجهة العالم. تطرح الكاتبة سؤال
الوجود من خلال شخصية أوديب، الذي لم يرتكب شرا ضد العالم، فقط حقق مشيئة الآلهة،
لكنه حمل كل الآثام وعانى نيابة عن البشرية.
مفتتح
الخطاب السردي بين ممثل وفتاة هي ابنة لصانع الأقنعة المسرحية، تتناص فيه الكاتبة
مع نصوص وشخوص من التاريخ تأتي بحمولاتها، فنسمع صرخة أوديب، ونرى حيرة هاملت ،
ونتعجب من قناع أسترياس، ونقرأ نصا عن تموز وعشتار، فتتمازج الأساطير اليونانية مع
التاريخ الإنجليزي الشكسبيري مع الأساطير البابلية، وتصير كل جملة إشارة دالة على
مستويات من التناص:"وكنت أنا شابا ضالا،يتوه طوال نهاره على المقاهي،وطوال
ليله يطوف على المسارح معلنا عن موهبته في تقليد الشخصيات،ولعب الأدوار التراجيدية
الصعبة.مددت يدي تجاه قناع أسترياس..نسيت الدور وفقدت الكلمات.لقد أدركتني الشفقة
على المصير المحتوم الذي سوف يلاقيه أوديب ومدينته،وحزنت في صمت".
تضع بطلة الرواية فى أول طريق البحث عن وجهها الآخر، عن نفسها
البديلة، المرأة الأخرى، متجسدة فى تمثال لنحات، أو عن إعادة اكتشاف الذات، وهو ما
ندركه بعد مجاهدة مع البطلة التى تكتشف أن ما تبحث عنه هو شيء كامن فى داخلها، وإن
يظل يؤرقها زمنا،فالنص التالي مباشرة "في قاعة إنجي أفلاطون " تذهب نور
الساردة لتحصل على تمثال منحوت بعناية يحمل صفات كل النساء اللاتي شكلن وجدان
الساردة، فهو يحمل سمات إيزيس وحتحور وماعت، يحمل سمات تماثيل الأوشابتي التي كانت
توضع في المقابر مع الموتى، تحمل ملامح الكاتبة. إنه تمثال لامرأة الريح، امرأة
تواجه الريح بقوة وصلابة، أي ريح لا تؤثر فيها:"كان موضوعا وسط القاعة فوق
منضدة سوداء خشبية صغيرة، لها أرجل مرتفعة، عليها تمثال صغير لامرأة رشيقة، نحيفة،
والريح تضرب وجهها من جميع الجهات، وكلما تدور حول المنضدة طالعك وجهها المتصلب في
مواجهة الريح،بصمت رهيب ومخيف..أفزعني حنما دققت النظر جيدا".
إن امرأة الريح هي الوجه الآخر للكاتبة والساردة معا. لم تعد مجرد
تمثال، إن الحياة تدب فيها ليلا، مثلما تدب الحياة في تماثيل الأوشابتي الفرعونية
التي توضع في مقابر الفراعنة، وترافقهم في الحياة الآخرة:" أخذت أبحث بهدوء
داخل شنطة يدي عن مفتاح الشقة،كان المكان مظلما، وقفت لبرهة،سمعت صوت ريح شديدة،
وصراخ ألم مكتوم،وصوت ضعيف ينادي: أغيثوني،أدركوني،أكاد أهلك في مكاني..فتحت الباب
في سرعة. الظلام دامس كأني في مقبرة،أخذت أتحسس طريقي بهدوء، وبخطوات ضعيفة
ومرتعشة،رأيت التمثال يكاد يقع من فوق المنضدة.جريت بسرعة واحتضنته، والحجرة كأن
مائة يد شقية عبثت بها.الدرج مفتوح والأوراق مبعثرة في كل مكان، والشباك
مفتوح،والستائر الحريرية البيضاء تهفهف، كأن ريحا خرجت من هنا بسرعة".
تحتشد الرواية بمقولات فلسفية، تكشف عن ولع الكاتبة بالفلسفة:"
كل الأشياء تنشأ عن اللذة والألم،أرد في غير تحمس لما يقول: إن الأساس الأول
للحياة هو الإرادة الخيرة! يقول في شك وريبة من أمري: يا نور جميع فلاسفتك
الماديين أنكروا الضمير والفضيلة وجميع القيم الأخلاقية..ووصفوا الإنسان بأنه لا
يرتفع عن مستوى النمل والنحل الذي يأتي بأروع مظاهر التضحية والتعاون..يوجد في
الجنيا نوعان من الناس يا نور، طائفة القطيع وهم ( العامة والدهماء ) والطبقة
الراقية ،جسميا وعقليا وخلقيا ونفسيا وهم( الصفوة ) وهذا رأي نيتشه أستاذك يا
أستاذة الفلسفة".
تفيد الكاتبة أيضا من التناص مع نصوصها السابقة وهو أحد مستويات
التناص، فقد كانت "نور" الساردة
قد قرأت فى زمن ما عن كاتبة، وأحبت كتابتها، وتسعى للبحث عنها، ثم تجدها قد فقدت
الذاكرة، ولكن الوصول إلى الكاتبة مر بمغامرات وتجارب إنسانية متعددةعديدة. وتبحث
الكاتبة عن حيلة فنية تمكنها أن تتناص مع نصوصها السابقة التي هي للكاتبة التي
تبحث عنها نور، فتجعل التمثال الأيقونة يحكي لها حكايات من نصوص سابقة للمؤلفة
تحضر بأسمائها الفنية، فتحكي عن رواية" قال لها يا إنانا"([3]):"هي قالت لي ذلك
كثيرا:حكاياتك ممتعة يا نور،تذكريني بكاتبة كنت أحبها قديما، وكم من أيام طويلة
جلست بجوارها، وهي تكتب وأنا أقرأ الكلمات وفي يوم من الأيام اختارت لي اسم
(إنانا) وكتبته في روايتها(قال لها يا إنانا). كانت دائما تبحث عن الخلود، وكيف
تخلد بطلاتها اللاتي تحبهن كثيرا" ثم تقتبس الكاتبة مقتبسات من الرواية على
لسان امرأة الريح التي تحكي لنور. كما
تحكي لها عن رواية" في الليل لما خلي"([4]):"هل ليلة في حضن
رجل عادي أمتع من عام كامل في حضن رجل يعمل بالأفكار؟! ..لو لم تكن هذه حقيقة
أدركتها البطلة مؤخرا في رواية"في الليل لما خلي" ما قبضت على نفسها
أبدا..! وكيف كانت الجملة الحقيقية؟ ( العيش مع رجل متفاهم ومفكر أهم بكثير من فعل
الجنس الوحشي ولو لليلة واحدة!!)..هذه كانت الجملة الأولى في حقيقتها، في إدراكها
وتخيلها وواقعيتها ولكن التجربة بعد ذلك ولدت جملة أخرى مغايرة، ونظرة مختلفة..أين
الحقيقة إذن في الجملتين يا نور؟ الحقيقة والصراحة وهم ندعيه، ونحن نخبئ خلف
ذاكرتنا الخيبات الكثيرة والمخجلة. "أريد رجلا مست روحه الوحدة". قرأتها
في رواية في الليل لما خلي".
ونتساءل مع القارئ ماذا أرادت الكاتبة أن تتناص مع مقتبسات من روايتيها
السابقتين؟ ما الذي أضافته للقارئ غير أن تؤكد على ذات الحالة من الفقد والوحدة
والبحث عن تواصل الذات مع الآخر غير الموجود في المشهد؟!.أم أن هذه المقتبسات تؤكد
على رؤية الكاتبة لسؤال الكتابة وأنها تبحث عبر الكتابة عن قارئ ضمني يتواصل
معها:" أكتب لأننى أحب الكتابة
واللعب بالكلمات على الصفحة البيضاء، والولع بأن هناك قارىء ضمنى يبحث عن كتابتى
وأبحث عنه فنلتقى فى نص أو أثنين ونفترق لنعود فنلتقى فى نص أو اثنين، ولا يرضينى
إلا أن أبهره دائما بكل ماهو جديد".
مستوى جديد قدمته الكاتبة للتناص في روايتها، إنه التناص مع نصوص
أدبية ومعرفية حديثة تصور رؤيتها للعالم، ورؤيتها لوضعيتها كأنثى في مجتمع شرقي،
وكمثقفة في مجتمع لا يعترف كثيرا بدور كبير للمثقف:"أبكي حتى تتفجر الدموع،
وأنا أشد خيوط الأفكار من ذاكرتي، وأتخيل ماذا سيحدث لنا نحن المثقفين. قمت من
مكاني باحثة عن كتاب( خلف الحجاب) للمناضلة الراحلة سناء المصري، وأخذت أقرأ
صفحاته، وأتذكر الخيبات الكثيرة التي أصابتنا جميعا، جيل كامل وقع بين موت ومرض
وضياع وسفر، ووجدت يدي تمتد على كتب الراحلين خاصة من كتبوا أعمالهم قبيل
الموت".
مستوى جديد من التناص وهو التناص مع الواقع السياسي والاجتماعي،
فالكاتبة تتقصد أن تكشف رؤيتها للواقع الذي خذلها كما خذلها الماضي. تكشف لنا
رؤيتها لثورة 25 يناير وما حدث فيها من حراك سياسي وما حدث بعدها من خذلان:"
صنعت عالما بديلا من الأموات عوضا عن الأحياء المتكلسين حتى بهجة الثورة في يناير
2011. انطفأت وضاعت وخطفها الأخوان وتربعوا على كرسي السلطة لمدة عام كامل.كنت
أثناءها مشغولة بصديقي المريض في المستشفى إلى أن رحل وتركني في 30 يونيه".