دفعنى ودخل ..
ورايتنى وجها لوجه أمام بيت قديم , عشت طويلا أبتعد عنه كلما مررت , وكلما طرأت مهمة تستدعى أن أهبط الى مكان طفولتى ..
أهرب ..
وهكذا دفعنى الولد ..
وقفت انظر . لقد شاخت ملامحه , تهدلت , صدأ بمرور السنين , صار وماديا هشا , لونا غريبا علىّ .. كأنى أراه للمرة الأولى , سرت فى الشارع , حاولت المراوغة و حاولت الهرب . ولكنه دفعنى .
ووجدتنى مندفعة بقوة لا أرادية أصعد السلم , أتأمله , درجاته كالحة , عندما تركته منذ أكثر من عشرين عاما , كان ذا طابقين متواضعين , ومدخلا كبيرا واسعا .
سمعت صوت العيال تصوصو فى الأمسيات البعيدة , وأنا أقف على الحجر الكبير , ألعب مع صاحباتى , لعبة الأستغماية , ونختفى ونهرب .
"خبى ديلك ياعصفور بين القمح وبين الفول "
نتوارى خلف الأبواب , وتحت البلكونات الواطئة .
كان شارعنا طيبا , طيبة العجائز فى الحكايات القديمة , وأمى تفتح باب خزانتها وتخرج الحكايات ( لول بنت الغول , الضبع , ست الحسن والجمال ) أمى تحكى ونضحك , وتخيط لنا قمصانا شتوية , نرتديها ونتدفأ بها .
كانت تصنع لى يوما قميصا أبيض للنوم , قالت : أنه كان قميش نومها ليلة الدخلة , ولم ترتده بعدها لأنها تزوجت وسط عيلة ( خدى ياوزة .. وقولى لى ايه رأيك ) لأمى بسمة ودودة طيبة , تفتح بها قلوبنا الصغيرة , فنحكى لها اسرارنا البسيطة مثل طيبتها , نحكى عن أحمد والبنت سعاد , نحكى عن عمى صابر واخذه بقايا الأكل , نحكى عن تحية العلم , وعن أستاذ الألعاب والحساب وتلاميذ الفصل .
وتدخل أمى ضمن حكاياتنا وتبتسم , تعلمنا كيف نرد الأقلام الصغيرة , وماسرقناه من طباشير الى مدرسة الفصل .
تحكى لنا عن ( الجنة والنار ) والسرقة والعذاب وضمائرنا الصغيرة تخزن نصائحها وضحكاتها . كنا نتمرغ أمامها على الأرض مهلين ( هيه هيه ) فتخرج من ثديها لبنا طازجا , وتطعمنا , كنا نشبع ونحمد الله , وتهش فى وجوهنا ( تصبحوا على خير ياحبيبى ) ننام مطمئنين هادئين , أرضينا ضمائرنا الصغيرة .
وتركنا على عتبات قلب أمى أوزارنا الصغيرة .
وهى تستغفر لنا سعيدة ( أستغفر الله العظيم ) وتدعو لنا بالنجاح والعافية .
أمى القروية الطيبة , صاحبة خمسة أطفال ترضعهم لبنا طازجا كل يوم من ثديها , وتدعو لهم بطول العمر والعافية , تسهر الليل تواصل حكيها , تروى عن أيام طفولتها وتضحك :" والله العيال فكرونى بزمان " تزم شفتيها وتكمل خياطة الملابس , ومن آن الى آخر تبتسم :" يخرب شيطانكم يادى العيال , فكرتونى بزمان " تقطع طرف الخيط بأسنانها , ترشق الأبرة فى شعرها , تقوم تصلح ما أفسدناه
و تغسل الملابس , تكنس الحجرة , تجهز العشاء .
- شوفى ياوزة اللى فات كوم واللى جاى كوم تانى خالص .
يدخل أبى هادئا و متباطئا
- مساء الخير ياوزة , لسه بتذاكرى ؟
تضع أمى الطعام يسألها فى هدوء
العيال ناموا ؟
- ناموا ياخويا من بدرى
- اتعشوا
- اتعشوا
يأكل . تطفىء النور , تنام هادئة مطمئنة , تغمض عينيها .
- الحمد لله .
( نشرت فى مجلة نص الدنيا نوفمبر 2000 )
ورايتنى وجها لوجه أمام بيت قديم , عشت طويلا أبتعد عنه كلما مررت , وكلما طرأت مهمة تستدعى أن أهبط الى مكان طفولتى ..
أهرب ..
وهكذا دفعنى الولد ..
وقفت انظر . لقد شاخت ملامحه , تهدلت , صدأ بمرور السنين , صار وماديا هشا , لونا غريبا علىّ .. كأنى أراه للمرة الأولى , سرت فى الشارع , حاولت المراوغة و حاولت الهرب . ولكنه دفعنى .
ووجدتنى مندفعة بقوة لا أرادية أصعد السلم , أتأمله , درجاته كالحة , عندما تركته منذ أكثر من عشرين عاما , كان ذا طابقين متواضعين , ومدخلا كبيرا واسعا .
سمعت صوت العيال تصوصو فى الأمسيات البعيدة , وأنا أقف على الحجر الكبير , ألعب مع صاحباتى , لعبة الأستغماية , ونختفى ونهرب .
"خبى ديلك ياعصفور بين القمح وبين الفول "
نتوارى خلف الأبواب , وتحت البلكونات الواطئة .
كان شارعنا طيبا , طيبة العجائز فى الحكايات القديمة , وأمى تفتح باب خزانتها وتخرج الحكايات ( لول بنت الغول , الضبع , ست الحسن والجمال ) أمى تحكى ونضحك , وتخيط لنا قمصانا شتوية , نرتديها ونتدفأ بها .
كانت تصنع لى يوما قميصا أبيض للنوم , قالت : أنه كان قميش نومها ليلة الدخلة , ولم ترتده بعدها لأنها تزوجت وسط عيلة ( خدى ياوزة .. وقولى لى ايه رأيك ) لأمى بسمة ودودة طيبة , تفتح بها قلوبنا الصغيرة , فنحكى لها اسرارنا البسيطة مثل طيبتها , نحكى عن أحمد والبنت سعاد , نحكى عن عمى صابر واخذه بقايا الأكل , نحكى عن تحية العلم , وعن أستاذ الألعاب والحساب وتلاميذ الفصل .
وتدخل أمى ضمن حكاياتنا وتبتسم , تعلمنا كيف نرد الأقلام الصغيرة , وماسرقناه من طباشير الى مدرسة الفصل .
تحكى لنا عن ( الجنة والنار ) والسرقة والعذاب وضمائرنا الصغيرة تخزن نصائحها وضحكاتها . كنا نتمرغ أمامها على الأرض مهلين ( هيه هيه ) فتخرج من ثديها لبنا طازجا , وتطعمنا , كنا نشبع ونحمد الله , وتهش فى وجوهنا ( تصبحوا على خير ياحبيبى ) ننام مطمئنين هادئين , أرضينا ضمائرنا الصغيرة .
وتركنا على عتبات قلب أمى أوزارنا الصغيرة .
وهى تستغفر لنا سعيدة ( أستغفر الله العظيم ) وتدعو لنا بالنجاح والعافية .
أمى القروية الطيبة , صاحبة خمسة أطفال ترضعهم لبنا طازجا كل يوم من ثديها , وتدعو لهم بطول العمر والعافية , تسهر الليل تواصل حكيها , تروى عن أيام طفولتها وتضحك :" والله العيال فكرونى بزمان " تزم شفتيها وتكمل خياطة الملابس , ومن آن الى آخر تبتسم :" يخرب شيطانكم يادى العيال , فكرتونى بزمان " تقطع طرف الخيط بأسنانها , ترشق الأبرة فى شعرها , تقوم تصلح ما أفسدناه
و تغسل الملابس , تكنس الحجرة , تجهز العشاء .
- شوفى ياوزة اللى فات كوم واللى جاى كوم تانى خالص .
يدخل أبى هادئا و متباطئا
- مساء الخير ياوزة , لسه بتذاكرى ؟
تضع أمى الطعام يسألها فى هدوء
العيال ناموا ؟
- ناموا ياخويا من بدرى
- اتعشوا
- اتعشوا
يأكل . تطفىء النور , تنام هادئة مطمئنة , تغمض عينيها .
- الحمد لله .
( نشرت فى مجلة نص الدنيا نوفمبر 2000 )