الناقد: مختار أمين.. التجديد في الشكل باحترافية وعلم يؤكد على الجنس الأدبي وبقائه حيا جاذبا على مر العصور، نص “أخيرا يوجد مطر” للكاتبة صفاء عبد المنعم إنموذجا.
التجديد في الشكل باحترافية وعلم يؤكد على الجنس الأدبي وبقائه حيا جاذبا على مر العصور، نص “أخيرا يوجد مطر” للكاتبة صفاء عبد المنعم إنموذجا.
بقلم الناقد / مختار أمين
عندما يكتب الكاتب نصا قصصيا باحترافية، وإجادة حدثية في الشكل، هو كل مرة يعد أدواته الإبداعية مجتمعة، ويفسمها على أدوار متعاقبة لتنسج وتغزل نصه الأدبي في أبهى صوره، هو يتقمص الشخصيات في عالم حكايته ليخرج صورة من روحه الفنانة الحرة التي تبيح لنفسها التعرّي أمام قلمها، وتكشف عن مكنون مخيلتها، وثورة ربما يتنكر لها الواقع ويرفضها تماما، أو يتحيز لها، في كلتا الحالتين يترك النص الأدبي المتلقي في حالة تفكير عميق، فيما جاء من أفكار، أو موضوعه وهدفه، أو شخصية المحور في النص؛ ليفهم مغزى الكاتب من نصه الأدبي، وهنا الكاتب المحترف يضع المتلقي عند جمالية نشوانة في ذاته، وتأملية فكرية مبتغاة تقذف به لأعلى، ليحلق كما الطير في السماء يرى الوجود بشكل كلي، يخرج خارج المشهد ليتأمله من جديد، بعين الكاتب وفكره، ويهبط ويحط على تفاصيل جديدة كانت متوارية في زحام الأنا الوحدوي، ويتحد مع تركيبة المتلقي الفريدة؛ ليحدث الإندماج وحالة الولادة الجديدة التي خلقها الكاتب من خلال نصه الأدبي لدى المتلقي..
في نص “أخيرا يوجد مطر” للكاتبة صفاء عبد المنعم، تدخلنا إلى عالم فكرها الفلسفي المتأمل، وعالم خصوصية الكاتب المحترف الموهوب، الذي يقرأ مشاهد الحياة بملايين العيون، ويلبسها ثوب من الفكر الخاص للأديب المفكر المتأمل، ثم يعيد ما أخذ من الحياة إلى الحياة مرة أخرى بتكوين فني جديد؛ لنستخرج الحكمة من كل شيء نتعامل معه كبشر في الحياة الديناميكية. الصارخة أحيانا. الصامتة في أحيين أخر، الناقصة التأويل اللازم في أقدارنا، قبل أن يتناولها قلم الكاتب المحترف باعث الروح فيها..
هو نص صارخ بالشجن، صارخ بالألم والجع، لذات قد احترقت كالشمعة في جسمها الدهني الذي لا يتحمل صهد النار الحارقة؛ فتذوب..
امرأة عاشت عمرها كله مغروسة في حياة الدنيا وعالم الناس. شمعة تذوب وتحترق دون أن يشعر بها أحد حتى انتهى عمرها الفاعل، وأكلتها سنوات الشيخوخة. منطوية على ذات تهفو للحنين المشبع المنشي، وإن اقترفته في مرحلة من عمرها، كشربة ماء حين غفلة.
امرأة تتكوى بآلام الوحدة والانكار. مخلوق بشري يدرك طبيعة جنسه الملزمة الحاكمة المتحكمة فيه كامرأة، يريد وجوده المتفاعل مع الحياة بهويته، بما يختار لنفسه وفق طبيعتها، وليس بما تفرضه عليه الحياة..
صفاء عبد المنعم تنقل لنا صورة يومية متكررة للمرأة العربية المدحورة، المهضوم حقوقها، التي أجبرت على ارتداء جلباب الرجل في الحياة الفاعلة، تكشف لنا المرأة العربية منحية الظهر من كاهل المسئولية المجبورة عليها التي ألقيت على عاتقها، تبرز لنا امرأة قد تآكلت في الحياة وأكلتها السنين ونست نفسها كمخلوق رقيق له قلب يهفو ويحب، في حاجة للتقدير والحب والراحة والأمان.
بطلة قصتها امرأة تعاني الحرمان لدرجة الذهان المرضي، من أثر ما فتته تروس الحياة الماضغة، بفعل ما هو مفروض، ورفض كل ما هو مرغوب ولازم.. امرأة تتوق للحنين والحب، امرأة تصرخ في هلع وجنون تقول : “أنا امرأة من حقي السعادة والحياة.. من حقي الحب والحنان” حتى ارتكنت على ذهانها يعيد لها تاريخ ذاكرة نشأتها وصباها وذلّاته، والادراك لصوت الأنثى بداخلها، وهياج المشاعر الأنثوية، وبداية الاحتياج للآخر، حتى أصبح هاجسا مرضيا مع مرور سنوات العمر حتى الشيخوخة والكهولة، تقف عند مرحلة النكوص لصبية كانت تتوق لشيء حرّمه الواقع عليها، وهي مرحلة في أقرب وصف لها من خلال التحليل النفسي، أنها تثبيت على مرحلة عمرية على حاجة كُبِحَذذت عنوة، وكبتت تقديرا للواقع الجامد الذي يرفضها؛ فباتت في إصرار بعد الانفجار العقلي تطلبها، وتفتعلها، تغتصبها من الواقع عنوة أيضا؛ فانحرفت إلى الجنون والهاوية بعد فوات الآوان وانقضاء سنوات الشباب..
الأسطوية في الكتابة السردية والإبداعية في النص الأدبي، خلق مشهد جاذب، تجسيد لشخصية فاعلة جاذبة، خلق صورة جمالية متحركة صارخة معبرة بلغة بيئة النص، الراوي الذي ينقل بمهارة النشوة ولا يتدحل، ولا ينقل عن نفسه، هو مندمج اشد الإندماج في الصورة المتحركة الفاعلة التي ينقلها، هو متوحد بلا تدخل، وهذه هي المهارة التي جسدتها الكاتبة في نصها الادبي..
عندما كتب الدكتور نبيل راغب في شرح للمدارس الأدبية والفنية في كتاب له، كانت صفاء مستمعة جيدة فاهمة واعية لعلاقة المدارس الأدبية في نصها السردي، وتعاملت مع الرمزية الكاشفة الواضحة المدلة، عندما عنونت قصتها بعنوان “أخيرا يوجد مطر” لم يكن هذا على سبيل الصدفة، بل إداراك تام لقيمة العنوان الكاشف البارز والدلالة فيه، عندما صورت مشهد الخروج والثورة تجري البطلة لاهية في الشوارع تستقبل زخات المطر على كل جزء فيها، مشهد يفسر قمة المدرسة الرمزية المعبرة الدالة، مشهد تفسر فيه مدى تأجج المشاعر التي أصبحت نار تحرقها وتأكلها لا سبيل إلا المطر يطفئها ويخمدها، وعلى عامل آخر، تفسر فيه انفجار الذات المكبوتة التي تكسر بشكل ذهاني كل قيود الواقع من حولها، وتعلن عن رغبتها في حرية، ولكنها حرية الجنون، وهنا مدى الألم..
الحداثية في السرد، عندما يخلط فنان تشكيلي ماهر ويكوّم كل ألوانه على بعض، أو إنه يلقي بها مجتمعة على اللوحة ويبدأ التشكيل لخلق لوحة فنية بديعة، تماما فعلت الكاتبة بجملها السردية وعباراتها، قمة المهارة في استقراء الذات عبر ذكرياتها الأولى، واللحظات الآنية، تصارع الماضي مع الحاضر في خليط غزل نسيج القصة كلوحة في متحف تلفت نظر كل عابر، يدل دلالة حقيقية على الناتج والمحصلة التي وصلت إليهما البطلة في الهذيان والجنون.. كأنها تقول تعلم مني كيف تحكي المحكي بشكل جديد وتجذب المتلقي..
وأيضا في تكرار الجمل وتنميها لتصبح عبارات كاملة لها دلالة أكثر من دلالتها الأولى، أتهم القرآن الكريم من المستشرقين إنه يكرر آياته، ولكن بلاغة اللغة العربية وعمقها وثرائها يكشف أن الله عز وجل، أن الله يستدر المعنى مطابقا للموقف وظروفه وآوانه، وطبيعة الحدث، كل هذا يستوجب معنى جديدا مطابقا واصفا دقيقا لما يريد أن يخبرنا عنه ويكشف عنه، تماما كان التكرار في الجمل مفيدا ومضيفا في النص عند صفاء، وهي مهارة تقلق، تحتاج لمتلق واع ذواق..
أكاد ألمح وأتخيل بطلة قصة “أخيرا يوجد مطر” وأجثو متكورا على نفسي أفكر قي مأساتها ومأسات ملايين النساء العربيات، وأستشعر غول الوحدة والحرمان نار تحرق أجسادهن البضة..
تحياتي صفاء عبد المنعم..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أخيراً يوجد مطر

في نهاية اليوم، ستجلس امرأة وحيدة فى شرفة حجرتها، تحيك قميصاً مبتلاً.. وتنزل ستائر الدنتيلا.
ستجلس تحيك قميصا مبتلا، وتنزل ستائر الدنتيلا دون أن تبتهج، دون أن تنظر إلى الشرفات. دون أن تدمع عيناها.. فقط تجلس تخيط قميصاً .
عامودان من النور ينزلقان فوق رأسها. تفتح عينيها فى هدوء، ونعومة، تنظر إلى السماء ترى سحباً قد تجمعت .
تغلق عينيها على المشهد، وتسبح مع الأحلام، مع المطر. تنزلق من الشرفة إلى الشارع. تزيح المارين أمامها. ينزلق شعرها الأبيض منسابا، ناعما، هادئا، مبتلاً .
تنزلق الأيام على تنورتها، فتسير عبر الطرقات بلا تنور، بلا حذاء، بلا أيام، بلا قميص تحيكه فقط تسير مع المطر .
بشعرات بيضاء، هائمة مثل مراهقة، فى الثالثة عشرة، تهوى صيد الحكايات، وتبحث عبر فتحات النوافذ والمداخل عن نظرة ناعسة تغزوها .
فتفر هاربة، منبطحة على وجهها .
يُخرج المطر رائحتها..
يخرج المطر قلبها..
يخرج المطر ردفيها المتأرجحين فى نشوة..
يخرج المطر ثدييها النابتين تحت القميص البفتة..
يخرج المطر حنينها إلى طفولة بعيدة.. بعيدة .
بشعرات بيضاء، هائمة مثل مراهقة، فى الثالثة عشرة، تهوى صيد الحكايات، وتبحث عبر فتحات النوافذ والمداخل عن نظرة ناعسة تغزوها .
فتفر هاربة، منبطحة على وجهها .
يُخرج المطر رائحتها..
يخرج المطر قلبها..
يخرج المطر ردفيها المتأرجحين فى نشوة..
يخرج المطر ثدييها النابتين تحت القميص البفتة..
يخرج المطر حنينها إلى طفولة بعيدة.. بعيدة .
إذا رأيت هذه المرأة العجوز، المراهقة، الطفلة، لا تقف أمامها، لا تسد الطريق عليها، لا تنشر رائحتك حولها، لا تحاول أن تحتويها بين ذراعيك، فقط أتركها تمر .
أتركها تنشر أعضاءها المبتلة عبر الشوارع و الميادين .
أتركها تتخلص من أسرها.. من نشوتها.. من تاريخ أصابعها.. أتركها تمرق، ولا تتبعها.. أتركها تمر من أمام الباب مبعثرة الشعر، تنظر إلى المدخل المظلم .
تتخيل حبيباً يقف على مبعدة، يمد ذراعيه لاحتوائها.. تحت السلم؛ فتفر منه هاربة، ربما يطول قبلة أو يتركها، ربما يجعلها تمر فرحة بإفلاتها، ربما يجعلها منساقة إلى المجهول، ربما لا يكون هناك حبيبا، فقط تمر منتشية . فاردة ذراعيها .
فاردة ذراعيها، فاقدة تنورتها، ناشرة خصلات شعرها، فاردة أصابعها نحو المطر .
أتركها تنشر أعضاءها المبتلة عبر الشوارع و الميادين .
أتركها تتخلص من أسرها.. من نشوتها.. من تاريخ أصابعها.. أتركها تمرق، ولا تتبعها.. أتركها تمر من أمام الباب مبعثرة الشعر، تنظر إلى المدخل المظلم .
تتخيل حبيباً يقف على مبعدة، يمد ذراعيه لاحتوائها.. تحت السلم؛ فتفر منه هاربة، ربما يطول قبلة أو يتركها، ربما يجعلها تمر فرحة بإفلاتها، ربما يجعلها منساقة إلى المجهول، ربما لا يكون هناك حبيبا، فقط تمر منتشية . فاردة ذراعيها .
فاردة ذراعيها، فاقدة تنورتها، ناشرة خصلات شعرها، فاردة أصابعها نحو المطر .
هذه المرأة، المراهقة، الطفلة، التي تحتوى العالم، ولا تبال بك .
هي ابنة هذا العمر، هي ابنة الثالثة عشرة، هي التي تستدعى طفلة فى عينيها..
تنشر أصابعها للمطر مبتهجة، تحمل أنقاض العمر، تحمل رائحة الماضي، فتتخلص منه على الإسفلت، تسكبه على الأرض .
هي ابنة هذا العمر، هي ابنة الثالثة عشرة، هي التي تستدعى طفلة فى عينيها..
تنشر أصابعها للمطر مبتهجة، تحمل أنقاض العمر، تحمل رائحة الماضي، فتتخلص منه على الإسفلت، تسكبه على الأرض .