الوارثة
بداخلى
جرح لا يدمل ، وثمة موسيقى تبحث عن عازف !
هكذا بدأت كلماتها وهى تلوح لى بيدها البضة
الصغيرة ، ثم جلست أمامى على الكرسى الهزاز المجاور للنافذة ، وأخذت تنظر طويلا
نحو السماء الغائمة فى منتصف النهار .
أخذت تنظر وتتمعن فى الغيوم ، وبعض السحابات
السوداء تسير ببطء شديد فتخفى وراءها ضوءً نادرا ما قد يلمع للحظة ثم يختفى خلف
سحابة أخرى .
ألتفتت نحوى بجهد شديد ، وأنا أمد يدى لها
بفنجان القهوة والذى صنعته خصيصا لها على نار بابور السبرتو الصغير .
أخذت الفنجان من يدى ، وبيد مرتعشة رشفت أول
رشفة منه ، ثم صدرت عنها آه طويلة وقالت بصوت منغم حنون : الله ، القهوة طعمة بشكل
.
ضحكت بعض الضحكات القليلة المنتصرة ، وأنا
أرشف رشفة من كوب القهوة الذى فى يدى ( كنت أحب شرب القهوة فى كوب صغير وهى تحب
شربها فى فنجان ) هكذا تحدثنا طويلا فى هذا الموضوع فى مرات سابقة ، كانت تقول لى
أن أباها كان يحب القهوة فى فنجان مخصص له ، فورثت هذه العادة عنه .
وأنا أضحك وأعلق على كلامها : إذا أنت
الوارثة !
كانت تضحك وهى تحرر خصلات شعرها الأسود
الكثيف من أسر الفيونكة الكبيرة ، وتنظر نحوى بعينين ثاقبتين ، وتستدرجنى إلى
الكلام عن طفولتى فى وسط عائلة كبيرة ممتدة وسعيدة من وجهة نظرها ، وكانت تعلق
كثيرا عن السعادة البالغة والتى كانت تشعر بها وهى وسط أمى وأخوتى ، وتستمتع
بأحاديث قديمة من أمى وعمتى عن الحياة والغلاء ومتطلبات الفقراء وسعادتهم ، وحريق
القاهرة وثورة 52 ، وأزمة 54 بين عبد الناصر ومحمد نجيب ، ونكسة 67 وتنحى عبد
الناصر ، وكم من مرة قصت هى علىّ قصصا طويلة عن حركة العمال والطلبة فى الجامعة فى
السبعينيات ، وكيف كانت تخرج فى المظاهرات أيام الرئيس السادات وجميع الطلبة
يطالبون بالحرب وتحرير الأرض ، وأحداث يناير 77 ورفتها من عملها فى التربية
والتعليم ، وسجن زوجها .
وظلت تحكى لى هذه الحكايات على مدار الخمسة
وثلاثين عاما هى تاريخ علاقتنا منذ رأيتها فى المرة الأولى عام 86 بصحبة صديق قديم
فى بيت أحد الأصدقاء بمنطقة شبرا الخيمة .
ومن يومها وظلت العلاقة بيننا قائمة ، تطول
بعض الشىء وتختفى بعض الشىء بحكم عملها وأنشغالها فى فرقة المسرح ، والتجوال معهم
فى بعض المحافظات .
وكانت تأتينى دائما فى الشتاء ليلا بملابس
بلالتها الأمطار ، وتفرد يديها الباردتين على نار الوابور الجاز ، وتستمتع بالدفء
معنا أنا والبنات ، وأنا أقوم بتحمير قطع البطاطس وألتهامها ساخنة حتى تبعث الدفء
، ونستدفىء بوشيش الوابور ، وتتواصل الحكايات حتى تنام البنتين ، وأجلس أنا وهى فى
حجرة المكتب نتناول القهوة ونتبادل الحوارات والضحكات والحكايات والأشعار ، وآخر
الكتابات لى ولها .
ونظل هكذا حتى يطل علينا الفجر بصوت الآذان
الدافىء المنبعث من خلف الشيش المغلق ، فنردد فى نفس واحد : الله النهار طلع .
أدخل الحجرة ، أنام مع البنتين وأستدفىء بهما
، وهى تدخل حجرتى التى هجرتها منذ وفاة زوجى وتنام على السرير فى سعادة بالغة ،
وتذهب فى النوم بعيدا بعيدا مع حراسها وملائكتها وأحلامها .. واسمع صوت شخيرها
الضعيف بدأ يعلو ويأتى إلىً من خلف الباب المغلق ، أضحك قليلا ثم أغلق عينيى وأذهب
فى ثبات عميق .
*************************************************