السبت، 21 فبراير 2015

قصة قصيرة

قصة / صفاء عبد المنعم
                                                                                                  ـ  نقوش ـ

تشاغلت عيناى بمتابعة النقش البارز فى اللوحة المعلقة عالياً و طنين الأغانى المتلاحقة يأتى إلىَ من الشارع وصوت الباعة الجائلين من آن لآخر يخرجنى من غفوتى المتشاغلة بالنظر إلى السقف ؛ كانت اللوحة الكبيرة عبارة عن سوق كبير للعامة فى زمن القاهرة القديمة وربما يكون تحديداً فى العصر الفاطمى أو المملوكى .
  إنى لم أحدد بعد هوية اللوحة ؛ فقط تشاغلت بمتابعة الهدوء والسكينة والبضائع المتراصة بشكل ساذج على قارعة الطريق ؛ وقليل من المارة يتوافدون .
 وحدى أشق طرفى الثوب إلى نصفين ؛ تنتابنى حالة من اليأس لم أعتاد عليها ولكننى رأيت ما رأيت " طرفى الثوب تتباعدان ، تتصاعدان ، إلى أعلى أعلى ، ترفان صوب اللوحة ، صوب الفارس ، صوب الشارع " كل ما تخيلته هو أننى أجول فى اللوحة مزهوة .
 زوجان من الأحصنة المجنحة ترتديان شقى الثوب وترفان .
 آه هل أنا متعبة إلى هذا الحد ؟
دون رغبة فى شئ أخذت أصرخ ، أصرخ خارجة من اللوحة ؛ كانت الخلفية غير الواضحة لمسجد كبير ، ومشربيات جد جميلة ، مشغولة بحنكة الصانع الذى دقق كثيراً فى جميع التفاصيل .
الخشب يحمل رائحة الأيام فتطير سعادة لزمن سابق ؛ الأفاريز تخرج منها حكايات المارة والصانع ؛ تحكى الأفاريز تاريخاً كان يتحرك ويتلون ويصبغ الأيام بصبغته .
 مملوك فوق جواده يمر متنزهاً بين مقتنيات اللوحة وأمامه يجرى رجلان يفسحان له الطريق ، سقطت رأس المملوك تدحرجت تحت أقدام الجميلة خارجة من حمام قديم فبان وجهها جميلاً صافياً ؛ حياها الفارس وتمهل ملياً وهى تلتقط اليشمك والحَبرة وتعيد وضعهما من جديد .
 الأيام والأزقة والمرأة ورأس المملوك وتحية الفارس وبسمة الجميلة كل هذا لم يبعد صوت المارة ؛ والموسيقى الداخلية المنبعثة من المحل تمنع تأملى للوحة .
تبدلت الموسيقى بأغنية شائعة " بابا قول لماما بح ، بابا أوبح "
 دارت عيناى المتأملة اللوحة تجاه الفارس ومددت يدى أمسك المهماز تركنى وسار عبر الأزقة .
 " هنا كانت ترتكز فتاة على حافة السور خارجة من زمنها ، من أيامها  والآن تمر محملة بعطر رخيص وسنوات بعيدة "   
  إنها اللحظة .. وتمر .. تاركة السور والشارع ونهداها عالقان على الحافة ومرت هى من المحل ، والأخرى من الصورة ؛ هى من الشارع ، والأخرى من لوحة بعيدة ؛ هى من حافة السور ، والأخرى من زمن قديم ؛ هى من الزمن الأتى ، والأخرى من العصر الفاطمى أو المملوكى .  
  " إنها القاهرة القديمة " 
مبانيها ، ضواحيها ، أفاريز الجامع ، خشب المشربيات ، المملوك والفارس والفتاة ورائحة بخور المر فى يد الدرويش يثير فى اللوحة دخانه ، طاقاته ، خرفاته ، خرقه البالية ... وتذوب اللحظات البطيئة فى ثلجية مفرطة بين عين الواقفة المتأملة ، وعين الجميلة فى اللوحة العالية المعلقة من زمن بعيد بعيد وقديم .
إنها الآن ترتبك تريد أن تحدد ملامحها بعد أن زهقت من الفوضى والإرتحال تريد أن توضح ماهية الأشياء تريد أن تقبض على اللذة الهاربة والمتعة الأبدية .
إنها الآن :
تقرأ مثل تلميذات المدارس ، تضع خطوطاً تحت الكلمات والجمل المهمة المدهشة والمثيرة بين قوسين ولكن ما يجرحها هو المرأة الجميلة الباسمة للفارس هل مازالت تتحرك ؟
تدفع اليشمك والحَبرة ؛ تبتسم تلملم طرف الثوب من قاذورات الطريق ؛ ماذا لو قابلت هذه المرأة مرة أخرى ؟ هل لها نفس الملامح ؟
الجمال !
هل هى تبتسم ؟  أشياء أريد معرفتها أكثر من ذلك أتمنى أن أرى ما خلف المشربيات ، أسمع صوت المغنيات منبعثاً من الحريم ورائحة البخور المر المتطاير عبر اللوحة وتطويح الدرويش لمبخرته بذراعه كيف رأها الفارس عندما رأته ؟
رغم أنى محملة بأنثى خارج اللوحة وموسيقى خارج السياق وصوت الباعة الجائلين إلا أننى أبحث عنها بشكل أوسع ومفرطاً فى الدهشة ، نعم إنى أبحث !
وسأظل محملة بعبء البحث والمعرفة وإلحاح الذاكرة وتاريخ اللوحة .
ولكن كيف أرى إنسانية البسمة ؟ والوقفة وإرتباك اللحظة ؟ وإلتباس البوح ؟
وقفت مشدودة فى حوار مفعم بالقلق .
 " يا صاحبة الطقوس "
والمفجر الأساسى للمشهد ، أذكر لطمة أمى على وجهى لحظة قررنا ( أنا وزوجى ) أن نعيش الليلة الأولى ( عادى ) دون إشتغال .
"يا سيدة الطقوس "
  إفتحى ذاتك ، اللوحة ملء عينيي ، ما هى رغبات اللحظة ؟
 ( الفارس ) كان لطيفاً متفهماً حاول تدريب رغباته دون ترك لحظة العشق البدائى دون إشتعال ؟!
" يا سيدة الزمن البعيد "
 إنى أصغى إليك فتحدثى وأذكرى لى مبعث ألمك وسعادتك ؟
أخذت أغلق سوستة الجاكت وأستعد للخروج ، إسترخيت على الكرسى وأرحت ظهرى ، مددت يدى متنهدة   .
ـ  ياه الدنيا برد قوى  .
 على باب المقهى فردت أصابع يدى اليسرى فى تحية حارة للجالسين ، الصمت يحيط بالمارة ، باللوحة ، بالجالسين فى هدوء المكان ، كان لى أكثر من عام لم أجئ إلى هنا ، كم كان مريحاً بالنسبة لى الخروج ببطء من الماضى والإتيان لأكل سندوتشات ( الفول والطعمية ) والمشى فى شوارع القاهرة .

" إنها الدهشة الأولى "
أشير كطفلة لكل ماهو جديد ومثير ، ألتقط سريعاً كلمات المارة ، حوارتهم ، ضحكاتهم ، طريقة ملابسهم ، وسيرتهم فى الطريق ؛ إرتديت الجينز والتى شيرت وأتيت كم كان مريحاً بالنسبة لى الخروج من اللوحة القديمة ومشاهدة النيل والشمس الغاربة كل ذلك يثير فىَ أحداث الماضى وحواديته .
 تحدثت فى همس : أريد صورة كبيرة لى الآن كى أعلقها عالياً  .
 ياريت ... 
صورة كبيرة للقاهرة الآن ، دون فارس ، دون مملوك ، دون الجميلة واليشمك والحَبرة ، دون الدرويش ومبخرته ورائحة بخور المر ودخانه ، دون أن أكون بداخلها  .
 تنهدت بطفولية كيف ؟
طرت أجرى ، أمرح ، واليشمك يتطاير عبر الصورة من الجميلة الباسمة ..
أحب الشمس والفوضى ، أريد الدخول من الباب الكبير ( باب النصر ) أخرج علبة سجائرى وأشعل واحدة .


قصة قصيرة (عزيزي أصلان)

  عزيزى أصلان     الآن وللمرة الثانية انتهى من وردية ليل . لم يكن يشغل بالى سوى العم بيومى وهو يرفع وجهه ( أول دور مش تانى دور ) جملة ...

المتابعون