قصة / صفاء عبد المنعم
ـ نقوش ـ
تشاغلت عيناى بمتابعة النقش البارز فى اللوحة
المعلقة عالياً و طنين الأغانى المتلاحقة يأتى إلىَ من الشارع وصوت الباعة
الجائلين من آن لآخر يخرجنى من غفوتى المتشاغلة بالنظر إلى السقف ؛ كانت اللوحة
الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة فى زمن القاهرة القديمة وربما يكون تحديداً فى
العصر الفاطمى أو المملوكى .
إنى لم أحدد بعد هوية اللوحة ؛ فقط تشاغلت
بمتابعة الهدوء والسكينة والبضائع المتراصة بشكل ساذج على قارعة الطريق ؛ وقليل من
المارة يتوافدون .
وحدى أشق
طرفى الثوب إلى نصفين ؛ تنتابنى حالة من اليأس لم أعتاد عليها ولكننى رأيت ما رأيت
" طرفى الثوب تتباعدان ، تتصاعدان ، إلى أعلى أعلى ، ترفان صوب اللوحة ، صوب
الفارس ، صوب الشارع " كل ما تخيلته هو أننى أجول فى اللوحة مزهوة .
زوجان من
الأحصنة المجنحة ترتديان شقى الثوب وترفان .
آه هل أنا
متعبة إلى هذا الحد ؟
دون رغبة فى شئ أخذت أصرخ ، أصرخ خارجة من اللوحة
؛ كانت الخلفية غير الواضحة لمسجد كبير ، ومشربيات جد جميلة ، مشغولة بحنكة الصانع
الذى دقق كثيراً فى جميع التفاصيل .
الخشب يحمل رائحة الأيام فتطير سعادة لزمن سابق ؛
الأفاريز تخرج منها حكايات المارة والصانع ؛ تحكى الأفاريز تاريخاً كان يتحرك
ويتلون ويصبغ الأيام بصبغته .
مملوك فوق
جواده يمر متنزهاً بين مقتنيات اللوحة وأمامه يجرى رجلان يفسحان له الطريق ، سقطت
رأس المملوك تدحرجت تحت أقدام الجميلة خارجة من حمام قديم فبان وجهها جميلاً
صافياً ؛ حياها الفارس وتمهل ملياً وهى تلتقط اليشمك والحَبرة وتعيد وضعهما من
جديد .
الأيام
والأزقة والمرأة ورأس المملوك وتحية الفارس وبسمة الجميلة كل هذا لم يبعد صوت المارة
؛ والموسيقى الداخلية المنبعثة من المحل تمنع تأملى للوحة .
تبدلت الموسيقى بأغنية شائعة " بابا قول
لماما بح ، بابا أوبح "
دارت
عيناى المتأملة اللوحة تجاه الفارس ومددت يدى أمسك المهماز تركنى وسار عبر الأزقة .
"
هنا كانت ترتكز فتاة على حافة السور خارجة من زمنها ، من أيامها والآن تمر محملة بعطر رخيص وسنوات بعيدة "
إنها
اللحظة .. وتمر .. تاركة السور والشارع ونهداها عالقان على الحافة ومرت هى من
المحل ، والأخرى من الصورة ؛ هى من الشارع ، والأخرى من لوحة بعيدة ؛ هى من حافة
السور ، والأخرى من زمن قديم ؛ هى من الزمن الأتى ، والأخرى من العصر الفاطمى أو
المملوكى .
" إنها القاهرة القديمة "
مبانيها ، ضواحيها ، أفاريز الجامع ، خشب
المشربيات ، المملوك والفارس والفتاة ورائحة بخور المر فى يد الدرويش يثير فى
اللوحة دخانه ، طاقاته ، خرفاته ، خرقه البالية ... وتذوب اللحظات البطيئة فى
ثلجية مفرطة بين عين الواقفة المتأملة ، وعين الجميلة فى اللوحة العالية المعلقة
من زمن بعيد بعيد وقديم .
إنها الآن ترتبك تريد أن تحدد ملامحها بعد أن زهقت
من الفوضى والإرتحال تريد أن توضح ماهية الأشياء تريد أن تقبض على اللذة الهاربة
والمتعة الأبدية .
إنها الآن :
تقرأ مثل تلميذات المدارس ، تضع خطوطاً تحت
الكلمات والجمل المهمة المدهشة والمثيرة بين قوسين ولكن ما يجرحها هو المرأة
الجميلة الباسمة للفارس هل مازالت تتحرك ؟
تدفع اليشمك والحَبرة ؛ تبتسم تلملم طرف الثوب من
قاذورات الطريق ؛ ماذا لو قابلت هذه المرأة مرة أخرى ؟ هل لها نفس الملامح ؟
الجمال !
هل هى تبتسم ؟ أشياء أريد معرفتها أكثر من ذلك أتمنى أن أرى ما
خلف المشربيات ، أسمع صوت المغنيات منبعثاً من الحريم ورائحة البخور المر المتطاير
عبر اللوحة وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعه كيف رأها الفارس عندما رأته ؟
رغم أنى محملة بأنثى خارج اللوحة وموسيقى خارج السياق
وصوت الباعة الجائلين إلا أننى أبحث عنها بشكل أوسع ومفرطاً فى الدهشة ، نعم إنى
أبحث !
وسأظل محملة بعبء البحث والمعرفة وإلحاح الذاكرة
وتاريخ اللوحة .
ولكن كيف أرى إنسانية البسمة ؟ والوقفة وإرتباك
اللحظة ؟ وإلتباس البوح ؟
وقفت مشدودة فى حوار مفعم بالقلق .
" يا
صاحبة الطقوس "
والمفجر الأساسى للمشهد ، أذكر لطمة أمى على وجهى
لحظة قررنا ( أنا وزوجى ) أن نعيش الليلة الأولى ( عادى ) دون إشتغال .
"يا سيدة الطقوس "
إفتحى
ذاتك ، اللوحة ملء عينيي ، ما هى رغبات اللحظة ؟
( الفارس
) كان لطيفاً متفهماً حاول تدريب رغباته دون ترك لحظة العشق البدائى دون إشتعال ؟!
" يا سيدة الزمن البعيد "
إنى أصغى
إليك فتحدثى وأذكرى لى مبعث ألمك وسعادتك ؟
أخذت أغلق سوستة الجاكت وأستعد للخروج ، إسترخيت
على الكرسى وأرحت ظهرى ، مددت يدى متنهدة .
ـ ياه
الدنيا برد قوى .
على باب
المقهى فردت أصابع يدى اليسرى فى تحية حارة للجالسين ، الصمت يحيط بالمارة ،
باللوحة ، بالجالسين فى هدوء المكان ، كان لى أكثر من عام لم أجئ إلى هنا ، كم كان
مريحاً بالنسبة لى الخروج ببطء من الماضى والإتيان لأكل سندوتشات ( الفول والطعمية
) والمشى فى شوارع القاهرة .
" إنها الدهشة الأولى "
أشير كطفلة لكل ماهو جديد ومثير ، ألتقط سريعاً
كلمات المارة ، حوارتهم ، ضحكاتهم ، طريقة ملابسهم ، وسيرتهم فى الطريق ؛ إرتديت
الجينز والتى شيرت وأتيت كم كان مريحاً بالنسبة لى الخروج من اللوحة القديمة
ومشاهدة النيل والشمس الغاربة كل ذلك يثير فىَ أحداث الماضى وحواديته .
تحدثت فى
همس : أريد صورة كبيرة لى الآن كى أعلقها عالياً .
ياريت
...
صورة كبيرة للقاهرة الآن ، دون فارس ، دون مملوك ،
دون الجميلة واليشمك والحَبرة ، دون الدرويش ومبخرته ورائحة بخور المر ودخانه ،
دون أن أكون بداخلها .
تنهدت
بطفولية كيف ؟
طرت أجرى ، أمرح ، واليشمك يتطاير عبر الصورة من
الجميلة الباسمة ..
أحب الشمس والفوضى ، أريد الدخول من الباب الكبير
( باب النصر ) أخرج علبة سجائرى وأشعل واحدة .