إلى نعمات البحيرى
فى عام 1983 قرأت قصة قصيرة فى مجلة الدوحة ، وأعجبت بها كثيرا لأننى رأيت
أنها فى ذلك الوقت تعبر عن حال كثير من الفتيات فى هذا السن تحديدا ( سن الزواج) ،
وعرفت أن القصة لكاتبة اسمها نعمات البحيرى ، وظل ذهنى معلقا بهذا الأسم وأبحث عنه
كثيرا فى الجرائد والمجلات ، وفى مرة من المرات كنت ذاهبة إلى مجلة إبداع أنا وصديق
لى وفى الطريق أشار نحو فتاة جميلة رشيقة تسير امامنا ، وقال : لى دى الكاتبة نعمات البحيرى ، يومها خجلت أن
أوقفها فى الطريق واسلم عليها ، ولكننى ظلتت متتبعة خطواتها إلى أن أختفت بعيدا عن
عينىّ ، وظلت ذاكرتى تحفظ خطواتها ، وكتاباتها ، إلى أن أصبحت كاتبة ولى كتابين فى
السوق ، ومازلت أشترى أعمالها الأدبية مثل (ضلع أعوج والعاشقون ..) وغيرها من الإبداعات الكثيرة ،
وعندما صدرت لها مجموعة أرتحالات اللؤلؤء عن الهيئة العامة لقصور الثقافة ، عرفت
لحظتها أننى أمام كاتبة تبحث عن كل ماهو جديد ومغاير ومختلف فى الكتابة ، ولكنها
مازالت تكتب عن ذاتها المحاصرة بألاف العيون .
فى عام 1999 وجدتها أمامى فجأة بوجهها الذى
ظلتت أذكره منذ رايتها فى الطريق ، ترتدى بلوزة سوداء وجيب أسود ، وتقول لى بحب :
البقية فى حياتك .
ومن يومها
صرنا صديقتين ،إلى أن توفيت فى عام 2009 .
وقبل وفاتها كتبت عنها دراسة مطولة ( شاى
القمر ياقمر) نشرت فى مجلة الثقافة
الجديدة على إثر مجموعة صدرت لها باسم (شاى القمر) لقد فتنت بكتابات نعمات البحيرى
فتنتة قوية ، كما فتنت بشخصيتها وتحديها للواقع بشقيه الذكورى المتسلط ، والعمل
المؤسسى المرهق ، وزاد أعجابى برواية ( أشجار قليلة عند المنحنى ) والتى كانت تدور
عن وجودها فى العراق والزواج من شاعر عراقى والإقامة هناك ، والصراع القوى على
جميع الجبهات ( الحب والسياسة والواقع الإجتماعى والثقافى..الخ) وكان ذلك فى عهد الرئيس صدام حسين والذى كانت
تجد صورته فى كل مكان حتى فى دورات المياة ، وحزب البعث وأفكاره ، والبرص المتربص
بها دائما والذى تراه أينما ذهبت ، حتى فى أحلامها .
ثم توطدت العلاقة بينى وبينها كثيرا عندما
سكنت فى مدينة 6 أكتوبر فكان الطريق من ميدان لبنان عبر المحور إلى 6 أكتوبر سهلا
وقصيرا ، فتقريبا كنت أرها أسبوعيا وخصوصا بعد إصابتها بالمرض الذى توفيت على إثره
تمتاز الكاتبة نعمات البحيرى بقوة محارب ، وصبر زاهد ، ونقاء طفولى ، كنت أحب
النظر إلى عينيها عندما تكون منتشية أو كتبت نصا جديدا ، كانت عيناها تشبه عين
القطط ذات لمعة شديدة ووهج جميل .. كنا نجلس أنا وهى فى شرفة شقتها والمطلة على
البراح الواسع وغروب الشمس أمامنا ، فكانت تحكى وتضحك ، تحكى وتضحك ، كانت حكاءة
جميلة ، لقد تغلبت نعمات البحيرى على مرضها بالضحك وحب الأصدقاء والكتابة ، ولكن
المرض العين كان ينهش جسدها نهشا ، وقليلا ماكانت تتحدث عن ألمها ومعانتها الشديدة
، وقد كتبت عن تجربة المرض كتاب ( يوميات امرأة مشعة ) يالله ، كيف ترضى لعبادك كل
هذا الألم وتعطيهم كل هذه السعادة ، ثم تنتزعها منهم بسهولة ويسر !!!!!!!!!!!
بعد وفاتها ،ظللت لفترة طويلة لا أصدق أن
رحلت ، وأن جرس التليفون لن يدق ، ولن اسمع صوتها وضحكتها ثانية ، ظلت روحها
تطاردنى وتحثنى على الكتابة إلى أن كتبت رواية ( بيت فنانة ) ونعمات إحدى الشخصيات
داخلها ، ثم أهديتها لها ..الأهداء إلى روح الكاتبة / نعمات البحيرى .
"هناك كثيرون ساروا مع الرب مرحلة ،
ولكنهم لم يكملوا الطريق ، ولم يقدروا أن يحملوا صليبهم حتى النهاية ، وخانوا
عهودهم مع الرب ، إذ عادوا للخطيئة مرة أخرى". – الإنجيل –
" ها أنا أريد النوم !
وهى
تريد الحكى!
كانت حكاءة بارعة ، ولها أسلوب شيق ولذيذ مثل
كتاباتها ، وكانت عيناها تشع بهجة وحياة ، بهما لمعة تشبه لمعة عيون القطط تضىء
الليل بالسعادة والفرح .
امرأة تقبل على الحياة بحب وبشراهة إقبال
الموت على الطفال الرضع ، الموت يلتهم الأجساد النابضة بالحياة فيخرسها ، كان
بيتها يشع بهجة وحب وألفة ومقدرة على فتح ذراعيها للجميع .
وأخذت تضحك وهى تعد لى مكانا مريحا للنوم ،
وتسمعنى شريط أم كلثوم ( أنت عمرى) وتقول
:
أنا هاعمل جمعية للأرامل والمطلقات .
ثم ضحكت بعد ذلك .
ولا أقولك ، أعمل جمعية للكاتبات خارج الدعم
.
ثم صمتت برقة وقالت :
هاعمل جمعية البطة السودة !!
وضحكنا .. ضحكنا حتى طلوع الفجر ."
كانت نعمات البحيرى بحسها الفطرى وذكائها
اللماح ترى أننا كاتبات خارج الدعم لا توجد مؤسسة تتبنى كتابتنا ولا تنشر أو تروج
لنا وكنا تقدمنا للتفرغ ولم نحصل عليه إلا مرة واحدة ، وبعدها من صمت وترك الفكرة
ومن واصل ومن أخذ بعد إلحاح شديد ، كنا كاتبات مهمشات لا نأخذ جوائز ، وترجمة ولا
سفر ولا ندعى للمؤتمرات إلا نادرا .
لهذا نحن غير مبشرات بجنة المجلس الأعلى
للثقافة ولا المرسسات التى على شاكلته ، ونعمات البحيرى حصلت على الجائزة بعد
إلحاح شديد على إثر مرضها .. رحمك الله ياصديقتى الجميلة ، كم أفتقدك الآن كثيرا .
صفاء عبد المنعم
يناير 2015